«كفاءة ومرونة سوق العمل» هدف مهم للسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية التى أطلقتها د. رانيا المشاط وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى، فالاســتثمار فى رأس المال الــبشرى وتطويــر المهــارات المســتقبلية بمــا يتمــاشى مــع احتياجــات الأســواق المتــغيرة، أداة استراتيجيــة لتعزيــز التنميــة الاقتصاديــة والاجتماعيــة، لذا تم اختيار هذا الهدف كعنوان للفصل الرابع من السردية، فالحكومة تولى اهتمامــاً كــبيراً برفــع معــدلات النمــو الاقتصــادي، والتى تــقترن بشــكل أســاسى بزيــادة معــدلات التشــغيل والعمــل اللائــق الــذى يوفــر الحيــاة الكريمــة ويــدر الدخــل لجميــع المواطــنين.
وفى هــذا الإطــار، لا زالــت تواجــه مصر عــددا مــن التحديــات فيمــا يتعلــق بمعــدل البطالــة، مــن أهمهــا انخفــاض معــدل المشــاركة فى القــوى العاملــة وارتفــاع معــدل بطالــة الإنــاث، وحملــة المــؤهلات الجامعيــة ومــا فوقهــا، وارتفــاع نســبة العمالــة فى القطــاع غير الرســمى والعمالة غير المنتظمة.
وتحليلا للفصل الرابع رأى الدكتور ماجد خشبة رئيس قسم الدراسات المستقبلية بمعهد التخطيط القومي، أن هناك عددا من الملاحظات الإيجابية يمكن تسجيلها، وفى مقدمتها رصد وتشخيص قضايا سوق العمل التنموية الراهنة فى مصر، وتوجهات السياسات بشأن التعامل معها، خاصة فى وثائق التنمية الكلية الرئيسية مثل الأجندة الوطنية للتنمية المستدامة: رؤية مصر 2030 المحدثة، أو وثائق التنمية النوعية ذات العلاقة مثل: الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالى والبحث العلمى 2030، والإستراتيجية الوطنية للتشغيل، والبرنامج الوطنى للإصلاحات الهيكلية، وغيرها.
وفيما يخص ربط إشكاليات سوق العمل بقضايا الاقتصاد الكلى والتنمية المستدامة، فإن قضايا التشغيل ترتبط بصورة مباشرة بكافة جوانب الاقتصاد الكلى وقطاعاته الرئيسية الإنتاجية والخدمية، كما ترتبط من جهة أخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمعظم أهداف التنمية المستدامة SDGs ، خاصة أهداف العمل اللائق والنمو الاقتصادي، التعليم الجيد، الصناعة والابتكار والبنية التحتية، وغيرها.
وهناك مراجعة الاتجاهات الحديثة فى المشهد العالمى لسوق العمل، وذلك وفق أحدث التقارير الدولية ذات الصلة لدى الجهات المعنية، وعلى رأسها منظمة العمل الدولية ILO، وهى التقارير التى رصدت العديد من الحقائق فى سوق العمل العالمى، وبعض من تلك الحقائق يمكن أن يقدم العديد من الخبرات والدروس المستفادة فى تحسين سوق العمل الوطني.
أهم التغيرات، ترتبط بالتغيرات التكنولوجية الرقمية، وزيادة جهود التكيف مع تغير المناخ والسعى لتقليل الانبعاثات، وعدم اليقين الاقتصادى خاصة فيما يتعلق بتكلفة المعيشة وارتفاع الأسعار أو التضخم.
أما الوظائف الأسرع نمواً، فيتصدرها: متخصصو البيانات الضخمة، مهندسو التكنولوجيا المالية، متخصصو الذكاء الاصطناعى وتعلم الآلة، ومطورو البرمجيات والتطبيقات الحوسبية.
وأهم المهارات المطلوبة، يأتى على رأسها: الذكاء الاصطناعى والبيانات الضخمة، ثم البيانات والأمن السيبراني، الثقافة التكنولوجية، والتفكير الإبداعي.
التحول الأخضر فى سوق العمل وأبعاده، وهو التحول الذى يدعم الاقتصادات الخضراء المستدامة، والحد من الانبعاثات الكروبونية لتخفيف المخاطر الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتشير التقارير المعنية عالمياً إلى تحديات مهمة ترتبط بالتحولات الخضراء، والتى يمكن أن تنحاز للاعتبارات التكنولوجية والتمويلية على حساب العنصر البشري، خاصة فيما يتعلق بالوظائف المفقودة والمكتسبة، والمهارات المطلوبة، والتأثيرات الاجتماعية.
