تقرير البنك الأسترالي، لم يخلُ من التحذيرات، إذ نبه محللو «إيه أن زد» إلى احتمالية حدوث انعكاس حاد فى الأسعار فى حال لجوء الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى إلى تشديد السياسة النقدية مجدداً أو حدوث انتعاش مفاجئ فى الاقتصاد الأمريكي، وهى عوامل قد تدفع الذهب إلى مسار هبوطى غير متوقع بعد هذه الموجة الصاعدة.
وفى مصر، يشهد سوق الذهب والفضة حالة من الترقب والهدوء بعد الارتفاع الكبير فى الأسعار خلال الأشهر الأخيرة، ما جعل حركة البيع والشراء تتباطأ بشكل واضح داخل الصاغة، فبين من يترقب هبوط الأسعار ليغتنم فرصة الشراء، ومن يتمسك بما لديه من مدخرات ذهبية، أصبح الذهب ملاذا آمنا للبعض وعبئا ثقيلاً على آخرين. وفى الوقت نفسه، عاد الاهتمام بالفضة كخيار استثمارى أقل تكلفة، بينما يحاول التجار والزبائن التكيف مع واقع جديد تتبدل فيه الأسعار كل يوم، وخلال جولة «المصور» داخل شارع الصاغة، استطلعت آراء عدد من التجار والخبراء والمشترين لرصد حال السوق وتغييرات سلوك الشراء فى ظل الارتفاعات المتواصلة فى أسعار الذهب والفضة.
فى البداية، أوضح الدكتور وصفى أمين واصف، رئيس الشعبة العامة للمصوغات والمجوهرات سابقاً، مستشار شعبة الذهب والتعدين باتحاد الصناعات المصرية، أحد أبرز تجار الذهب فى الصاغة، أن «حركة البيع والشراء داخل السوق تشهد حالة من الهدوء والبطء الشديدين، حيث إن عدد عمليات البيع قد يبدو ظاهرياً فى نفس المعدلات المعتادة، لكن الفارق الحقيقى يكمن فى ضعف القوة الشرائية لدى الزبائن، حيث إن الزبون لم يعد يشترى بنفس القيمة أو الوزن كما كان فى السابق، بل أصبحت المشتريات تتركز فى القطع الصغيرة والخفيفة، فى محاولة للتكيف مع الارتفاع الكبير فى الأسعار خلال الفترة الأخيرة».
«د. وصفي»، أشار إلى أن «أسعار الذهب فى السوق المحلية شهدت ارتفاعا كبيرا منذ بداية العام، تجاوز نحو 40 فى المائة مقارنة بنهاية عام 2024، حيث إن جرام الذهب عيار 21 وهو الأكثر تداولا فى مصر ويعرف شعبياً باسم «الذهب البلدي»، سجل حالياً نحو 5750 جنيهاً، بينما بلغ سعر جرام الذهب عيار 18 حوالى 4920 جنيهاً، ويطلق عليه فى الأسواق العالمية اسم «الذهب الإفرنجي»، كما أن الأسعار المحلية تتأثر بشكل مباشر بحركة المعدن فى البورصات العالمية».
وتابع: ضعف القوة الشرائية لدى المواطنين أجبر الصناع على التوجه نحو إنتاج مشغولات خفيفة الوزن للغاية، حيث إن الزبائن باتوا يبحثون عن قطع صغيرة لا تتجاوز نصف جرام، مثل الحلق البيبي، بعدما كانت نفس القطعة تصنع فى السابق بوزن يتراوح بين جرام ونصف الجرام وجرامين، كما أن هذا التحول فى أنماط الشراء أثر سلباً على حركة التصنيع داخل الورش، إذ تراجعت كمية الإنتاج، خاصة أن أرباح التجار والمصنعين تحسب بالجرام وليس كنسبة مئوية من قيمة البيع، وهو ما جعل انخفاض الأوزان ينعكس مباشرة على هامش الربح وحركة السوق ككل.
كما أكد «واصف» أن «سوق الجنيهات الذهب والسبائك يشهد حالة من الهدوء بعد موجة الإقبال الكبيرة التى شهدها خلال العامين الماضيين، حيث إن العديد من المواطنين الذين كانت لديهم سيولة نقدية زائدة عن احتياجاتهم اتجهوا فى ذلك الوقت إلى شراء السبائك والجنيهات كملاذ آمن لحماية مدخراتهم من تقلبات الأسعار، كما أن هؤلاء المشترين حققوا بالفعل مكاسب واضحة مع ارتفاع الأسعار، ولذلك أصبحوا متمسكين بما يمتلكونه من ذهب، دون رغبة فى البيع أو إعادة الشراء فى الوقت الحالي، وهو ما أدى إلى جمود نسبى فى حركة السوق، حيث لم تترجم هذه المقتنيات إلى مبيعات جديدة أو دورة تداول نشطة كما كان يحدث سابقاً»، لافتًا إلى أنه «مع الارتفاع الكبير فى الأسعار خلال الفترة الأخيرة، لجأت المصانع إلى ابتكار وحدات أصغر من السبائك لتناسب قدرات المشترين المختلفة، حيث ظهرت سبائك بأوزان 20 جراماً و10 جرامات و5 جرامات و2.5 جرام وحتى جرام واحد، بل إن بعض المصانع بدأت مؤخراً فى إنتاج سبائك أقل من الجرام الواحد، لتكون خيارات ميسرة للراغبين فى الادخار بمبالغ محدودة أو تقديمها كهدايا رمزية ذات قيمة».
