رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

كل الطرق تؤدي إلى الله

6-9-2025 | 10:50

حلمي النمنم

طباعة
حلمي النمنم

يميز العلماء والعارفون بين عدة طرق إلى الله تعالى، تقود المؤمن نحو الرضا والسعادة أو الاطمئنان إلى أنه قريب من الله فعلا وقولا، ومن أبرز هذه الطرق.. طريق الخوف وطريق الرجاء وطريق الحب.

أما الخوف فهو طريق من أيقنوا أن "مخافة الله رأس الحكمة"، والخوف هنا لا يعنى الجبن أو غياب الشجاعة كما يتصور البعض، ولكنه شدة الإيمان والاحترام، ومن ثم يكون الخوف أن يعد المؤمن عاصيا لله تعالى فيحبط عمله في الدنيا وينال العقاب في الآخرة، يوم العرض على الله، هنا يحرص المؤمن قدر الإمكان على تجنب المعاصى فلا يعتدى على المال العام ولا يمس أعراض الناس وشرفهم أو سمعتهم، باللسان أو بالفعل، باختصار الابتعاد عن نواهى الله والاقتراب مما يحثنا عليه من فضائل وقيم رفيعة.

طريق الرجاء، يقوم على حقيقة أقرها القرآن الكريم "ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" باختصار إذا فعلت الخير سوف تجده في طريقك وأمامك، بعض النظر عما إذا كان قد أحسن استقباله من الآخرين أم لا..؟ وكذلك من يعمل شرا، سوف يلقى الجزاء المستحق، إن لم يكن في الدنيا ففى الآخر، طريق الرجاء يعنى رغبة صاحبه أن يكون في الجنة، أما في الدنيا يكفيه أن ينعم بإحساس الرضا وراحة الضمير، فضلا عن الثقة في الجزاء الإلهى الحق والعدل عن كل ما يقوم به الإنسان في حياته.

الطريق الثالث أو طريق الحب، يسلكه أولئك الذين يقبلون على الله، لا خوفا من أحد ولا طمعا في شيءولا رجاء في أى فوز، فقط يقبلون على الله لذاته، حبا لله وفى الله، وهؤلاء يطلق عليهم "أصحاب الطريق" أو رجال التصوف العظام في التاريخ الإسلامى والإنسانى كله، شعار هؤلاء "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وليس المقصود هنا الرؤية المباشرة أو العيانية، فلا أحد يحتملها من البشر، لكن الرؤية بالقلب وبالروح والنفس، لذا جاء القول، كأنك تراه، هذا عن الإنسان، أما في حالة الله تعالى، كان القول مؤكداً .. فإنه يراك.. إن في اللغة العربية تعنى التأكيد.

الرؤية بالقلب والروح، تعنى أن يشرق نور الله داخلك وأن تحسن استقباله، فيتطهر القلب من الحقد والغل وكراهية الآخرين، ويتخلص مما فيه من سوداوية، فلا بغضاء ولا تحاسد، بل حبا في الله ولله.

طريق الحب يبدأ بالزهد والتخلى أو الاستغناء، لا تهالك على ملذات الحياة ولا جريا خلف المطامع والرغبات الدنيوية، الزهد فيما يشغل الناس ويسرق أعمارهم، من تهالك على مظاهر الحياة، ومع الزهد يكون التخلى عما يشغل الآخرين، أو الاستغناء، كان محى الدين بن عربى يردد "إذا استغنيت اغتنيت" الغنى الحقيقى هو في الاستغناء يمكن أن تجد ثريا كبيرا، قد يكون لديه مليارات الدولارات، لكنه يعيش بإحساس الفقير المحتاج، لأنه يريد أن يضاعف ثروته، وحتى لو ضاعفها فقد يزداد إحساسه بالفقر، لأن المال لا نهاية له، والطمع لا يقف عند حد، والفقر، قبل أن يكون قلة ثروة ومال، هو فقر في الإحساس والمشاعر، لكن الغنى الحقيقى، في الاستغناء، أن نشعر بأن كل ذلك إلى زوال وأن حياة الإنسان مهما طالت، لها حد سوف تقف عنده في لحظة .

