يشكل الغاز الطبيعى الركيزة الأساسية فى أمن الطاقة المصرى، ليس فقط لتوليد الكهرباء، وإنما أيضًا كمحرك رئيسى للصناعة الثقيلة ومصدر مهم للإيرادات عبر الصادرات -فى فترات معينة-، غير أن السنوات الأخيرة كشفت عن خلل هيكلى عميق يفسد هذا الدور.
فقد تراجع الإنتاج المحلى بوتيرة أسرع مما كان متوقعًا، فى وقت ظلت فيه الاكتشافات الجديدة حبيسة الإعلانات الرسمية دون دخول فعلى فى الخدمة، وهو ما أجبر على الاعتماد بصورة متزايدة على الغاز المستورد، سواء عبر الغاز المسال أو من خلال خطوط الإمداد.
وتعكس الأرقام هذه الصورة بوضوح، إذ يغطى الإنتاج المحلى نحو 56فى المائة من احتياجات السوق، بينما يأتى 29.5فى المائة من الغاز الطبيعى المسال المستورد، ويمثل غاز الخطوط القادم من الشرق نسبة 15فى المائة من الإجمالى.
غير أن هذه النسبة الأخيرة -الخطوط- ليست متجانسة، إذ إن نحو 70فى المائة منها يأتى من شركة واحدة، هى «نيو ميد»، أى ما يعادل 10فى المائة من الاستهلاك الكلى، وبذلك يصبح الحديث عن غاز الخطوط، فى جوهره، نقاشًا حول اعتماد مصر على مورد واحد داخل شريحة صغيرة من المزيج، لكنه شديد الحساسية.
كما أن الطبيعة المؤسسية للعقود المنظمة لهذا التوريد، تؤكد أن الحديث عن هشاشتها السياسية مبالغ فيه، خاصة أن الحقول المصدّرة تُدار عبر تحالف شركات دولية: شيفرون بنسبة 40فى المائة، نيو ميد بنسبة 45فى المائة، وريشيو إنرجى بنسبة 15فى المائة، وعليه فالعقود تجارية بحتة، طويلة الأجل، وتستند إلى نظام الإتاوة والضريبة.
ناهيك عن أن الاتفاقية القائمة تغطى نحو 1.1 مليار قدم يوميًا، بينما ترتبط المرحلة الثانية بزيادة إلى 1.6 مليار قدم يوميًا، وهذه الزيادة مشروطة بموافقة الطرفين، أى أن الكميات الجارية مستقرة تعاقديًا، وأى خلاف «سياسي» محتمل يخص التوسعات المستقبلية فقط. ولذلك فإن الأرقام تبرهن بأن القول إن مصر رهينة اتفاقية الغاز هو الإفك ذاته.
ومع هذا، تظل القضية الأعمق تخص الداخل المصرى، حيث لم تستطع الدولة تحويل اكتشافاتها إلى إنتاج فعلى فى توقيت مناسب، فكثير من الحقول المعلن عنها بقيت خارج الخدمة لسنوات، فيما شهدت الحقول القائمة تراجعًا متسارعًا بسبب غياب برامج الصيانة والتطوير طويلة الأجل.
علاوة على ذلك، لم يُعاد استثمار عوائد الغاز فى القطاع ذاته، بل جرى توجيهها إلى سد فجوات مالية آنية، وهو ما أفرغ المنظومة من قدرتها على تحقيق الاستدامة، وأدى إلى تضخيم وزن الاستيراد، حتى غدا غاز الخطوط يمثل ركيزة لا غنى عنها رغم محدودية نسبته.
ويزداد الأمر وضوحًا عند النظر إلى وحدات التغويز، حيث تمتلك مصر قدرة اسمية تصل إلى 2.1 مليار قدم يوميًا من خلال ثلاث وحدات عائمة، وهذه البنية وفرت صمام أمان فى مواجهة أى اضطراب قصير الأجل، لكنها فى الوقت ذاته حملت تكاليف باهظة.
فالغاز المسال المستورد أعلى تكلفة من الغاز المنقول عبر الخطوط، وفاتورة التغويز تُحسب بالدولار وتثقل الموازنة، وسط تقديرات تشير إلى أن الاعتماد المفرط على هذه الوحدات، يعنى أن كل مليون وحدة حرارية تصل إلى مصر تكلف ضعفًا أو ثلاثة أضعاف الغاز الذى يمر عبر الخطوط.
وهنا تظهر أهمية الخطوط، ليس باعتبارها مصدرًا لا بديل عنه، بل باعتبارها الأداة الأقل تكلفة لتأمين جزء من احتياجات السوق، خاصة أن عدم استخدامها أو تعطلها يضاعف الاعتماد على الواردات المسالة، ويرفع فاتورة الاستيراد بمئات الملايين من الدولارات شهريًا.
بهذا المعنى، تصبح الخطوط مكونًا اقتصاديًا أكثر منه سياسيًا، فهى تقلل من التكلفة الهامشية لواردات الغاز وتمنح المنظومة مرونة إضافية، لكنها ليست حلًا شاملًا، فحتى مع استمرار تدفق 1.1 مليار قدم يوميًا من الحقول، ستظل مصر تواجه فجوة إذا لم تعالج السبب الجذرى: سوء إدارة الإنتاج المحلى والوعود المؤجلة وبالفعل، يحمل المستقبل بدائل يمكن أن تغير المعادلة إذا أحسن إدارتها، وأبرزها خطط استيراد نحو 1.3 مليار قدم يوميًا من قبرص بحلول 2028 من حقلى كرونوس وأفروديت، وهو ما قد يقلل من الاعتماد على مورد واحد وتفتح آفاقًا للتنويع.
لكن ذلك يظل أيضًا بدائل خارجية، لن تلغى الحاجة إلى إصلاح قطاع الإنتاج المحلى، الذى من دونه ستظل مصر تراكم تعاقدات مكلفة ومؤقتة، بينما يظل الأساس ضعيفًا.
بشكل أوضح ومن خلال قراءة باردة للأرقام، يتضح أن غاز الخطوط لا يمثل سوى 15فى المائة من الاستهلاك، وأن نيو ميد رغم سيطرتها على 70فى المائة من هذه الشريحة لا تغطى أكثر من 10فى المائة من الإجمالى، لكن وزن هذه النسبة تضاعف لأن الداخل فشل فى الوفاء بوعوده الإنتاجية.
أى نعم، تمنح البنية التحتية للتغويز بعض الحماية، لكنها مكلفة ولا تصلح أن تكون ركيزة طويلة الأجل، أما الحل الحقيقى فيكمن فى الداخل من خلال تسريع إدخال الاكتشافات إلى الإنتاج، وتطوير الحقول القائمة، وإعادة استثمار العوائد فى القطاع ذاته.
ختامًا، فالنقاش حول غاز الخطوط فى مصر لا يتعلق بحجم المورد ذاته بقدر ما يعكس هشاشة المنظومة الإنتاجية الداخلية، فالمسألة ليست ندرة موارد بقدر ما هى أزمة إدارة وتخطيط طويل الأجل، وحين يُصلح ذلك سوف يتحقق التوازن، وعندها فقط يصبح الحديث عن خطوط الغاز مجرد خيار استراتيجى إضافى، لا ثغرة قد تهدد أمن الطاقة.
