رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

من يختار تماثيل الميادين فى مصر؟


13-9-2025 | 11:53

.

طباعة
بقلـم: أمانى عبدالحميد

على مقربة من الهرم الأكبر، وعلى مشارف القاهرة التى تتسع لتحتضن التاريخ والمستقبل معا، يطل المتحف المصرى الكبير بواجهاته الزجاجية وحداثته العمرانية. لكن الزائر، وقبل أن يصل إلى داخل البهو العظيم حيث يقف الملك رمسيس الثانى كأيقونة للهيبة الملكية فى أبهى صورها الواقعية، يجد نفسه فى مواجهة تمثال آخر، يلوّح من بعيد، يحاول أن يبدو كأنه حارس للطريق. إنه العمل النحتى الذى قدمه الفنان الدكتور ضياء عوض، والذى سرعان ما أثار جدلا واسعا بين النقاد والجمهور، لجرأته فى الشكل والفكرة. التمثال العملاق - 27 مترا يحاول أن يطلق بيانا بصريا يختصر رحلة النحت المصرى عبر العصور، من تماثيل ملوك مصر القديمة إلى أعمال الميادين الوطنية، وصولا إلى تجارب التجريد الحداثية لفنون النحت خلال العقود الأخيرة.

 

على الرغم من أن مصر هى البلد التى آمنت منذ آلاف السنين بعقيدة راسخة بأن فن النحت هو أبلغ لغة يمكن للمصرى أن يسجل بها ويوثق حضارته عبر مختلف العصور، فإنها نفس البلد التى تعيش أجواء الجدل والسجال دوما حول فنون النحت. فلا أحد يعرف لماذا تثير التماثيل شهية المجتمع المصرى للنقاش الذى يمتد إلى أبعاد قد تكون متطرفة، إما التهليل الجام أو النفى التام، وإما التصديق غير القابل للنقد أو الرفض القاطع لكل ما هو مختلف عن المعتاد. على الرغم من أن جوهر الفن هو التجديد والتجريب وإعادة البناء بأفكار مغايرة ومبتكرة، بل إن كسر الإبداع هو إبداع فى حد ذاته، إلا أن التساؤلات تظل مطروحة حول أسس وأسباب اختيار تماثيل الميادين فى مصر.

الحكاية بدأت عندما استيقظ المصريون على لقطات فيديو توثق عملية تركيب تمثال مهيب عند مدخل القاهرة فى منتصف الطريق الصحراوى المؤدى إلى المتحف المصرى الكبير، تلك اللقطات التى جاءت بتعليق أنها ضمن الاستعدادات النهائية لافتتاح المتحف الأيقونى الذى طال انتظاره، الأمر الذى أثار حفيظة الكثيرين على اعتبار أن تصميم التمثال، وموقعه جاء دون تمهيد أو توضيح لما سيكون عليه الشكل النهائى للمنطقة المحيطة بالمتحف المصرى الكبير، خاصة أن التمثال هو أول ما يراه العابرون من بعيد، حيث يقف كعلامة فارقة متصدرا المشهد البصرى للطريق المؤدى إلى المتحف الذى ينتظر العالم افتتاحه بشكل رسمى فى الأول من شهر نوفمبر المقبل. ونظرا لوقوفه وسط منطقة جليلة تمثل قمة حضارة الدولة القديمة، فقد أثار حالة جدل فنى ونقاش بين المصريين دون أن يقدم إجابات شافية جاهزة، بل زرع فى نفوس المتلقين، وكل من رآه، مشاعر قوية بين صرامة الهندسة وحدود الأسطورة التى يقف عند عتباتها. كثيرون أشادوا به ووقفوا عند جمالياته، وآخرون اعترضوا على الحلول التى قدمها، إلا أن الفنان الدكتور ضياء عوض، أستاذ فن النحت بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا، وعمله الفنى، نجحا بلا شك، فى إثارة التساؤل وتحفيز العين على النظر، وهى الوظيفة الأسمى لأى عمل فنى فى فضاء عام.

التمثال الذى يبدو، كأنه حارس رمزى، يعيد إلى الأذهان فكرة التماثيل الضخمة التى كانت تزين مداخل المعابد المصرية القديمة دون أن يستنسخ الماضي. يحاول قراءته بمنطق معاصر، بلغة هندسية صارمة تنتمى إلى مدارس الفن الحديث أكثر من القوالب التقليدية للنحت. لكن لا يمكن النظر إليه باعتباره قطعة فنية معزولة، بل بوصفه جزءا من خطاب بصرى متكامل يرتبط بالمتحف المصرى الكبير، المشروع الثقافى الأضخم فى القرن الحادى والعشرين. لذا وجب النظر إليه فى سياق تاريخ النحت المصرى الحديث والمعاصر، ومقارنته بتجارب رواد وأجيال متعاقبة، من محمود مختار وآدم حنين وأحمد عبد الوهاب ومصطفى نجيب وعبد الهادى الوشاحى وغيرهم من جيل عمالقة النحت الحديث، حتى أبناء سمبوزيوم أسوان لفنون النحت على الجرانيت، وجيل الشباب الذى بات حاضرا بقوة وقادرا على تقديم رؤى تنتمى لمختلف المدارس الفنية النحتية.

العمل المهيب يصل ارتفاعه إلى 27 مترا تقريبا، جاء بتصميم هندسى متدرج بزوايا حادة، الأمر الذى أثار تساؤلات جمالية وثقافية تتجاوز حدود الشكل إلى عمق الفكرة والوظيفة. صحيح أن العمل يستلهم ملامحه من روح الفن المصرى القديم، خاصة فى هيبة الملامح الفرعونية المقتضبة، لكنه لا يكرر النموذج التقليدي، بل على العكس، يذهب نحو تفكيك الكتلة إلى أشكال هندسية متراكبة إلى مستويات وزوايا، أعاد صياغة القديم بروح أقرب إلى المدرسة التكعيبية أو معالجة معمارية للنحت. الوجه المجرّد، الأكتاف المثلثة، الخطوط الحادة، كلها عناصر تشير إلى تفكيك الهيبة القديمة وإعادة تركيبها فى صورة جديدة، كما اهتم فى تصميمه باللعب بالضوء؛ إذ ترك الفنان مساحات داخلية تتحول عند الإضاءة الليلية إلى نوافذ مضيئة، وتجعل التمثال كأنه كيان نابض بالحياة، يتغير مع حركة الشمس والظل، بحيث لا يكون مجرد كتلة صماء، لكنه جسد يتنفس.

مما دفع كل مَن يرى التمثال ويتأمله، يتساءل: هل بالفعل نجح العمل الفنى فى تجسيد عظمة الماضى وقام بمزجها بلغة الفن الحديث، وهل جرأة «عوض» فى كسر النمط التقليدى للتماثيل الضخمة، وابتعاده عن المحاكاة المباشرة لملامح المصرية القديمة هى جرأة محمودة؟، خاصة أن البعض يعتقد أن حدة الأشكال الهندسية قد ساهمت فى إضعاف التواصل البصرى المباشر مع الجمهور العام، الذى اعتاد صورة أكثر نعومة وواقعية للآثار المصرية.

ولعل أول ما يحضر إلى الذهن عند مشاهدة تمثال «عوض» الذى لا يحمل اسما أو عنوانا، هما تمثالا «ممنون» بالأقصر، اللذان يقفان منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام كحارسين لمعبد الملك «أمنحتب الثالث»، ويمثلان رسالة بصرية للرهبة والهيبة. لم يكن الهدف منهما إظهار التفاصيل الدقيقة للجسد الملكى بقدر ما كانا إعلانا قويا للسلطة. وعبر الزمن تحول التمثالان إلى أسطورة، حيث كانا لا يُجسدان فقط صورة الملك، بل يمثلان حضوره الأبدى فى وعى الناس. أما تمثال «عوض» فقد قدم «ممنون معاصرا» لا يعتمد على صورة الجسد، بل على كتلة هندسية صارمة.

