بداية لابد أن نعترف أن محفوظ كان موظفا مثاليا، ومنضبطا، ويخلو سجله مما يشين، فلا مخالفة مخلة بالشرف، ولا لفت نظر، وذلك يرجع لأمور عدة، أولها: طبيعة نجيب المنضبط كالساعة، المثالي، الذى يمشى (جنب الحيطة)، المسالم جدا، ثانيا: طبيعة عصره الذى كان يشجع القدوة الصالحة، ويرفع من قيمة الموظف لعنان السماء، وكما منحته الوظيفة الاستقرار والأمان، منحته عوالم فسيحة من الشخصيات الدرامية نهل منها وجسدها فى قصصه.
يحكى محفوظ عن بدايته فى عالم الوظيفة فى جامعة القاهرة، التى تخرج فيها طالبا بقسم الفلسفة، وكان والده التاجر يحب أن يرى ابنه من خريجى الحقوق مثل سعد باشا، أو وكيل نيابة، أو على أقل تقدير خوجه، أو معلم، ولكن نجيب خيب ظنه، واختار الفلسفة، وكما قال لى نجيب إن أزمة كمال عبد الجواد فى الثلاثية هى ذات أزمته فى مستهل حياته العملية، وكلنا نتذكر حوار كمال مع أبيه أحمد عبد الجواد، حين سخر الأب من أسئلة ابنه عن أصل الحياة والخلق!..
عمل محفوظ موظفا فى الجامعة، وجاءته منحة للسفر لأوروبا لدراسة الماجستير فى الفلسفة، ولكن الموظف المختص باختيار المبتعثين ظنه مسيحيا، فلم يوافق على سفره، وكان نجيب قرر مواصلة دراسة الفلسفة ثم عدل عن ذلك.
قبض محفوظ المرتب الميرى، وأحس بذاته كموظف (أفندى) يرتدى الطربوش فوق رأسه، ويرتدى بدلة كاملة، ويزهو بنفسه، فضلا عما يتقاضاه من مكافآت نشر مقالاته فى مجلة أستاذه سلامة موسى، والذى نشر له أول كتاب ترجمه عن مصر القديمة، كما نشر له أول رواية فرعونية.
بعد ذلك انتقل محفوظ للعمل مع أستاذه الشيخ مصطفى عبدالرازق، حين تولى وزارة الأوقاف، وكان الشيخ مصطفى يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية لمحفوظ فى جامعة القاهرة، وكان محفوظ يقدره كثيرا، فانتقل للعمل معه سكرتيرا فى وزارة الأوقاف، رغم المسافة الشاسعة بينهما فى الانتماء السياسي، فالشيخ مصطفى وعائلته المنياوية العريقة، أحد أهم أقطاب حزب الأحرار الدستوريين، ونجيب وفدى حتى الثمالة، عاش ومات منتميا للوفد وزعيمه سعد زغلول، ومصطفى النحاس من بعده!
وفى وزارة الأوقاف التقط نجيب قصة وشخصية (محجوب عبد الدايم) بطل قصة (القاهرة 30)، وقدم لنا هذا الانتهازى الذى ضحى بأبيه المريض، وبأمه، وقدم زوجته هدية لمديره فى سبيل تطلعاته الدنيئة، وبسبب نشر تلك الرواية، قدم بعض الموظفين مذكرة فى نجيب، واتهموه بأنه يشهر بهم، وحقق معه مفتش الوزارة آنذاك، وكان الشيخ سيد حسين، شقيق طه حسين، وبرأه مما نسبوه إليه.
ولكن محفوظ ذكر فى حوار صحفى لاحقا أنه قدم (محجوب) بصورة لطيفة، لأنه كان أشد حقارة وانحطاطا مما قدمه!..
ومن عمله فى وزارة الأوقاف أيضا استقى محفوظ حكايات كثيرة عن مصاعب ومآسى أصحاب الوقف الخيرى فى إثباته، أو محاولة الحصول على ريعه، وسجل لنا فى قصصه القصيرة، وفى رواياته بعض تلك المآسى التى تفضح الروتين الحكومى.
ثم تغير الشيخ مصطفى، وجاء وزير آخر، فطرد محفوظ من مكتبه، وغضب عليه لوفديته، فنقلوه للعمل فى (قبة الغورى)، وهى سنوات قضاها نجيب بلا عمل حقيقي، مجرد موظف كسول بلا عمل، فانتهز الفرصة الثمينة، وأخذ يقرأ بنهم، كما عاد لحى الجمالية، عشقه الأبدى، وجلس يوميا على مقهى الفيشاوى، يدخن الشيشة، ويتناول قهوته، خاصة أن أسرته كانت انتقلت للسكن فى حى العباسية، وكان كل أشقائه وشقيقاته قد تزوجوا، ومات أبوه، ولم يعد إلا هو يرعى أمه المسنة.
بعد ذلك انتقل نجيب للعمل فى مصلحة الفنون، تحت رئاسة يحيى حقي، وشاركه فى مكتبه الأديب اليمنى الأصل على أحمد باكثير، وهى الفترة الناصرية التى ازدهر فيها الفن الشعبي، ونجح حقى فى تقديم (يا ليل يا عين)، على مسرح الأوبرا، وقدم الرقصات الشعبية المصرية أمام عبد الناصر وضيوف مصر مثل جوزيف تيتو.
ويحكى يحيى حقى تلك الحكاية العجيبة التى تدل على انضباط نجيب الموظف، يقول: كان نجيب يجلس على مكتب فى حجرة خارج مكتبى كمدير، وكنت كلما دخلت أو خرجت من مكتبى أراه يقف احتراما لي، فمنعته من ذلك، وأخبرته أنه أديب مثلي، ولا يصح أن تكون علاقتنا مجرد علاقة رئيس ومرؤوس، وكنت أرى (بوستة الصباح) أوقعها معه على مكتبه.
ثم ترقى محفوظ فأصبح رئيسا لمؤسسة السينما بوزارة الثقافة، وهو منصب بدرجة وكيل وزارة، وجاءه صلاح أبو سيف صديقه القديم، وأول من علمه فن كتابة السيناريو، وطلب منه تحويل قصصه إلى أفلام، فرفض نجيب، منعا للقيل بأنه استغل منصبه. وفى تلك الفترة كان هيكل فى (الأهرام) يقوم بجمع نخبة مصر الفكرية والأدبية منهم لويس عوض، ولطفى الخولى، وبنت الشاطئ، وصلاح طاهر، ويوسف إدريس، وإحسان، وغيرهم، وعرض على نجيب فكرة الانضمام لقامات (الأهرام)، فرفض نجيب، وأصر ألا يقدم على تلك الخطوة إلا بعد خروجه على المعاش، وهو ما تحقق فيما بعد، ويعكس عمق تقديس نجيب للوظيفة ومسؤوليتها.
ذلك ما تيسر من سيرة نجيب الموظف، أما المبدع الذى خلد دنيا الموظفين، فيحتاج الأمر لدراسة مفصلة، لأن غالبية أبطال قصصه منهم، مثل، (أحمد عاكف) فى (خان الخليلى)، و(محجوب عبد الدايم وسالم الأخشيدى ابن نفيسة العجانة) فى (القاهرة 30)، و(حسين كامل) فى (بداية ونهاية)، و(وكامل رؤبه لاظ) فى (السراب)، وياسين، وكمال، ورضوان، وعبد المنعم فى (الثلاثية)، و(عيسى الدباغ) فى (السمان والخريف)، هذا الموظف الكبير الذى أطاحت ثورة يوليو بأحلامه، فانتكس، وخرج فى التطهير، فنقم على كل شيء!.. و(أنيس زكى) فى (ثرثرة فوق النيل)، وهو الموظف الذى كان مكلفا بتجهيز مخدر الحشيش فى العوامة كل ليلة، والذى وصفته الصحفية بأنه (نصف حي، ونصف ميت)، والذى طالع مديره تقريرا له فوجده كتب أوله ونفد حبر قلمه فلم يع ذلك، فقال له: (يبدو أن عينيك تنظران إلى الداخل وليس إلى الخارج كبقية خلق الله)!.. و(سرحان البحيرى) فى (ميرامار)، هذا الأفاق الذى ادعى الثورية وكان يسرق بالات القطن من شركة القطاع العام، وكان يردد شعارات ثورية لا يؤمن بها!.. و(حامد برهان) فى (الباقى من الزمن ساعة)، و(إسماعيل قدرى) فى (قشتمر)، و(عثمان بيومى) فى (حضرة المحترم)، هذا النموذج الذى عاش يحلم بمنصب المدير العام، وكأنه به ضمن موضعه فى الجنة، وهو القائل: (الوظيفة فى تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد)!
وفى (المرايا) قدم نجيب 55 شخصية متنوعة، وفى (العائش فى الحقيقة) عن قصة حياة (إخناتون)، يقول الحكيم أى (أبو نفرتيتى):
“عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع فى الفساد، ويسوم الفقراء سوء العذاب».