وقد يتصور البعض أن الزهد هو طريق الفقراء والمحتاجين فقط، وهذا ليس دقيقا قد لا يجد الفقير ما يزهد فيها وقد لا يتاح له ما يستغنى عنه، لكن بالتأكيد لديه الكثير الذى يتعفف عنه، فلا يدفعه الفقر إلى الاقتراب من المال الحرام وارتكاب المعاصى والإطاحة بالضمير، ولا أن يترخص في الأخلاق العامة للفوز ببعض ما يفتقر إليه وينقصه، لذا فإن التشكيك فى زهد الفقير ليس له ما يبرره على أن الزهد والاستغناء يكون أوضح في حال من أقبلت عليه الدنيا بكل ما فيها من زخرف ومباهج، سواء في المال والثرة أو في النفوذ الواسع والتأتير الطاغى على المحيطين به، من عوام وخواص.

ولعل نموذج أبو حامد الغزالى الملقب حجة الإسلام، هو الأبرز في هذا السياق، كان الغزالى في بغداد، الإمام والمعلم، موضع ثقة الوزير وكافة رجال الحكم، بالمعنى الحرفى مسموع الكلمة لديهم، يتمنون رضاه، وأقبلت عليه الدنيا بثرائها الواسع، يحسده الكثيرون على ذلك، وربما يحاولون الكيد له، حسدا وحقدا.. هو القائل في "رسالة أيها الولد".. ناصحا "كل عداوة قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عداك على الحسد:.

رغم كل هذا، في لحظة معينة، ضاق بكل هذه الحظوة وذلك الثراء الواسع، الضجيج العام يخنق روحه، وحجم الصراعات حوله  بأخذ من نفسه الكثير، فقرر أن يتخلى عن ذلك، وأن يستغنى عن هذه البهارج، لكن كانت أمامه مشكلة، أن الانسحاب من كل هذه المواقع سوف يفسر على أنه تمرد وعداء، لذا أعلن أنه قرر الخروج إلى الحج، يؤدى الفريضة، وانتهى به المطاف في دمشق بالمسجد الأموى، عابدا زاهدا وحيدا.. الطريف أن أولئك الذين كانوا يكيدون له ويحسدونه على اقترابه من أهل السلطة، راحوا يدسون له ويشنعون عليه أنه يتعالى على الوزير وعلى السلطان وأنه ينتوى التمرد والخروج، لكن الله أنجاه المهم أنه استغنى وتحمل.. زهد ، وسار في طريق الحب الإلهى، وقدم لنا رسالة ماتزال تقرأ وتدرس إلى اليوم في جامعاتنا وفى الكثير من الجامعات حول العالم هى "المنقذ من الضلال.." التى قام بتحقيقها ودراستها شيخ الأزهر الراحل د. عبدالحليم محمود.

الميل إلى الزهد والتكشف أو التخلى؛ يتأسس لدى أهل الطريق على مشاهد ومواقف من السيرة النبوية والاحاديث الصحيحة وهى عديدة؛ أما السيرة فهى مدونة في سيرة ابن هشام وكذلك في كتب الطبقات؛ خاصة طبقات ابن سعد وكذلك كتب المغازى والسير.

أما الأحاديث.. فلدينا عن أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها- قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين حتى لحق بالله.." وعن ابن عباس قال "والله لقد كان يأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الليالى ما يجدون فيها عشاء.

كان رسول الله قبل النبوة من أهل اليسار المالى؛ وراح كل ذلك في سبيل نشر الدين الجديد؛ وبعد صلح الحديبية راحت أحوال المسلمين تتحسن اقتصاديا؛ ثم مع فتح مكة وبعدها غزوة حنين؛ كانت تحت يدى رسول الله الكثير من الفيء الغنائم وله عليه الصلاة والسلام فيها نصيب محدد؛ ومع ذلك لم تتغير حياته ولا حياة بيته .. زهداً وتقربا إلى الله.