وهناك أهمية سياسات وتدخلات تطوير وتنمية المهارات للتكيف مع التحول الأخضر، وذلك من خلال تبنى سياسات استراتيجية شاملة لسوق العمل فى العديد من دول العالم ودمجها فى سياسات التحول الأخضر، بجانب سن تشريعات خاصة بالوظائف الخضراء فى دول أخرى، كما سعت حكومات إلى تبنى مداخل ابتكارية فى أنشطة التدريب وتنمية المهارات فى القطاعات المختلفة، بخلاف التطوير فى أساليب التعليم التقليدية.
الدكتور ماجد خشبة أضاف أن الشباب يواجه تحديات حقيقية ذات علاقة بجودة الوظائف المتاحة لهم، حيث إن أكثر من نصف الشباب العاملين فى العالم يشغلون وظائف غير رسمية أو مؤقتة، مما يحد من فرصهم فى تحقيق الاستقرار الاقتصادى والاجتماعي، ويعود ذلك جزئياً إلى الفجوة بين المهارات المكتسبة من خلال التعليم والمهارات المطلوبة فى سوق العمل، مما يؤثر سلباً على تحقيق الهدف الرابع (التعليم الجيد)، والهدف الثامن (العمل اللائق ونمو الاقتصاد) من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة – 2030 : SDGs.
فى هذا الإطار، هناك دعوات عالمية إلى تعزيز السياسات التى تركز على تمكين الشباب، خاصة الإناث، من خلال توفير فرص تعليم وتدريب ملائمة، وتعزيز مشاركة الشباب فى صياغة السياسات، وتحسين جودة الوظائف المتاحة لهم، كما يؤكد على أهمية التعاون بين الحكومات وأصحاب العمل والمؤسسات التعليمية لتحقيق تقدم ملموس فى هذا المجال.
أيضاً تبنى مستهدفات للتشغيل وسوق العمل وفق نهج السيناريوهات البديلة، ومن أبرز تلك المجالات زيادة عدد الوظائف المضافة سنوياً بالمليون، مع التركيز على السيناريو الإصلاحى (3.5 مليون وظيفة)، تعتمد على تكثيف جهود تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة وتسريع دمج الاقتصاد الموازى فى الاقتصاد الرسمي، بما يعزز ريادة الأعمال وتطوير المهارات الإنتاجية للشباب، ورفع معدل المشاركة فى قوة التوظيف كنسبة من السكان فى سن العمل، مع التركيز على السيناريو الإصلاحى (53 فى المائة) الذى يفترض تحسن النشاط الاقتصادي، وزيادة برامج تمكين النساء، وتسريع جهود دمج الاقتصاد غير الرسمى.
كذا تحسين معدل مشاركة الإناث فى القوى العاملة النسبة المئوية للإناث فى سن العمل، مع التركيز على السيناريو الإصلاحى (19.6 فى المائة) المرتبط بنجاح البرامج الداعمة للتمكين الاقتصادى للنساء، وهذه النسبة أقل طموحاً من نظيرتها المستهدفة فى رؤية مصر 2030، والتى تبلغ 24 فى المائة. وتحسين نسبة العمالة غير الرسمية بأجر من إجمالى القوى العاملة. نسبة التشغيل غير الرسمي: ويواجه هذا المستهدف تحديات تقدير تلك العمالة بدقة (60-65 فى المائة) لغياب حصر شامل لهذا القطاع، والمستهدف وفق السيناريو الإصلاحى تخفيضها إلى 45 فى المائة، وهى نسبة تقترب من المستهدفة فى رؤية مصر 2030 وهى 44 فى المائة.
ونوه الدكتور ماجد خشبة إلى بعض المقترحات لتعظيم الفائدة المستفادة من وثيقة السردية، فيما يخص قضايا سوق العمل؛ حيث رأى رئيس قسم الدراسات المستقبلية بمعهد التخطيط القومي، أنه الفصل لا يتضمن إشارات واضحة عن المقصود بكفاءة ومرونة سوق العمل من وجهة نظر الوثيقة، حتى يمكن الحكم على مدى توافر مقومات تلك الكفاءة والمرونة فى سوق العمل المصرى أم لا، وما هى تحديات تحقيق تلك الكفاءة والمرونة المنشودة فى هذا السوق؟، ومن ثم الوصول إلى سياسات تعزز وتعظم تلك الكفاءة والمرونة إذا كانت موجودة، أو تعمل على خلقها وتهيئة البيئات المواتية لظهورها إذا كانت غير موجودة.
