فى مكتبه بالدور الرابع بمبنى التليفزيون العربى، كان لقاؤنا، قال لى الكاتب الكبير إنه قرأ ما كتبناه تباعا فى «المصور» فى تعديل قوانين الأحوال الشخصية، ولما سألته رأيه قال:
لو رجعنا إلى القرآن نفسه، لوجدنا أنه يبيح تعدد الزوجات، بشرط يستحيل تحقيقه، وهو «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» ومسألة الجدل بين الزوجين بلا شك مسألة مستحيلة، لذلك فإذا كانت «الحجة» هى التمسك بتعاليم الدين فالدين يمنع التعدد بصفة قاطعة. وفى رأيى أن التعدد لا يجب أن يحدث إطلاقا إلا فى علة مرض أو علم الزوجة الأصلية ولا يحدث الزواج الثانى إلا بموافقتها، ويترك لها الحرية إما أن تستمر مع زوجها أو تُطلق منه.
قلت: ومسألة الطلاق أمام القاضي؟
قال: أوافق عليها وأؤيدها، ولا يجب أن يحدث الطلاق إلا بعد التروى الكامل، وإعطاء الفرصة للطرفين لإصلاح ما فسد بينهما، ثم يُعرض الأمر على مجلس العائلة، وإن قبل الأخير، فليس هناك إلا بحث الأمر أمام القاضى.
قلت: إذن... فأنت تؤيد أن تعدل قوانين الأحوال الشخصية على نحو ينصف المرأة والأسرة بعض الشيء؟
قال: طبعا.. وهذه هى سنة التطور.. بل وأقترح أيضا أن ينشأ نوع من أنواع التأمين فى بداية كل زيجة يدفعه الزوج والزوجة إذا كانا عاملين، أو يدفعه الزوج وحده إذا كانت الزوجة غير عاملة. وهذا التأمين ضمان للأسرة فى حالة وقوع طلاق أو وفاة أو خلافه. وأقترح أن يخصص هذا التأمين بالذات للزوجة غير العاملة التى لا تجد مَن ينفق عليها، بعد أن يطلقها زوجها، فتتعرض بهذا الشكل للانحراف والفجوة إلى طرق غير سليمة للتعايش.
قلت لأستاذ القصة الطويلة والقصيرة:
لقد كنت أتوقع أن أستمع منك، وأنت الفنان المتفتح المشاعر، هذه الآراء التقدمية.. لذلك فلم أدهش.. فمن يكتب عن المجتمع بالصورة الصادقة التى كتبت بها عن مشكلة «صابر» فى «الطريق» ومشكلة «عمر الحمزاوى» فى «الشحاذ» لا بد أن تكون هذه هى آراءه، وبمناسبة الطريق ما رأيك فى الفيلم والحلقات التليفزيونية بصراحة.. وأيهما أقرب إلى «صابر الحقيقى» رشدى أباظة فى الفيلم أم صلاح قابيل فى التليفزيون؟
قال نجيب:
بصراحة تامة أعجبتنى الحلقات التليفزيونية أكثر من الفيلم.. فهى بصفة عامة أكثر إتقانا واقترابا من المعنى الذى قصدته فى الرواية. والملاحظ أن الفيلم مسّ المعنى الحقيقى للقصة من بعيد، بل واكتفى من بعيد بالتلميح إليه.
أما الإعداد التليفزيونى فقد ركز على المعنى بطريقة صارخة، وقد كنت أودّ فى الحلقات التليفزيونية أن يتركوا فرصة للمشاهد لكل يصل إلى المعنى المقصود بنفسه بالتدريج. أما من حيث شخصيتى رشدى أباظة فى الفيلم وصلاح قابيل فى التليفزيون، فالملاحظ أن رشدى أباظة كان قد بذل مجهودا كبيرا جدا فى الفيلم، لكن الدور لم يكن دوره. أما صلاح قابيل فهو أقرب فعلا إلى صابر القصة.
قلت لنجيب: إننى كقارئة لكل مؤلفاتك القديم منها والحديث.. ألاحظ أن كلا من شخصيتى «صابر» فى الطريق و«عمر الحمزاوى» فى الشحاذ، كلاهما لرجلين ضائعين يبحثان عن هدف بعيد. فهل نقصد بضياعهما التعبير عن قلق وحيرة الإنسان فى العصر الجديد؟
قال: هناك فرق كبير بين صابر وعمر الحمزاوى.. بل أعتقد أن «عمر الحمزاوى» مرحلة جديدة وخطوة جديدة.. لقد كان صابر يبحث طول الوقت عن والده «سيد سيد الرحيمى».. كان يبحث عن الكرامة والحرية والسلام، وقد ظل حتى النهاية ضائعا ولم يعرف الطريق الصحيح الذى يوصله إلى هدفه.. أما الشحاذ فلقد كان يبحث عن شيء لا يعرفه. وإزاء الشيء الذى يريده ولا يعرف كيف يحصل عليه. مر بمجموعة تجارب. جرب أن يحصل عليه مر بمجموعة تجارب، جرب أن يحصل على نشوته من الحب، ثم اكتشف أن نشوة الحب ما هى إلا نشوة وقتية.