وسار في هذا الطريق كذلك عدد من صحابة رسول الله تأسيا بسيرته وحياته صلى الله عليه وسلم.. وكان الأمر عاديا حتى نهاية عصر الفاروق عمر؛ لكن مع اتساع الفتوحات وكثرة الفيء؛ وقد وسع الخليفة الثالث عثمان بن عفان على المسلمين؛ وصار لدى بعضهم ثروات كبرى وضياع؛ هنا شعر البعض بالقلق وربما الفزع؛ فكان التنادى إلى الزهد وتذكر حياة رسول الله ومعاناة المسلمين الأوائل؛ هنا كان التوقف أمام الأحاديث النبوية التي تدعو إلى الزهد وتحذر من الانهماك في مطالب ومتاع الحياة الدنيا.

من المهم أن نتذكر ذلك؛ لأن بعض الدارسين تأثرا بآراء عدد من المستشرقين ذهبوا إلى أن الميل نحو الزهد والتصوف وفد على المسلمين من بعض الاتجاهات القاسية  وذهب البعض الآخر إلى أنه وفد على العرب من  اتجاهات مسيحية في البلاد المفتوحة، خاصة بلاد الشام .

طريق الحب، يقوم على التسامح وأن باب الله مفتوح للجميع، لا يرد أحدا ولا يغلق في وجه ساع إليه؛ مهما كان ذنبه أو خطؤه؛ وفقا للآية الكريمة "وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان.."

قد يتصور بعض المتزمتين أن الطريق مقفل أمام فرد ما؛ لذنب عظيم ارتكبه لكن رحمة الله واسعة وغفرانه عظيم؛ قد يكون هناك لص أو قاطع طريق ؛ ثم في لحظة يفيق، يضيء نور الله قلبه؛ يتوب ويهجر ذلك كله متجها إلى الله بقلب سليم؛ وهناك في التاريخ الاسلامى؛ نماذج عظيمة لأناس قد اتجهوا إلى الله؛ هنا تحضرنا شهيدة العشق الإلهى رابعة العدوية.

طبقا لبعض الدراسات أمضت رابعة جانبا من حياتها فى لهو، كانت غانية؛ ارتكبت ما شاء لها من ذنوب ومعاصى؛ لكن في لحظة نورانية؛ أراد الله لها مساراً آخر؛ فاستجابت ومضت في الطريق الجديد متقطعة لحب الله؛ وجاءتها المغريات العديدة وتلقت عروضا سخية بالزواج والثراء؛ لكنها كانت مضت مولية عن كل ذلك.. وتركت لنا ميراثا رفيعا من الشعر الصوفى نتغنى به إلى يومنا هذا.

إذا صح منك الود فالكل هين     وكل الذى فوق التراب تراب :

وقالت أيضا:

أحبك حبين حب الهوى    وحب لأنك أهل لذاك

فأما الذى هو حب الهوى   فشغلى بذكرك عمن سواكا

وأما الذى أنت أهل له    فكشفك للحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي    ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

طريق الحب والزهد؛ يعرف أنه طريق الخاصة أو أهل الصفوة؛ ذلك أن خصوم هذا الطريق رموه بأنه يدعو إلى السلبية وتجاهل الدنيا والحياة؛ يدعو إلى الكسل؛ بينما مطلوب منا العمل والاجتهاد، رسالة الإنسان هي إعمار الأرض وبناء الحضارة وليس هجران الدنيا.

كان يمكن أن يصح هذا المأخذ أو تلك الملاحظات؛ لو أنه طريق إجبارى؛ ملزم للجميع؛ لكنه ليس إجبارياً ولا هو ملزم للكافة؛ طريق ومسار اختيارى يقوم به بعض الأفراد فضلا عن أن الزهد والترفع والتعفف؛ لا يعنى بالمطلق هجران الدنيا ومقاطعة الحياة؛ هو البعد عن الاستغراق في ملذاتها والتهالك على مغرياتها ونسيان القيم والخلق القويم في سبيل ذلك.

أيا كان الأمر واختيار الإنسان فإن تعدد الطرق إلى الله تعالى؛ تعنى أن كل الأبواب مفتوحة وكل الطرق تؤدى إلى الله؛ إذا سرنا في أي منها بإخلاص وصدق.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة