لاشك أن الحديث كثر - بحثًا وقولًا، عن الغاز الطبيعى وحاجة الدول إليه، خصوصًا فى ظل حالة المزاحمة العالمية والضجيج والتوترات الجيوسياسية وتآكل الثقة وتراجع بعض الحكومات عن التزاماتها واتفاقاتها بشأن تنويع مصادر الطاقة أو الغاز تحديدًا، لذا يجب إيجاد حل يتوافق مع متطلبات التشغيل وتوفير الإمدادات وضمان الاستدامة وعدم اللجوء إلى سيناريو ضاغط.
ومن هنا، فالتخزين لا يقتصر وجوده على الدول المستهلكة فقط، بل ينتشر فى الدول المنتجة والمصدرة للغاز، كالولايات المتحدة وروسيا، بينما دول أخرى تعتبر «ترانزيت» مثل تركيا، بدلًا من أوكرانيا - التى كانت تعد تاريخيًا بوابة عبور الغاز الروسى إلى أوروبا، بالإضافة إلى كبار المستهلكين المستوردين للغاز، مثل الصين التى باتت أكبر مستورد للغاز الطبيعى المسال عالميًا منذ عام 2021.
ويعكس هذا التنوع والانتشار، أهمية التخزين الجوفى للغاز لكل الدول - سواء منتجة أو مستهلكة، مصدرة أو مستوردة، بما يضمن إدارة الطلب بمرونة عالية وتحقيق أمن الإمدادات.
وفيما يخص أهمية التخزين الجوفى للغاز فى الدول المصدرة، فالفكرة مطبقة وناجحة بالفعل، وتبنتها عدة دول مصدرة للغاز، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التى تملك وحدها نحو 385 منشأة بسعة تخزينية عاملة، تقدر بنحو 4.7 تريليون قدم مكعب، أى نحو 30 فى المائة من سعة التخزين الجوفى للغاز عالميًا.
واتضح أن منشآت التخزين الجوفى تمكن حكومة واشنطن من تأمين الإمدادات خلال ذروة الطلب المحلى أو العالمي، من خلال توفير الغاز خلال فترات الطلب المرتفع فى فصل الشتاء، والاستفادة من ارتفاع الأسعار.
وهناك دعم الصادرات للولايات المتحدة من الغاز الطبيعى المسال، عبر تأمين وصول الغاز إلى منشآت الإسالة المنتشرة فى ولايتى تكساس ولويزيانا، وذلك عند حدوث أى انقطاعات طارئة، ودعم الاستجابة السريعة لحالات الطوارئ، لتعويض الفاقد الناتج عن الأعطال والأعاصير التى تعانى منه كثير من المدن الأمريكية، خاصة فى منطقة المكسيك.
ويعد التخزين الجوفى للغاز الطبيعي، خيارًا استراتيجيًا للبلدان، فى ظل التحولات المتسارعة التى يشهدها سوق الطاقة العالمي، فقد نمت القدرات العالية لهذه التقنية منذ عام 2000 وفقا لتقارير منظمة أوبك.. ولكن، ما أنواع هذا التخرين؟، وما العوامل الرئيسية التى أسهمت فى نموه؟.. ويبقى السؤال الأهم الذى يفرض نفسه على المشهد، أين تقف الدول العربية فى هذا المجال؟!.
فالتخزين الجوفى للغاز له دور رئيسى فى تعريز أمن الإمدادات ومرونتها.. ولكن ماذا بشأن «المنطقة العربية» فيما يخص مقومات تطوير أوسع بشأن هذا التخرين، فى ظل الحاجة المتزايدة إلى تعزيزه كخيار استراتيجي، يجمع بين الجدوى الاقتصادية ومعالجة موسمية الطلب بمرونة عالية.
فمن خلال عمليات التخزين، يمكن حقن الغاز فى تكوينات جيولوجية تقع تحت سطح الأرض، تتسم بقدرتها على احتواء الغاز ومنع تسريبه، وذلك خلال الفترات التى تشهد تراجعًا فى الطلب على الغاز، ثم يسحب الغاز مجددًا فى أوقات لاحقة وقت الحاجة.. كما أن تخزين الغاز لم يعد يقتصر على الطلب الموسمى فحسب، بل أصبح عنصرًا لتكامل مصادر الطاقة المتجددة، ومساهمته فى تحقيق استدامة منظومة الطاقة.. وقد ظهر ذلك من خلال تزايد مشروعات التخرين الجوفى حول العالم، وتبنى سياسات تشجع على تطويره، وعلى عكس التخزين للغاز فوق سطح الأرض..
أما من حيث المزايا: فالتخزين الجوفى يوفر سعات أكبر وفترات تخزين أطول قادرة على دعم الإمدادات لعدة أشهر، ويعد ذلك مهمًا بشكل خاص فى الأسواق التى يشهد الطلب فيها تقلبات كبيرة بين الشتاء والصيف عالميًا.. ويتم التخزين الجوفى فى ثلاثة أنواع، وتشمل: حقول النفط والغاز المستنفذة، وكهوف الملح، وطبقات المياه الجوفية العميقة، ويراعى عند اختيار مواقع التخزين أن تكون قريبة من مراكز الطلب الرئيسية، بهدف سرعة تغذية الشبكات المحلية بالغاز، وضمان تحقيق مرونة تشغيلية عالية تسهم فى تلبية احتياجات المستهلكين المتزايدة.