وبعد مرحلة شديدة على نفسه من التجارب، مرت به لحظة تصوف، أحس خلالها أن هذه هى النشوة الدائمة التى بحث عنها طول حياته، والتصوف ليس بالمعنى الذى يظنه الناس.. وهو الرهبنة.. التصوف فى رأيى هو أن يعيش الإنسان لكى يستفيد منه الناس.
ويخدم المجتمع ويربى أولاده ويرعى زوجته وأهله ويقوم بالتزاماته فى صبر وبلا ملل، هذا هو التصوف الحديث فى رأيى.
قلت: إذن.. فإن شحاذك كان شحاذ مبادئ وقيم؟
قال: بل شحاذ حقيقة، وقد كان لا يملك السبيل الحقيقى إليها، بلا منهج علمى.
قلت: وإنتاجك الجديد؟
قال: رواية جديدة، أسميتها «ثرثرة فوق النيل».
قلت: والأدب الحديث.. أو أدب العبث واللامعقول والاتجاهات الفكرية العالمية الحديثة .. هل تتابعها وما هو رأيك فيها؟
قال: عندما يتبع القارئ الأدب الحديث يجده تطورا طبيعيا بالنسبة لثرائه الفنى من ناحية وبالنسبة لموقفه الحضارى من جهة أخرى، لذلك فإننى أعتبره طبيعيا مهما اعتوره من خصائص قد نعدها شذوذا، أما عن مواقفنا منه فيجب أن تتحدد بأصالة على ضوء واقعنا وموقفنا من الحياة والواقع. وأعتقد أن أدبنا سيتأثر بالأدب العالمى بدرجة أكثر مما كان يتأثر به فى الماضى، بالنظر إلى موقفنا السياسى، وقد اتخذ طابعا عالميا الذى سيجعل من المحتوم أن نتلقى فى نفس الوقت تأثيرات علمية فى الفن وخلافه. فنحن لم نعد نعيش فى قوقعة، بل لنا صلات مودة وتنافر وجذب ومد مع العالم، وتبعا لذلك فنحن نعيش فى معظم الانفعالات والمشاعر المتباينة.
قلت: لكن .. هل تتابعه وتقرؤه بشغف؟
قال: بالطبع.. وقد تذوقت منه الكثير.
قلت: تجربة الكتاب المصريين فيه.. مثلا.. توفيق الحكيم؟
قال: توفيق الحكيم تأثر بأدب العبث لكنه فى نفس الوقت طوره ليخدم به غرضا بناء لا غرضا عبثيا.
قلت: ألم تجرب أبدا.. أن تكتب خصيصا للمسرح؟
- قال: الكاتب المسرحى يجب أن يعيش للمسرح عيشة كاملة، وأنا أفضل أن أقرأ مسرحية على أن أشاهدها، لذلك فأعتقد أننى لن أكون كاتبا مسرحيا فى يوم من الأيام.
قلت هى نهاية حديثى:
- لقد سمعت أنك محافظ جدا فى بيتك، وأنك منظم أكثر من اللازم، فأنت مثلا تنام بميعاد وتكتب بميعاد وحتى سجائرك تدخنها بميعاد، فهل هذا صحيح وهل تنوى أن تعلم بناتك للنهاية وتدعهن يعملن؟
قال نجيب ضاحكا: أنا لا أفكر أننى منظم، وليس من الضرورى أن تكون «الهرجلة» هى إحدى صفات الفنان. وأنا منظم لأننى موظف وملتزم بمواعيد المكتب، ولو لم أنظم وقتى لما كنت قد أتممت عملا فنيا واحدا، أما فى البيت ومع كريمتى «أم كلثوم» 8 سنوات، و«فاطمة» 5 سنوات، فأنا أب عادى جدا. أما زوجتى فأعتبرها شريكة بمعنى الكلمة، بالطبع أنوى أن أعلمهما حتى النهاية وأعطيهما الحرية مثل باقى البنات وأترك لهما حرية العمل، أما من حيث السجائر فأنا لست مدخنا وعلبة سجائرى للضيوف!