كما أن تمثال الملك رمسيس الثانى يقف بكل وضوح بملامح الملكية وتفاصيل جسده المفتولة عند عتبات البهو العظيم. فى حين يقف تمثال «عوض» على قارعة الطريق لتجسيد مختلف للهيبة، ليست واقعية ولا تصويرية، بل تجريدية رمزية، تختصر الحضور فى كتل وزوايا، لتكشف لنا عن رؤية ثنائية متعمدة، الماضى بكل ثقله، والحاضر بكل جرأته.

وتلك تجربة نحتية غير مألوفة فى الفراغ العام المصري. «عوض» اختار أن يحرر الجسد الفرعونى من جلاله الكلاسيكى الناعم، ليعيد إنتاجه بصرامة هندسية، تتناوب فيها الأوجه والزوايا الحادة فى بناء أشبه بالكتل البلورية، حيث ينهض الفرعون المعاصر بملامح وجهه، لحية الملك، ووقفة الجسد العمودية، كلها إشارات تحيلنا مباشرة إلى رمزية القوة والسيادة فى مصر القديمة، لكن طريقة التشكيل لم تعد ناعمة أو واقعية، كل تفصيلة مرسومة عبر سطح حاد. هذا التناقض يمنحه هوية مزدوجة، روح الفرعون القديم بلغة القرن الحادى والعشرين.

وهو العمل الذى يتشابه مع أعمال فنية عالمية من حيث الروح التجريدية التكعيبية، كتمثال بيكاسو الذى صاغ وجها إنسانيا مجردا عبر مسطحات معدنية شاهقة، أو فى أعمال ألكسندر أرشيبنكو، الذى أعاد صياغة الجسد الإنسانى عبر تقطيعات هندسية، أو فى تماثيل مكسيكو سيتي، التى تمزج بين إرث حضارة الأزتك والتجريد التكعيبي. غير أن التمثال المصرى يتميز بمفرداته، فهو لا يكتفى بالتجريد، بل يستدعى مباشرة رمزا قوميا متجذرا فى المخيلة المصرية. فصورة الفرعون تمنحه خصوصية لا نجدها عند بيكاسو أو أرشيبنكو؛ إذ إنهما لم يرتبطا برمز وطنى بعينه.

والاتجاه شديد الحداثة الذى اتبعه «عوض» لا يزال غير مقبول وسط مجتمع النقاد وبعض الفنانين فى مصر. وهو نفس الاتجاه الحديث الذى شاع بين فنون النحت ويطلقون عليه أسلوب «البوليجون- Polygon Style» التى تعتمد على تقسيم الكتلة النحتية إلى أوجه هندسية مضلعة، عادة تكون مثلثات أو أسطحا مكسرة الزوايا. وهو ما يرفضه البعض على اعتباره فنا يعتمد على التكنولوجيا الحديثة بشكل كبير، وقد يكون نتاجا لفكرة الفن التجارى الذى يتم استخدامه كديكور ولا يملك الفكر الفلسفي، وقد يكون مستوحى من برامج التصميم ثلاثية الأبعاد، كنوع من تأثيرات التكنولوجيا الحديثة التى قد تمنح العمل الفنى قوة بصرية أكثر حداثة.

الأمر يختلف مع رحلة فن النحت المصرى التى عبرت بتحولات كبرى تحمل كل منها رؤى فلسفية وتتطور باستمرار مع تغير الزمن والظروف المجتمعية المحيطة بها، خاصة أن النحت بدأ كلغة توثيقية تقوم على تقديس السلطة فى مصر القديمة، ثم تحول مع العصور الحديثة إلى تخليد الوطن والزعيم حتى منتصف القرن العشرين، ثم اتجه إلى تمجيد الفكرة والتجريب قبل نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادى والعشرين.

