لكن الأساتذة الكبار مصرّون ويصرّون على التعامل معهم بسوء وتكُّبر وتجبُّر، وفرض ظروف وطبيعة عمل مهينة قد تصل أحياناً إلى إجبار هؤلاء النواب «وهم أوائل الدفعات» على القيام بأعمال كتابية، من تسجيل الحضور والغياب، وأحياناً يقومون بـ «تخليص” أوراق المرضى والحصول على التوقيعات والأختام اللازمة من أطباء أقدم أو إداريين ومسئولين أكبر يقطعون سلالم المستشفيات صعوداً وهبوطاً، وفى بعض كليات الطب (هذه معلومة مؤكدة من مصادر قريبة وموثوقة) يتولى النواب مهمة «قطع تذاكر الدخول» بدلاً من تدريبهم العملى داخل العيادات أو غرف العمليات !، ناهيك عن ضغوطات هائلة تفوق طاقتهم، بالعربى كدة يتم «سحلهم» فى شيفتات أو نوباتجيات تستمر لـ36 ساعة وأحياناً تصل إلى 72 ساعة متواصلة دون نوم أو راحة، حتى مجرد توفير «كرسي» يستريحون عليه، تضن به الكليات وكأنها تعاقبهم دون ذنب !
ثم لا ننسى أيضاً سوء تعامل المرضى وذويهم معهم، ذلك السوء الذى كثيراً ما يتطور من اعتداءات لفظية إلى اعتداءات جسدية فى صور اشتباكات بالأيدي، أو التعدى عليهم بآلات حادة وأسلحة بيضاء، بعد أن وضعهم الأساتذة ــ الغائبون دائماً والمشغولون بعياداتهم الخاصة أو مستشفياتهم أو مراكزهم الطبية ــ فى وش المدفع »!.
وكانت النتيجة المؤسفة تزايد أعداد المستقيلين منهم، مفضلين السفر أو الهجرة بتذكرة ذهاب بلا عودة بحثاً عن بيئة عمل أكثر احتراماً وتقديراً، ومن ثم تفقد مصر مجموعة من أوائل ونوابغ كليات الطب وهى فى حقيقة الأمر فى أشد الاحتياج إليهم !.
دعونى أذكركم بظاهرة الاستقالات المتتالية لـ 8 نائبات من أصل 15 نائبة من قسم النساء والتوليد بمستشفيات كلية الطب جامعة طنطا، التى تابعناها فى الأسابيع الماضية، سبقهن 19 نائباً ونائبة من طب الإسكندرية، وما ذكرته إحدى النائبات بالقسم من أسباب استقالتها على حسابها الشخصى بالفيسبوك .
هذه الطبيبة تحدثت بلسان الآلاف من زميلاتها وزملائها على مستوى كليات الطب بمصر، ولم تستثن كلية واحدة، ووصفت تجربتها فى العمل والتدريب بأنها تجربة استنزاف بدنى ونفسى تحت مظلة نظام طبى جامعى لا ينصف ولا يطور، نافية وجود أى تدرج تعليمى أو منهج تدريبي، فضلا عن الإهانة والتجاهل، وانعدام أقل درجات الاهتمام بتوفير أبسط الحقوق الآدمية، مما يضطرهم للنوم واقفين كما الخيول أو افتراش الأرض من شدة الإجهاد!
