رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سردية التنمية الاقتصادية: بين منطق التخطيط وقراءة المستثمرين


25-10-2025 | 11:13

.

طباعة
بقلم: د. محمد فؤاد

المتابع لكواليس الأروقة الاقتصادية فى هذه المرحلة يلحظ بوضوح أن صدور «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» قد شكّل نقطة تحول فى الخطاب الاقتصادى المصري، إذ دخلت الدولة - الحكومة- بناء على المضمون الذى تحمله مرحلة جديدة تسعى من خلالها إلى إعادة تعريف أولوياتها وموقعها من الاستثمار والإنتاج.

وعلى الرغم من أن الوثيقة لم تُصمم ابتداءً كعرض استثمارى أو خطة ترويجية لرأس المال الأجنبى، فإنها تُعد إطارًا تخطيطيًا يستهدف توحيد السياسات العامة وتحديث الرؤية الوطنية فى ظل تحديات اقتصادية ومالية متسارعة، غير أن أصداءها فى الأوساط الاقتصادية والإقليمية بدأت تتعامل معها بوصفها عرضًا استثماريًا غير مباشر يكشف ملامح توجهات الدولة وأولوياتها حتى عام 2030.

 

وهذه القراءة لم تأتِ من فراغ، فالمستثمرون وصناديق التمويل الدولية، فى سعيهم لفهم بيئة الأعمال المصرية، يبحثون عن «نصّ مرجعى» يعبر عن توجهات الدولة فى القطاعات المختلفة، ومع غياب تحديث رسمى لرؤية مصر 2030 وتعدد الوثائق الحكومية، وجد كثير من الفاعلين فى «السردية الوطنية» ما يشبه الخريطة المختصرة التى تعكس توزيع أولويات الاستثمار العام ومجالات دخول القطاع الخاص، ولهذا أصبحت السردية تُستخدم كوثيقة مرجعية غير رسمية تقرأ منها المؤسسات المالية العالمية اتجاه الدولة الاقتصادي.

وبشكل شخصى - خلال عدد من اللقاءات الاقتصادية الأخيرة مع مستثمرين وصناديق إقليمية - لاحظت أن الاهتمام بالسردية ينبع من رغبة فى فهم ما تعتبره الدولة «قطاعات قائدة» للنمو خلال المرحلة المقبلة، وما إذا كانت هذه القطاعات ستُفتح أمام الشراكات مع القطاع الخاص أو تبقى فى نطاق الدولة، وهى تساؤلات لا تعكس فضولًا استثماريًا فحسب، بل تعبر عن نقطة التحول فى طريقة قراءة المستثمرين لمصر، فهم لم يعودوا يكتفون بمتابعة سعر الصرف أو عجز الموازنة، بل يتتبعون السياسة العامة كمنظومة متكاملة تربط بين الملكية، والتمويل، والحوكمة.

من هنا، تكتسب السردية أهميتها - حتى فى بعدها غير المقصود - كمنصة لتوحيد الرسائل الاقتصادية الصادرة عن الدولة، فهى تساعد فى تفسير أولوياتها ومشروعاتها وتوجهاتها نحو الإصلاح الهيكلي، وتعيد ترتيب العلاقة بين «الدولة كمستثمر» و«الدولة كمخطط» و«الدولة كمنظم للسوق».

لكن هذا الدور الجديد للسردية لا يُخفى مفارقة واضحة، فبين رؤية مصر 2030 التى وُضعت عام 2016 ولم تُحدّث رسميًا حتى اليوم، وبرامج حكومية متكررة تتبدل تبعًا للظروف المالية المتقلبة للغاية خلال العقد الماضي، جاءت السردية لتسد فراغًا فى منظومة التخطيط، من دون أن تحدد بوضوح موقعها المؤسسى أو علاقتها القانونية بهذه الأطر، ولهذا باتت تُقرأ من الخارج على أنها وثيقة بديلة للرؤية، ومن الداخل كجهد تنسيقى بين الوزارات.

وفى الحقيقة، فإن قانون التخطيط العام للدولة الذى أقره مجلس النواب المصرى كان قد وضع الأساس لهذا النوع من الوثائق التكاملية، إذ نص صراحة على ضرورة إعداد خطة تنمية اقتصادية واجتماعية تقوم على التنسيق الأفقى بين الوزارات، والربط الرأسى بين المستويات القومية والمحلية، بما يضمن اتساق البرامج الحكومية مع الإطار الاستراتيجى العام للدولة.