لذا نجد أن التمثال العملاق قد أشعل الحديث حول تماثيل الميادين فى مصر، التى دارت فلسفتها حول تجسيد الفكر الوطني، تخليد الزعامة، والتجريد الفلسفي، حيث تبدلت وظيفة فن النحت وتطورت خلال الثلاثة قرون الأخيرة. ففى القرن التاسع عشر رأينا تمثال إبراهيم باشا وهو يمتطى حصانه ويشير بإصبعه للتدليل على القوة العسكرية من وجهة نظر مبدعه النحات الفرنسى كورديه. وفى القرن العشرين، صاغ الفنان المصرى محمود مختار، رائد فن النحت المصرى الحديث، عددا من التماثيل الشخصية؛ مثل: تمثال الزعيم سعد زغلول فى القاهرة والإسكندرية، كشعارات بصرية للتأكيد على استمرارية ثورة 1919، ثم جاء بتمثال «نهضة مصر» كى يجسد الحلم القومى فى هيئة فلاحة تنهض من كبوة وتركن على تمثال أبو الهول، للتأكيد على التواصل الحضارى المصري. وقتها كانت الأعمال النحتية أدوات تخليد واحتفاء سياسي.

ومع بدايات القرن الحادى والعشرين، خلق سمبوزيوم أسوان لفن النحت على صخور الجرانيت منذ تأسيسه فى عام 1996 فلسفة نحتية تجمع ما بين القديم والجديد بطريقة أكثر رحابة، لم يعد النحت العام مجرد نصب لزعيم، بل صار مساحة للتجريب الفني. وهو الاتجاه الذى أرسى قواعده الفنان آدم حنين الذى اشتهر بمكانته كشاعر الكتلة المؤمن ببساطة الأسطورة.

وعبر ثلاثين عاما، نجح سمبوزيوم كمختبر للتجريب النحتى على الخامات الصلبة، خاصة الجرانيت. وفيه تبلورت مدارس: الواقعية المحدثة، الرمزية، التجريدية، التكعيبية. وهناك تدرّب جيل كامل من النحاتين الشباب على التفكير فى النحت فكرة أكثر منه جسدا. ومن رحم التجربة خرجت أسماء عديدة: إيهاب بدر، عصام درويش، حسن كامل ناجى فريد، هانى فيصل، ناثان دوس، أحمد القرعلى، حسام نصار، وغيرهم، ممن قدّموا أعمالا تجريدية فى ميادين أو معارض، متأثرين بلغة الضوء والكتلة والفراغ، منها تمثال الدكتور طه حسين الذى يحتل ميدان الجلاء الذى صممه الفنان د. حسن كامل، أو تمثال المرأة التى تحمل الشمس المجنحة، وتطل بها على قناة السويس ببورسعيد للفنان د. عصام درويش.

وإن اعتبر البعض ما قدمه «عوض» امتدادا طبيعيا لهذا التيار، فهو ابن المناخ الذى يرى أن النحت العام ليس تمجيدا للماضى فقط، بل إعادة تأويله بلغة جديدة، معاصرة تعتمد على صرامة هندسية، لا رومانسية فيها ولا بساطة، بل تفكيك للكتلة وتحويلها إلى معمار بصري.

كلها تحولات تكشف كيف انتقل النحت المصرى من الحنين إلى التراث عند «محمود مختار» إلى التجريب المعاصر عند «آدم حنين» وصولًا إلى التجريد الحداثى عند «ضياء عوض». لذا من الطبيعى أن ينقسم الجمهور أمام مثل هذا العمل العملاق. فالبعض يراه شامخا ومعبرا عن عظمة المكان، والبعض يجده غريبا عن البيئة المصرية، لكن هذا الجدل نفسه هو ما منحه قيمته. فالفن الذى لا يثير نقاشًا يظل مجرد زخرفة. أما الفن الذى يدفع المتلقى إلى التساؤل والاعتراض والإعجاب، فهو فن حيّ. ويذكرنا بأن الحضارة المصرية لا تتجمد فى شكل واحد، بل تعيد إنتاج ذاتها فى كل عصر، وأن الفن المصرى سيظل قادرا على أن يثير الدهشة، كما أثارها منذ آلاف السنين.