رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

قراءة فى «السردية» الوطنية للتنمية الاقتصادية


12-9-2025 | 15:28

.

طباعة
بقلم: د. عبد المنعم السيد

تمر مصر بمرحلة تاريخية دقيقة تتطلب صياغة رؤية وطنية شاملة للشأن الاقتصادى، تتجاوز حدود السياسات الجزئية أو الاستجابة لمتغيرات مؤقتة، هذه الرؤية، أو ما يُعرف بـ«السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية»، ليست مجرد خطاب سياسى أو شعارات عامة، وإنما إطار استراتيجى متكامل يحدد المسار الذى ينبغى أن يسلكه الاقتصاد القومى، لتحقيق النمو المستدام، والعدالة الاجتماعية، وتمكين المواطن، وتعزيز مكانتنا الإقليمية والدولية.

 

فمنذ عام 2014، شهدت البلاد إطلاق حزمة ضخمة من المشروعات القومية والإصلاحات الاقتصادية، بدءًا من برنامج الإصلاح مع صندوق النقد الدولى عام 2016، مرورًا بمشروعات البنية التحتية العملاقة، وصولًا إلى إطلاق «رؤية مصر2030»، التى تم وضعها فى عام 2015، ولكن نظرا للأحداث الراهنة والتوترات الجيوسياسية التى عصفت بالعالم، والمنطقة العربية، وطالت بقوة الدولة المصرية، بداية من جائحة كورونا، ثم الحرب «الروسية - الأوكرانية»، والحرب فى غزة، والصراع فى ليبيا والسودان، وما يحدث من توترات عسكرية جنوب البحر الأحمر.

كل تلك العوامل والأسباب، كان لها تأثير سلبى على الاقتصاد المصرى، ومع ذلك، يظل السؤال المحورى: كيف يمكن لمصر صياغة سردية وطنية متكاملة تضع المواطن فى قلب عملية التنمية، وتحقق التوازن بين متطلبات الاستقرار المالى وضرورات النمو الإنتاجى والتشغيل؟

من جانبها، فالحكومة المصرية قامت بوضع خطة اقتصادية تنموية حتى العام 2030، من خلال السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، التى يمكن تعريفها بأنها الإطار الفكرى والاستراتيجى الذى تتبناه القاهرة، لتوجيه جهودها التنموية على المستويين المتوسط والبعيد، وفقًا لأولويات وطنية واضحة، وبما يعكس خصوصية المجتمع المصرى واحتياجاته الفعلية، وذلك من خلال إعادة هيكلة 59 هيئة اقتصادية، من أصل 63 جهة، بهدف تعظيم العائد الاقتصادى، ورفع كفاءة الأداء، وتقليل التداخل فى الاختصاصات، وترشيد الإنفاق العام، من خلال مسارات مقترحة، سواء التحويل إلى هيئات عامة، أو الدمج، أو التصفية، بما يعكس إرادة سياسية واضحة لتعزيز الكفاءة المؤسسية، وتهيئة تلك الكيانات لتصبح أكثر جذبًا للاستثمار.

والسردية ليست مجرد خطة خمسية أو مجموعة من الإصلاحات، بل رؤية متكاملة تنسج خيوط السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية فى منظومة واحدة، تربط بين الأهداف الوطنية مثل النمو والعدالة الاجتماعية والاستقلالية الاقتصادية، من أجل تهيئة بيئة الأعمال ومناخ الاستثمار، خاصة فى ظل تطبيق وثيقة سياسة ملكية الدولة، التى تحدد إطار تدخل الحكومة فى مختلف القطاعات، ويتم التطبيق من خلال 3 جهات رئيسية تلعب أدوارًا متخصصة ومترابطة، وهى وحدة الشركات المملوكة لمصر التابعة لمجلس الوزراء، التى تم تأسيسها بموجب قانون الشركات المملوكة للدولة أو التى تساهم فيها، إلى جانب الصندوق السيادى المصرى ووحدة الطروحات الحكومية.

ويتميز مفهوم السردية الوطنية بعدة خصائص، هى: الشمولية التى تشمل الاقتصاد والمجتمع والبيئة والإدارة العامة، والاستدامة التى تركز على التنمية المستدامة وليس الحلول قصيرة المدى، ثالثًا الملكية الوطنية التى تُصاغ من داخل المجتمع المصرى وفق أولوياته لا وفق وصفات خارجية، ثم المواطنة التى تجعل المواطن شريكًا فى التنمية ومستفيدًا منها.

ووفقًا للسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، فإن الصندوق السيادى المصرى يُمثل الأداة الاستثمارية للدولة لإدارة الأصول العامة وفقًا لمبادئ الكفاءة والعائد الاقتصادى، حيث يعمل على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية من خلال الشراكات طويلة الأجل، وإعادة إحياء العلامات التجارية الوطنية، وتعظيم القيمة المضافة للأصول.

ولكن، ماذا عن أهداف هذه السردية الاقتصادية؟.. فالسردية الوطنية تهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، أبرزها: تحقيق النمو الاقتصادى المستدام والشامل ورفع معدلات النمو بما يخلق قيمة مضافة حقيقية، مع ضمان توزيع عوائد النمو بشكل عادل.. كذلك تستهدف تعزيز العدالة الاجتماعية، أى تقليل الفجوات بين الطبقات والمناطق، وضمان وصول الدعم والخدمات إلى الفئات غير القادرة.. ولعل من أهدافها أيضًا زيادة معدلات التشغيل وخلق فرص عمل لائقة للشباب والنساء من خلال تحفيز الاستثمار والإنتاجية، وتقليل الاعتماد على الخارج عبر دعم الصناعة الوطنية وتعميق التصنيع المحلى وزيادة الصادرات، وتمكين القطاع الخاص باعتباره المحرك الأساسى للنمو من خلال إزالة القيود البيروقراطية وتحسين مناخ الأعمال، ويأتى سادس أهدافها تعزيز الأمن الاقتصادى وتقليل المخاطر الناتجة عن الأزمات العالمية مثل التضخم أو اضطراب سلاسل الإمداد.

ونأتى هنا إلى الأبعاد الأساسية للسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، فهى ليست بعدًا واحدًا بل مجموعة مترابطة من الأبعاد، أولها البعد الاقتصادى وفيه يندرج تحته زيادة الاستثمار المحلى والأجنبى، تنويع مصادر الدخل القومى (الصناعة، الزراعة، السياحة، التكنولوجيا)، ودعم الصادرات وتعزيز تنافسية المنتج المصرى.

أما البعد الاجتماعى، فهو يشمل الحد من الفقر عبر برامج حماية اجتماعية فعالة، وتوفير التعليم والتدريب المهنى، وتحسين الخدمات الصحية.. ثم البعد المؤسسى الذى يستهدف تعزيز الحوكمة والشفافية وتطوير الجهاز الإدارى للدولة ومكافحة الفساد.

ورابعًا هناك البعد البيئى، كالتحول نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، وترشيد استخدام الموارد المائية، ومواجهة آثار تغير المناخ.. ويخص البعد الإقليمى والدولى، تعزيز التكامل الاقتصادى مع إفريقيا والعالم العربى، والاستفادة من الاتفاقيات التجارية (الكوميسا، البريكس، الشراكة مع أوروبا)، وجعل مصر مركزاً إقليميًا للتجارة والطاقة.

ونستطرد القول هنا عن ماهية السياسات الداعمة للنمو والتشغيل، فمن أجل تحقيق السردية الوطنية، يجب تبنى حزمة من السياسات الاقتصادية، أبرزها السياسات المالية المتوازنة أى خفض العجز والدين مع الحفاظ على الإنفاق الاجتماعى، والسياسات النقدية المرنة أى السيطرة على التضخم مع توفير التمويل للاستثمار، والاستثمار فى البنية التحتية مثل شبكات النقل والمدن الجديدة ومشروعات الطاقة، والتعليم والتدريب وربطه بسوق العمل مع تطوير التعليم الفنى، ثم تحفيز المشروعات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها قاطرة للتشغيل والنمو، وأخيرًا تشجيع الابتكار والرقمنة ودعم الاقتصاد الرقمى والتحول التكنولوجى.

وفيما يخص تمكين القطاع الخاص، طبقا للخطة الحكومية، فإن «الخاص» يجب أن يكون المحرك الأساسى للنمو، ويتم ذلك من خلال إزالة العقبات البيروقراطية، إصلاح منظومة التراخيص والقوانين، إتاحة فرص متكافئة مع القطاع العام، دعم الاستثمار فى قطاعات واعدة مثل (الصناعة التصديرية، الزراعة الحديثة، تكنولوجيا المعلومات، الطاقة المتجددة)، والشراكة بين القطاعين العام والخاص فى مشروعات البنية التحتية.

ونؤكد أنه من أجل جعل الاقتصاد أكثر مرونة، لا بد من إصلاحات هيكلية، مثل: إصلاح منظومة الدعم وتحويله إلى دعم نقدى مباشر للفئات المستحقة، تعميق التصنيع المحلى لتقليل الواردات وتعزيز القيمة المضافة، التحول الرقمى أى رقمنة الخدمات الحكومية لزيادة الكفاءة، إصلاح الجهاز الإدارى والحد من الترهل وزيادة الكفاءة، إصلاح سوق العمل ومرونة أكبر وتحديث التشريعات العمالية.

ولا شك أن وجود خطة اقتصادية مصرية خالصة لمواجهة التحديات الحالية وتحسين جودة الحياة، والخروج من عباءة صندوق النقد الدولى خطوة حيوية، فقد لجأت مصر إلى الصندوق فى عدة محطات أعوام (2016، 2020، 2022)، وهو ما وفر تمويلًا وإطارًا للإصلاحات، لكن الاعتماد المستمر على صندوق النقد له سلبيات، حيث إن وصفاته تميل للتقشف وزيادة الأعباء على المواطنين، وضعف المرونة فى تكييف البرامج مع خصوصية الاقتصاد المصرى.

والسؤال: هل تستطيع مصر الخروج من عباءة الصندوق؟، الإجابة: نعم، إذا تم تبنى خطة وطنية واضحة المعالم ترتكز على زيادة الموارد الذاتية عبر التصدير والاستثمار، تعزيز الادخار المحلى، وأيضًا تقليل الاعتماد على التمويل الخارجى.

وبالتالى، فمصر بحاجة إلى فكر اقتصادى وطنى جديد يقوم على الاقتصاد الإنتاجى والتركيز على الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، رأس المال البشرى والاستثمار فى التعليم والصحة والمهارات، اقتصاد مرن قادر على مواجهة الأزمات العالمية، الاستفادة من النماذج الدولية الناجحة مثل تجربة الصين والهند مع تكييفها مع الواقع المصرى، شراكة مجتمعية وإشراك المواطنين والقطاع الخاص والمجتمع المدنى فى صُنع القرار، ومواجهة التضخم وغلاء الأسعار وتوفير السلع والخدمات داخل الأسواق.

 

أخبار الساعة