رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

فنان الشعب.. «قوم يامصرى»


13-9-2025 | 11:49

.

طباعة
بقلم: صلاح البيلى

الموسيقار سيد درويش لحّن أول أوبريت مصرى، وتزعم المسرح الغنائى، وقاده بعد سلامة حجازى، وعرض ألحان رواية (فيروز شاه) لفرقة جورج أبيض على صديقه الشيخ على محمود، كما عرض عليه ألحان رواية (العشرة الطيبة) بعد أن عثر على روحه المصرية مع صديقيه الريحانى وبديع خيرى.

وضعته ألحانه الوطنية فى سجل الخالدين من نشيدنا القومى (بلادى بلادى) إلى (قوم يا مصرى، وسالمة يا سلامة، وأنا المصرى كريم العنصرين). وبداية شهرته يوم استمع إليه سلامة حجازى فى مقهى فى الإسكندرية فأعجب به وضمه لفرقته، وبشر به، كما فعل الشيخ سيد مع عبدالوهاب، قدمه وبشر به وأكمل عبدالوهاب بعد رحيله لحن مسرحية (كليوباترا).

قال عنه صديق عمره بديع خيرى: ألحانه مصرية صميمة، وفيها قوة رجولة، وهو الوحيد الذى أعلى من كرامة الفنان، ومزق نوته الموسيقية لما استهان به (الخواجة ميشيان)، وتزعم جماهير المصريين على عربة حنطور وهو يغنى فى ثورة 1919 وخلفه الحشود بالآلاف.

وقال بيرم التونسى: عرفته قبل أن أراه، وسعيت إليه مشيًا على الأقدام أربعة كيلومترات فى ليلة ممطرة باردة لأسمعه يغنى فى فرح حتى الفجر، وأوانى فى بيته عامين مختفيًا عن العيون فوضعت خلالهما أزجال مسرحية (شهرزاد) التى لحنها.

كما حظر معهد الموسيقى الملكى ألحانه لعقود انتقامًا منه، ومنع الملك فؤاد أسطواناته بعد رحيله، ولم ينشر نعيه إلا بعد أيام من موته، انتقامًا منه لأنه غنى لطوائف الشعب المصرى، ولم يغن للقصر، وغنى ضد المحتل الإنجليزى.

والتزم عبدالوهاب الصمت أمام حظر ألحان درويش وأغانيه فترة الملكية، وعرض به بيرم التونسى، وفى الستينيات قلل من جهده، وسايره عبدالحليم، فتعرضا لحملة صحفية قاسية جدًا حتى اضطر عبدالوهاب للقول: (أنا درويشى حتى العظم)!

أما زكى طليمات فقال: سألته بعد أن جعل الجمهور يهتف ضد الإنجليز عن مشاعره فأجاب: (كأنى قتلت ألف إنجليزى يا زكى).

أما العقاد فوصفه قائلاً: سيد درويش هو إمام الملحنين ونابغة الموسيقى، وهو من أطلق طائر الغناء من سجنه، وحرره من التطريب وناسب بين الألفاظ والمعانى والألحان والحالات النفسية.

فى 15 سبتمبر سنة 1923م رحل مجدد الموسيقى الشرقية ورائدها المعاصر عن ثلاثين عامًا، وضمت الإسكندرية التى شهدت مولده فى 17 مارس سنة 1892م استقرار جثمانه فى ترابها، 102 سنة مرت على رحيل هذا النابغة الذى أحدث ثورة فى الموسيقى العربية، وفى المسرح الغنائى، امتد تأثيرها من بعده لأجيال، نقلها من التطريب إلى التعبير، ومن القصور إلى الشعب فى الشوارع والمقاهى، ومن (أمان يا للى)، إلى الغناء للسقائين والشيالين والنجارين والبنائين والعربجية، وكانت أغانيه وقود ثورة 1919، وكان يتقدم الجماهير الحاشدة ينشد أغانيه الحماسية والألوف تردد من خلفه، حاربته الملكية وحظرت ألحانه، وبعد ثورة 23 يوليو ردت مصر إليه اعتباره، وأطلقت عليه لقب (فنان الشعب)، ولليوم يتربع درويش على قمة مجد الموسيقى العربية.

