لقد وجد آل البيت عليهم رضوان الله وسلامه فى مصر حقيقة المحبة والولاء اللذين أمر الله تعالى بهما فى قوله: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، فاستأنسوا بأهل مصر، وأحبوا أرضها، واستأنس بهم أهل مصر، فاتخذوا من محبتهم عقيدة، ومن موالاتهم فريضة، فلا تجد قلبًا مصريًا إلا وقد انطوى على وهج المحبة لآل النبى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لا يخالف فى ذلك منهم أحد إلا من انحرف عن الجادة، بعد ظهور الفكر الوافد، على أيدى الذين قالوا إنما نحن مصلحون.
ورثت عن أبى وأمى رحمهما الله ولعهما بزيارة آل البيت الكرام، ثم أكد لى صلاح ذلك، وعظيم أجره عند الله: دراستى فى الأزهر المعمور، فاتخذت ذلك عادة، أرجو ألا يصرفنى الله عنها ما بقيت.
ولقد رأيت فى مراقد ساداتنا آل البيت ما لا أحصيه من مواقف الحياة، التى تشهد للمصريين بجمال الروح، ونقاء السريرة، وصدق المحبة، وخلوص التوحيد، ولعلنى لا أنسى يومًا قصدت فيه لزيارة السيدة سكينة رضى الله عنها، فكان عجبًا.
يومها مشيت فى شارع الأشراف، بحى «الجمالية»، والذى يسميه العامة بـ«بقيع مصر»، حيث اجتمعت فيه غالبية مراقد آل البيت الأطهار، ولا تكاد نفس الزائر لتك البقعة تنكر ذلك العبق الروحانى المنبعث من أرجاء الطريق، حتى ليستشعر المار صفاء الروح، وهدوء القلب، وشفافية البصيرة، لمجرد المرور هناك بقصد الزيارة والبركة.
فهناك مرقد: السيدة نفيسة، والسيدة رقية، والسيدة عاتكة، وسيدى محمدالأنور، وفى القلب من مراقد آل البيت الأطهار فى هذه المنطقة: مسجد السيدة سُكَينة بنت الإمام الحسين، رضى الله عنها وأرضاها.
ما أن دخلت إلى شارع السيدة سكينة، الواقع خلف مسجد السيدة نفيسة رضى الله عنهما، حتى قابلتنى تحفة معمارية عظيمة، تجمع بين الطراز الفاطمى والمملوكى والعثمانى، ولها مئذنة رشيقة ثلاثية الدورات، وتضم بداخلها ضريح السيدة الطاهرة: سكينة بنت الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم.
وحين دخلت إلى المسجد ذى الأعمدة الثمانية، وجدت الطمأنينة والسكينة تسريان فى داخلى، وكأن الله تعالى قد جعل للمكان من وصف صاحبته واسمها نصيبًا وافرًا، ركعت إلى جوار المنبر الخشبى العتيق، ركعتين فى خشوع وتدبر، وكأنى قد فارقت فيهما ضيق الدنيا، إلى روضة من رياض الجنة، نعمت فيها بقرب المولى تعالى، مستشعرًا رفقة الصالحين الأطهار.
أما ضريح السيدة سكينة رضى الله عنها، والذى يقع بابه على يمين الداخل من باب المسجد، فحوله مقصورة كبيرة من النحاس الأصفر، يعلوها تابوت خشبى متقن الصنع، ولوحات من قصائد الحب فى مدح صاحبة المقام رضى الله عنها.
وهناك كان يجلس ذلك الشيخ البصير المسن، بلحيته البيضاء المنيرة، وهو لا يفتر عن تلاوة القرآن الكريم، لا يقطعه عن ذلك قاطع إلا القيام إلى الصلاة، يجلس وفى حجره قطع من الحلوى المغلفة، لا أدرى أيؤتى بها إليه، أم يأتى هو بها معه، فإذا دعا أحد الزائرين دعوة مستجابة ـ كما عرفت بعد ذلك ـ ألقى إليه بقطعة من الحلوى لا تخطئ طريقها نحوه، وكأن من ألقاها بصير العين، يرى الداعى ويرصده.
وعلى اليسار، كان يقف ذلك الشاب الهائم فى المحبة، أمام المقام، ينشد بصوته العذب الرنان: «رضينا يا بنى الزهرا رضينا .. بحب فيكمُ يُرضى نبينا»، ثم يتهدج صوته ويغلب عليه بكاء المحبة، فلا يفتأ الحاضرون وقد أصابهم الوجد من قدسية المعنى، وجمال النغم أن يتواجدوا، ليرددوا خلف الشاب الهائم ما يقول، فى لوحة شريفة، تعبر أحسن ما يكون عن صدق المحبة، وجلال الوجد، وعظيم الشوق.
حتى إذا صلينا الظهر، دخل ذلك الشيخ الأواه، بثوبه الريفى البسيط، ومظهره المتواضع، ليقف أمام المقام الشريف، ملقيا لقصيدة من شعره، جاءت لتعبر عن أذواقه ومواجيده، وكأنه قد أتى إلى صاحبة المقام رضى الله عنها مسترشدًا مستشيرًا، وظل يلقى أبيات قصيدته فى هدوء وأناة، بصوت قد غلفه صدى الحزن، حتى إذا استخفه الحال، وظهر عليه الوجد، راح يصرخ قائلاً: «أفتنا يا فقيه فى شربها على عرفات.. لو ذقت منها قطرة همت بها حتى الممات»، ليرتفع صوت الحاضرين بذكر الله تعالى هاتفين: «الله .. الله».
كما كانت هناك تلك المرأة العجوز، دخلت إلى المقام بابنها الصغير، شاكرة حامدة، لا يفتر لسانها عن قولة: «الحمد لله»، ثم توجهت إلى صاحبة المقام رضى الله عنها، متمسحة بالمقصورة، مقبِّلة لها، وكأنها تلتمس بركة من حلَّت فيها، من وراء السور النحاسى، والتابوت الخشبى، وقديمًا قال قيس بن الملوح:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى * أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبى * وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
ثم ترفع يديها داعية راجية، لتخرج بعدها وقد حمل وجهها علامات الرضا، وبشارات القبول والعطاء.
عالم من الأسرار فى مقام السيدة سكينة رضى الله عنها، محبون يسعون للزيارة، وصديقون يترقون فى مقامات القرب، وملهمون يحدثون عن الله تعالى بما علَّمَ وألهَم، وفقراء يطلبون حاجاتهم متوسلين إلى الله بأهل معرفته والقرب منه، وبين جميع هؤلاء وشيجة من محبة آل البيت الكرام، والتعلق بجدهم عليه الصلاة والسلام، والانتماء لدين الإسلام الحق، والطمع فى رضاء الله تعالى وفضله.
ولا تزال مصر بخير ونعمة، ولا يزال أهلها فى فضل وعافية، لا يضرهم من آذاهم أو عاداهم، طالما كانت فيهم محبتهم لآل نبيهم، وعنايتهم بهم، ودوامهم على صلتهم، فاللهم لا تقطعنا عن أمداد الصالحين المتقين.