وهنا نطرح تساؤلًا آخر، مفاده: ما الذى أدى إلى زيادة التخزين الجوفى للغاز؟!
لقد اكتسب التخزين الجوفى أهمية متزايدة متصاعدة بعد اندلاع الأزمة والحرب الروسية الأوكرانية فى العام 2022م، حيث سارعت العديد من الدول الأوروبية إلى تبنى سياسات وتشريعات تهدف إلى تأمين مستويات كافية من المخزون لتفادى أزمات طاقة محتملة.
أما فى العالم العربى حاليًا، فلا يزال قطاع التخزين الجوفى للغاز فى مرحلة مبكرة من التطوير، حيث لا يوجد منشآت تخزين غاز تحت الأرض سوى فى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بعدد إجمالى ثلاثة مرافق فقط، بينما تعتمد معظم البلدان الأخرى على خطوط الأنابيب وخزانات الغاز المسال للتخزين، التى تغطى عادة بضعة أيام فقط من الطلب، وعلى النقيض من ذلك، يمكن التخزين تحت الأرض، حيث تلبى لأشهر، ما بين 30 إلى 40 فى المائة، وهى ذروة الطلب اليومى للدول العربية.
وفى دراسة أخيرة صادرة عند منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول - أوابك، خلصت بأن الدول العربية لديها إمكانات كبيرة لتطوير قطاع التخزين الجوفى للغاز، حيث تمتلك المقومات الجيولوجية والاقتصادية الاستراتيجية، مثل وجود حقول نفط وغاز مستنفذة، ووفرة فى الموارد الغازية، وتواجد بنية تحتية قريبة من مراكز الطلب، إلى جانب الموقع الجغرافى الاستراتيجى للمنطقة، الذى يسمح بخيار التصدير إلى كبرى الأسواق العالمية.
ومن هنا نقول إن التخزين الجوفى للغاز أصبح ضرورة ملحة أولًا، وأداة استراتيجية لضمان الإمدادات، وأيضًا للحماية من التقلبات المناخية والتوترات الجيوسياسية، هذا بجانب أهميته فى تفاوت الطلب الموسمى.
ويشكل الغاز نسبة 25 فى المائة من مزيج الغاز العالمى، وهناك دول متفوقة فى التخزين تتصدرها الصين، باحتياطى من المخزون الجوفى للغاز بنحو 76 مشروعا بنهاية عام 2023، بمقدار 340 مليار قدم مكعب من الغاز.
وفى الحالة المصرية والعربية، لدينا حاجة ماسة إلى التخزين الجوفى للغاز، وهناك عوامل ومجموعة من الأسباب تشكلت لهذا الاستثمار من أجل تعزيز أمن الطاقة وتكوين احتياطى استراتيجي، حتى لا نضغط على الإمدادات، وضمان تحقيق المرونة الكافية للعرض والطلب، وتقليل الأسعار على الحكومات.
والخلاصة: لابد من وضع خارطة طريق أو خطة طموحة لا تتأخر أكثر من ذلك، وتأتى فى إطار عمل استثمارات لتخزين الغاز الجوفي، وإعداد خرائط جيولوجية واختيار الأماكن المناسبة فى مصر والإمارات، على أن يتم تطوير الإطار التنظيمى والتشريعى سريعًا، مع تقليل مخاطر التمويل، وضرورة الوعى الاقتصادى للحكومات بشأن التخزين الجوفى للغاز، مع الأخذ فى الاعتبار أن وجود شبكات لتداول الغاز الطبيعى كالحالة المصرية يوفر التكاليف الرأسمالية، وهذه الاستراتيجية فى جدواها الاقتصادية تحمى الدول من الاعتماد على العقود الفورية للغاز.
وأثبتت الدراسات التى أعدتها منظمة أوابك العربية، أن السعة التخزينية لكل مليون قدم مكعب من الغاز يتكلف من 5 إلى 18 ألف دولار، وأن التكاليف الرأسمالية هى الأقل حتى العام 2030 المقبل، وأن كل واحد مليون قدم مكعب من الغاز يتكلف 30 ألف دولار، وتمتلك أمريكا وروسيا 10.42 تريليون قدم مكعب من الغاز.
وبالتالى على مصر أن تكون رائدة «طاقويًا» باحترافية فى تخزين الغاز الجوفي، لوجود شبكات لتداول الطاقة، وتوافر البيئة المحيطة الملائمة للتخزين، وتوافر الخبرة الفنية بمصر والدول العربية كذلك اختيار المكامن الجيولوجية المناسبة.
ونختم القول بالإشارة إلى أن الدولة المصرية لديها- بالفعل- استراتيجية فى قطاع الطاقة، ما يدعم الاستثمارات فى الغاز الجوفي، وهنا يبرز السؤال الأهم: هل حان الوقت أن تتبنى القاهرة استراتيجية التخزين الجوفى للغاز حتى لا نكون «رهن» الظروف المحيطة!!.