وبهذا المعنى، فإن «السردية الوطنية» تمثل التجسيد العملى لأحكام قانون التخطيط، لا وثيقة موازية له، فهى الأداة المرنة التى تمنح القانون بعدًا ديناميكيًا فى بيئة سريعة التغير، وتحول مبادئه العامة إلى أولويات قطاعية قابلة للتنفيذ.

إذا.. القوة الحقيقية للسردية ليست فيما تقوله، بل فى ما يمكن أن تفعله حين تُستخدم لتفعيل منطق «التخطيط المتكامل»، الذى نص عليه القانون، فحين ترتبط السردية بموازنات البرامج والأداء، وتتحول إلى مرجعية لتخصيص الاستثمارات العامة، وتصبح وزارة التخطيط مسؤولة عن قياس مدى اتساق إنفاق الدولة مع أولوياتها، عندها فقط ننتقل من لغة الوصف إلى لغة التنفيذ، وهو المطلوب بالضبط، خاصة أن أدوات التنفيذ الحكومية على أرض الواقع لم تلحق بعد بوضوح السردية وجرأة لغتها.

على الجانب الآخر، قدمت مخرجات الحوار الوطنى الأخيرة دعمًا واضحًا لهذه المقاربة، عبر التأكيد على ترشيد الإنفاق الاستثمارى العام، والاكتفاء بإتمام المشروعات القائمة، وتوجيه الموارد إلى القطاعات ذات المردود الاقتصادى والاجتماعى المرتفع، مع الدعوة لإخضاع الصندوق السيادى لمستوى أعلى من الشفافية والإفصاح، وهى فى الحقيقة توصيات تتكامل مع فلسفة السردية، وتؤكد الحاجة إلى وحدة القرار الاستثمارى تحت مظلة تخطيطية واحدة.

اللافت أن هذه المخرجات أيضًا أعادت طرح مسألة «ملكية الدولة»، ودعت إلى صياغة أكثر وضوحًا لوثيقة سياسة الملكية، بحيث تحدد حدود الدولة فى النشاط الاقتصادى، وتضمن حيادها التنافسى، وتُفعّل دورها كمُنظم لا كمحتكر، وهو بالضبط ما ألمحت إليه السردية حين تحدثت عن تعظيم كفاءة إدارة الأصول العامة وتوسيع نطاق الشراكة مع القطاع الخاص.

وهذا التقاطع بين الوثيقتين يشير إلى أن الدولة باتت تدرك أن الإصلاح الهيكلى الحقيقى لا يكمن فى مزيد من الإنفاق، بل فى تحسين إدارة الأصول والموارد الموجودة، غير أن تحقيق هذا الاتساق يتطلب - قبل أى شيء -عودة وزارة التخطيط إلى قلب العملية الاقتصادية، لا كشريك بروتوكولى، بل كصاحبة الولاية الاستراتيجية على رسم التوجهات الكلية وربطها بالسياسات المالية والاستثمارية، فالتخطيط ليس خصمًا من الكفاءة، بل هو شرطها المؤسسى، وإذا استُعيد هذا الدور، فإن السردية ستصبح وثيقة عمل حقيقية لا نصًا توصيفيًا.

ملخص القول، إن السردية الوطنية فى شكلها الحالى هى خطوة فى الاتجاه الصحيح لأنها تحاول أن تخلق لغة واحدة داخل الجهاز الحكومى وتقدّم للعالم سردًا متماسكًا عن أولويات الدولة، لكنها ستظل فى حاجة إلى أن تُترجم إلى خطة تنفيذية واضحة تربط بين التمويل والنتائج، وبين السياسة والاستثمار، وبين الرؤية والواقع، وإذا نجحت فى ذلك، ستصبح الامتداد الطبيعى لقانون التخطيط، والأداة التى يمكن من خلالها تحويل الخطط إلى مؤشرات قابلة للقياس، واللغة الحكومية إلى لغة استثمارية مفهومة للأسواق.

قد لا تكون السردية الوطنية وُلدت كعرض استثماري، لكنها تُقرأ كذلك اليوم، وتلك ليست مشكلة بل فرصة؛ فإذا أحسنت الدولة استخدام هذه القراءة ونسّقت بين مؤسساتها لجعل السردية مرجعية تخطيطية واستثمارية فى آن واحد، فستكون قد أعادت تعريف العلاقة بين التخطيط والتمويل فى مصر، وربطت أخيرًا بين النص القانونى والرؤى والواقع التنفيذى، وبين لغة الدولة ولغة السوق فى إطار واحد من الاتساق والوضوح.

الاكثر قراءة