ما الهدف من الإسهاب فى عرض سردى تفصيلي، وليس نقدياً أو تحليلياً لقضايا سوق العمل فى وثائق التنمية وبرنامج عمل الحكومة وغيرها، ويمكن اختصار هذه العروض فى أشكال أو جداول مركزة مختصرة توضح جوانب التوافق أو التباين بين هذه الوثائق فيما يتعلق بقضايا سوق العمل، وعلى الأخص: كفاءة ومرونة السوق دون الاستغراق فى تفاصيل الوثائق المشار إليها دون دليل منهجى واضح.
ونتطرق إلى تساؤل آخر، يخص ماهية معايير اختيار وثائق التنمية الهامة فى الفصل المذكور، حيث يلاحظ على سبيل المثال تجاهل أو تهميش كامل لوثيقة (الإستراتيجية الوطنية للسكان والتنمية (2023-2030) والتى عرضت على رئيس الجمهورية، ووجه رئيس الوزراء بالبدء فى تنفيذها اعتباراً من يناير 2025، وتتضمن الاستراتيجية المذكورة ذات القضايا التى يركز عليها الفصل الرابع، وعلى الأخص: قضايا البطالة، عمل المرأة وتمكينها صحياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، عمالة الأطفال، الاستثمار فى الشباب، وقضايا التعليم والتعلم بأبعاده المختلفة.
الخلاصات الإجرائية للفصل ليست سياسات مستهدفة، حيث إن بعض تلك الإجراءات قد تم تنفيذها فعلاً كما تشير الوثيقة، وبعضها الآخر لا يمكن اعتباره سياسات، حيث يبدو أقرب إلى تكليفات أو واجبات مسندة إلى جهات معنية فى الدولة، وهذا الإسناد هو نوع من تأكيد المؤكد، لأن هذه التكليفات هى بالفعل من صميم أعمال واختصاصات تلك الجهات خاصة وزارتى العمل والتعليم العالى والبحث العلمي، جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر وغيرهم.
كذلك فإن الخلاصات الإجرائية للفصل ليست مرتبطة منهجياً أو عملياً بقضايا تعزيز كفاءة ومرونة سوق العمل؛ حيث ركزت تلك التدخلات الإجرائية كما سبقت الإشارة، على إجراءات منفذة فعلياً، أو مزمع تنفيذها فيما يتعلق بسوق العمل المصرى على محورين أساسيين: الأول تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، والثانى هو زيادة القدرة التنافسية وتحسين بيئة الأعمال.
ونذكر أيضاً غياب الاستفادة من الخبرات العالمية على الإطلاق فى الخلاصات الإجرائية للفصل، فعلى الرغم من أن الفصل قد عرض باستفاضة للخبرات العالمية فى التعامل مع أسواق العمل، إلا أن سياسات الإجراءات الختامية لم تعكس رؤى ومبادرات عملية للاستفادة المستقبلية من تك الخبرات فى سوق العمل المحلي، وعلى الأخص فيما يتعلق بالتوسع فى الوظائف الخضراء، مهارات الذكاء الاصطناعى وتحليلات البيانات الضخمة، والأمن السيبراني، التفكير المنظومى والإبداعي، وغيرها.
وهل يمكن تبنى (الاستراتيجية الوطنية للتشغيل) مع تدخلات وتحديثات محددة من كافة الوثائق ذات الصلة والخبرات العالمية والإقليمية المناسبة، حيث تتحول تلك الاستراتيجية إلى (وثيقة توافق وطنى جماعي) بمشاركة كافة الأطراف المعنية لتطوير سوق العمل المصري؛ حيث تشخص الوثيقة التوافقية التحديات الراهنة والمستقبلية فى سوق العمل الوطني، كما تطرح أهدافا وسياسات وبرامج ومخرجات مأمولة، ومستهدفات ومؤشرات أداء للمتابعة والتقييم وقياس الأثر، كما تحدد المسئوليات التنفيذية لكافة الأطراف المعنية فى الدولة، وفى حال الاستقرار على هذا البديل، يمكن إعادة هيكلة الفصل الرابع للوثيقة بصورة تختلف جذرياً عن الصورة الحالية للفصل المشار إليه.