إحدى الطبيبات المستقيلات جزمت بأنه على مدى 9شهور لم يسمح لها بممارسة مهنتها كطبيبة، فمن أين تكتسب الخبرات العملية؟ ثم على يد من تتدرب والأساتذة غائبون؟
بالله عليكم.. كيف لأى نائب أن يرضى بقضاء فترة تدريب تصل إلى 5 سنوات فى مثل هذه الظروف الصعبة حتى يصبح أخصائياً فى مجال ما «على الورق»، أو يتم تعيينه مدرساً بالكلية، دون حصوله على خبرات عملية من مستشفيات جامعية يفترض أنها تقبل الحالات المرضية المعقدة أو الصعبة؟ ومن ثم يرتكب بعضهم أخطاء بل كوارث طبية تسيء إلى سمعة الطبيب المصرى؟
للأسف معظم أساتذة كليات الطب يرون أنه على الطبيب المقيم أو النائب تحمل الاستنزاف فى العمل وسوء المعاملة وتأدية ما يطلبونه من خدمات خاصة، «علشان عضمهم ينشف»! ومن يتمرد على هذه الأوضاع الوظيفية أو يرفض الخضوع للأوامر التعسفية من الأطباء الأقدم يكون الإقصاء والحرمان من التعيين فى الكلية مصيره!.
هؤلاء الأساتذة القدامى والكبار لا يريدون التخلى عن قناعاتهم القديمة بل يشتد تمسكهم بنفس أسلوب الأسياد والعبيد فى تعاملهم مع ذلك النبت الصغير، وبنفس منهج الاضطهاد والمعاملة السيئة الذى تعرضوا له فى مستهل حياتهم العملية، معتبرين أنفسهم آلهة لابد أن يخضع التلاميذ لها!.
هؤلاء الأساتذة القدامى نسوا أو تناسوا التغير الكبير الذى اعترى عقول الأجيال الجديدة من النواب .. هذه الأجيال أصبحت تمتلك إرادة قوية ولديها حلول كثيرة تجعلها ترفض الخضوع والخنوع مهما كلفها الأمر، بعضهم يفضل الاستقالة بحثاً عن فرص عمل بالخارج أو عمل حر فى الداخل بعيداً عن جنة مستشفيات الجامعات أو الالتحاق بهيئات التدريس التى أخذتهم «فحت وردم » و«قلّت منهم » أمام الأطقم الطبية الأخرى!.
دعونى أتساءل .. هل استوعب هؤلاء الأساتذة القدامى الآثار السلبية التى يمكن أن تترتب على استمرار استقالة وهجرة نوابغ الطب وأوائل الدفعات، وتفريغ الكليات ومستشفياتها من الكفاءات والكوادر الطبية الجديدة، فى الوقت الذى تحتاج فيه لمضاعفة عدد النواب فى المستشفيات الجامعية بنسبة لا تقل عن 500 فى المائة؟
هل يقبل الأساتذة المحترمون أن ينهى النواب فترة التدريب التى استمرت 5 سنوات دون الحصول على فرصة تدريب أو تطوير أنفسهم للتعامل مع الحالات المتقدمة والصعبة التى تحتاج لخبرات نوعية؟
ثم متى يتدخل عمداء كليات الطب لرفع الظلم الذى يتعرض له الآلاف من أبنائهم النواب، وتوفير بيئة عمل صحية لهم،وإجبار الأساتذة على النزول من أبراجهم العاجية والحضور يومياً لتدريب وتعليم صغار اليوم وأساتذة الغد «وهى رسالتهم الأسمى والأهم »؟
هل يتدخل عمداء كليات الطب لوقف مهزلة قيام النواب بالأعمال الكتابية التى يمكن أن يؤديها موظفو السكرتارية أو بمهام التمريض، فتلك إهانة غير مقبولة، واستمرارها يزكى مشاعر الغضب فى صدورهم، ومن ثم يرفض الكثيرون الاستمرار، مفضلين الاستقالة عن البقاء فى تلك الجنة المزعومة التى يتعامل فيها الكبار مع الصغار باستعلاء واحتقار !
وفى ذات السياق أود أن أشير إلى أوضاع أطباء وطبيبات الامتياز، فهى أسوأ بكثير من أوضاع النواب، ولابد من العناية بهم وبشكل أفضل.
وفى الختام أعتقد أن ما أطالب به ليس بكثير وليس له خيار ثان، بل هو واجب ضرورى وحتمى .. ويا كبار الأطباء ترفقوا بالنواب، ارحموهم يرحمكم من فى السماء.