ومن الذهب إلى الفضة، قال زكى صبري، البالغ من العمر 62 عاماً، والذى يعمل فى مجال الفضة منذ عام 1980، أى ما يقرب من 45 عاماً من الخبرة، إن «سوق الفضة يشهد حالة من التذبذب وعدم الاستقرار خلال الفترة الأخيرة»، موضحاً أنه «فى الماضى كان الزبائن يقبلون على شراء الخواتم والسلاسل والتعليقات بغرض الزينة فقط، أما الآن فقد تغير نمط الإقبال تماماً، حيث إن العديد من العملاء باتوا ينظرون إلى الفضة كوسيلة استثمارية شبيهة بالذهب، ولكن بتكلفة أقل، حيث يفضل الكثيرون شراء السبائك الفضية باعتبارها استثمارا فى متناول اليد، كما أن هناك شركات متخصصة تقوم بإنتاج هذه السبائك بأوزان متعددة تبدأ من 10 و20 جراماً، مروراً «بالأونصة» التى تزن 31 جراماً، ثم 50 و100 جرام، وصولاً إلى الكيلو والاثنين كيلو جرام، حيث إن سعر الكيلو الواحد من الفضة يتراوح حالياً بين 80 و90 ألف جنيه حسب النقاء والشركة المنتجة».
وأشار «صبري» إلى أن «الزائرين الأجانب يميلون إلى اقتناء المشغولات ذات الطابع المصرى الأصيل، وخاصة القطع المستوحاة من الفن الفرعونى أو التراث البدوى والأنتيكات القديمة»، لافتاً إلى أن أنواعا معينة من المشغولات تحظى بإقبال خاص، مثل أعمال المصممة عزة فهمي، والشغل العربى المطعم بالفضة، والمشغولات المنقوشة بالآيات القرآنية، وخواتم ودبل التحصين المزخرفة بآية الكرسي، حيث إن هذا النوع من المنتجات يجمع بين القيمة الجمالية والرمزية، ويعد الأكثر طلباً من السياح والزوار الباحثين عن قطعة تعبر عن روح مصر القديمة.
كما أكد أن الفضة لا تقتصر على المشغولات والزينة فحسب، بل تشمل أيضاً أنواعا من الجنيهات الفضية التى تحمل طابعا تذكاريا وتاريخيا مميزا، حيث من بين هذه الأنواع جنيه فضة يعرف باسم «جنيه جورج»، وهو مخصص للزينة وليس للاستثمار، إلى جانب مجموعة من الجنيهات القديمة التى أصدرتها مصلحة صك العملة تخليداً لشخصيات وأحداث بارزة فى تاريخ مصر، مثل جنيهات خاصة بالملك فاروق، والرئيس جمال عبد الناصر، والرئيس أنور السادات، وأخرى تحمل صورا رموز فنية مثل أم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وتم إصدارها كذكريات تمجيدية تباع لهواة الاقتناء والمعجبين، حيث إن وزن هذه الجنيهات يبلغ نحو 15 جراماً بعيار 715، بينما توجد إصدارات أخرى تذكارية مثل جنيه «تحويل مجرى النيل»، وجنيه «الطعام للجميع»، وجنيه «الأزهر الشريف»، وهذه تزن حوالى 25 جراماً بنفس العيار (715)، حيث تلك الجنيهات تجمع بين القيمة الرمزية والتاريخية والجمالية، وتظل مطلوبة من هواة الجمع ومحبى التراث المصري.
ومن داخل أحد محال الذهب أوضح نمر الجواهرجي، أحد أقدم تجار الذهب بالصاغة، ويعمل فى المهنة منذ نحو 40 عاماً، أن السوق تشهد فى الوقت الحالى حالة من الهدوء الواضح والتباطؤ فى حركة البيع والشراء، حيث إن الارتفاعات الكبيرة فى الأسعار خلال الفترة الماضية أربكت السوق، خاصة بعد الهبوط المفاجئ الذى حدث مؤخراً عقب تداول أنباء عن التوصل إلى تصالح وانتهاء الحرب، وهو ما انعكس على أسعار الذهب عالمياً فتراجعت بين 70 و80 دولاراً للأوقية.