وُلد سيد فى بيئة فقيرة فى (كوم الدكة) للمعلم (درويش البحر) نجار الحى، ووجهه أبوه للكتاب لحفظ القرآن ليعده ليصبح (فقيهًا أزهريًا)، وشاء القدر أن يرحل والده وهو صبى فوجد نفسه مسؤولاً عن أمه وأخته، فعمل فى مهن كثيرة منها حرفة البناء، وجذبه الغناء، فأطرب الناس فى المقاهى بصوته وعزفه، ويتزوج وعمره 16 سنة، وأنجب ولده الأكبر (محمد البحر)، وسافر للشام مع فرقة (عطالله)، وعاد قاصدا القاهرة، وقدمه الشيخ سلامة حجازى، واشترك مع جورج أبيض فى تلحين مسرحياته بداية برواية (فيروز شاه)، حتى تعرف على الثنائى (نجيب الريحانى وبديع خيرى)، فعثر على روحه وبوصلته فى الغناء التعبيرى والموسيقى الشعبية، كان ذلك سنة 1917 وخلال خمس سنوات فقط حقق سيد درويش أعظم إنجازاته الموسيقية، وفرض نفسه على الساحة كأهم موسيقى، وفى غمرة انفجار الغضب الشعبى مع ثورة المصريين بزعامة سعد زغلول سنة 1919م انفجرت ألحان درويش الوطنية، وركب الحنطور ومعه عوده وغنى وعزف ومعه الريحانى وبديع خيرى، فهو فنان الشعب، وفنه من صميم وجدان الناس، وجدد فى الموسيقى، ونقلها من البشارف التركية و(أمان ياللى)، إلى (قوم يا مصرى) و(بلادى بلادى) وألحان (السقايين والعربجية) وغيرها، وكان ذلك إيذانا بأفول الغناء فى القصور الذى برع فيه (عبده الحامولى) وزوجته (ألمظ)، إلى الغناء للناس.

وحكى بديع خيرى فى مذكراته، كيف كان الشيخ سيد بمجرد أن يقبض عربون لحن أو نوتات موسيقية إلا ويشترى لأمه وأسرته كل لوازمهم من طعام وشراب وكسوة، ويجلس تحت قدم أمه.

ويضيف: ضاقت بنا السبل يوما، ولم يكن معنا إلا أقل من عشرة قروش، فاقترحت على الشيخ سيد أن نعكف، أنا على التأليف، وهو على التلحين، ثم نذهب إلى (ميشيان) فنبيع له ما أنتجنا، وجلسنا ليلة كاملة وضعت فيها اثنى عشر دورا لحنها الشيخ سيد، وذهبنا فى الصباح إلى (ميشيان)، فابتسم ابتسامة الفاهم، وقال: سمعونى، وأسمعناه، فاختار ثمانية أدوار، بدأ يساومنا عليها، وعرض علينا عشرة جنيهات، وعندما بدأت أبذل محاولاتى لأحمل الرجل على أن يدفع لنا 15 جنيها، كان الشيخ سيد قد استبدت به ثورة غضب لكرامته وقال: (إيه ده يا خواجة؟ ثمانية أدوار تأليف وتلحين بعشرة جنيهات، هو إحنا بنبيع ترمس؟)، ورفع الرجل الثمن إلى 12 جنيها، فتنفست الصعداء، ولكن سيد زادت ثورته، فجمع النوت كلها ومزقها وألقى بها على الأرض وسحبنى من يدى بعنف، وخرجنا أشد جوعا مما خرجنا، وضاقت الدنيا فى عينى فقلت له أعاتبه: (عملت كده ليه يا شيخ سيد؟ وناكل منين؟!)، فقال لى: (اسمع يا بديع، الجوع مش عيب، إنما خدش الكرامة هو العيب، لازم نحافظ على كرامة الفن، ناكل تراب، نسف رمل، ناكل من صفايح الزبالة، لكن يجب أن تكون لنا كرامة، الدور بجنيه وربع؟ تأليف وتلحين وغناء؟ دى بلد يجوع فيها العباقرة أمثالنا؟).