وأشار «نمر» إلى أن هذا الانخفاض المفاجئ جعل حركة السوق تتجمد موقتاً، لأن معظم الزبائن توقفوا عن الشراء ترقباً لمزيد من الهبوط فى الأسعار، على أمل اقتناص فرصة للشراء عند مستويات أقل، وهو ما تسبب فى ركود نسبى رغم استمرار الطلب داخل السوق، مضيفًا أن «السوق شهدت قبل نحو شهر حالة من النشاط الملحوظ فى حركة البيع والشراء، خاصة مع الارتفاع المتتالى فى أسعار الذهب وقتها، حيث كان الزبائن يعتقدون أن الأسعار ستواصل الصعود لتتجاوز حاجز الستة أو السبعة آلاف جنيه للجرام، وهو ما دفع الكثيرين إلى الشراء بهدف الاستثمار أو الادخار قبل زيادة الأسعار».
وتابع: مع استقرار الأسعار نسبياً خلال الأسابيع الأخيرة، بل وتراجعها قليلاً، تراجعت حركة السوق بشكل ملحوظ، حيث إن الزبائن أصبحوا فى حالة ترقب وانتظار لما ستؤول إليه الأسعار خلال الفترة المقبلة، مما أدى إلى بطء واضح فى التداول وتوقف جزئى فى المبيعات.
بينما أوضح أحمد علم الدين، أحد الزبائن الذين حرصوا على الشراء رغم ارتفاع الأسعار، أنه جاء إلى الصاغة لشراء بعض المشغولات الذهبية كنوع من الادخار الآمن بعد الارتفاع المتواصل فى الأسعار، مؤكدًا أنه يفضل تحويل جزء من مدخراته إلى ذهب بدل الاحتفاظ بالنقود، لأن قيمتها تتآكل مع الوقت.
وأضاف «علم الدين»، أنه اختار شراء سبائك صغيرة وأحيانا جنيهات ذهب، باعتبارها أسهل فى البيع وقت الحاجة، مشيراً إلى أن الناس حاليا تعتبر الذهب وسيلة تحويش طويلة المدى وليس مجرد زينة.
من جانبه، قال لطفى منيب، نائب رئيس شعبة الذهب والمجوهرات بالاتحاد العام للغرف التجارية، إن «الارتفاع الكبير فى أسعار الذهب خلال الفترة الأخيرة يعد زيادة عالمية غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، وسعر أوقية الذهب وصل مؤخراً إلى نحو 4375 دولارا ثم تراجع حتى 4259 دولاراً، بعدما كان فى مطلع يناير 2025 عند حدود 2600 دولار فقط، أى بزيادة تقترب من الضعف خلال أقل من عام واحد، حيث إن هذا الارتفاع الحاد بدأ مع عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى سدة الحكم، وما تبع ذلك من فرض رسوم جمركية مرتفعة واندلاع حرب تجارية مع عدد من القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين ودول الاتحاد الأوروبي، كما أن تلك السياسات خلقت حالة من الارتباك والضبابية فى الأسواق العالمية وأثرت سلباً على حركة الاستثمار، مما دفع رءوس الأموال والمؤسسات المالية الكبرى إلى الاتجاه نحو الذهب باعتباره الملاذ الآمن فى فترات عدم الاستقرار الاقتصادى والسياسي، وهو ما زاد من حجم الطلب العالمى على الذهب ورفع أسعاره إلى مستويات تاريخية».
وأضاف «منيب» أن الأزمة الاقتصادية التى تشهدها الولايات المتحدة، وما رافقها من حالة شلل حكومى مؤقت بسبب الخلافات المالية، ساهمت فى زيادة المخاوف لدى المستثمرين والمؤسسات المالية، ما جعل الإقبال على الذهب يتضاعف باعتباره الملاذ الآمن الوحيد وسط اضطراب الأسواق، حيث إن النتيجة الطبيعية لهذا الاتجاه العالمى كانت ارتفاع الطلب على الذهب إلى مستويات فاقت المعروض، الأمر الذى دفع الأسعار إلى القفز لمستويات تاريخية جديدة.
«منيب»، لفت إلى أن «الذهب صعد بوتيرة سريعة وغير معتادة مدفوعاً بموجات من القلق الاقتصادى والسياسى عالمياً، لكن هذا الصعود بحسب تعبيره، لن يستمر إلى ما لا نهاية»، مؤكداً أن المنحنى سيصل فى وقت معين إلى ذروته قبل أن ينقلب فجأة بنفس سرعة الصعود تقريباً.
وبالحديث عن حالة الركود، قال لطفى منيب، إن «الركود الحالى فى أسواق الذهب له أسبابه الموسمية والاقتصادية معاً، حيث إن شهر أكتوبر يتزامن عادة مع فترة انشغال الأسر بمصروفات المدارس والجامعات، إلى جانب أنه ليس موسماً للأفراح أو الأعياد التى تنشط خلالها مبيعات المشغولات الذهبية، حيث إن هذا التوقيت السنوى دائماً ما يشهد انخفاضا فى الإقبال على شراء الحلى والمجوهرات بغرض الزينة، فى حين زاد الطلب بشكل ملحوظ على السبائك والجنيهات الذهبية مؤخراً، حيث إن الشراء فى هذه الفترة أصبح بغرض الادخار ضد ارتفاعات جديدة محتملة فى الأسعار وليس بهدف التجمل أو الهدايا».