كما أشارت الإحصائيات إلى أن العديد من سائقى النقل لا يمتثلون لقواعد المرور، بل يتجاوز بعضهم السرعة المقررة، ويتعاطون المخدرات؛ حتى يظلّوا مستيقظين فترات طويلة.
فما نكاد نستفيق من كارثة مرورية مروعة، وقبل أن تجف دماء الأبرياء التى سالت على الأسفلت، حتى تداهمنا كارثة مرورية أكثر ترويعًا، فخُيّل للبعض أن الموت أصبح يسكن كبائن تلك الشاحنات القاتلة، إلى الحد الذى جعل مجرد ظهورها على الطرق أصبح يثير فزعًا ويسبب رعبًا ينذر باقتراب خطر الموت أو وقوع كارثة، لا يعلم حجمها إلا الله، ومن ثمّ كثيرًا ما تنتابهم حالة من الارتباك والذعر.
بالفعل لم نكَد نستفيق من الفاجعة المرورية المروعة التى وقعت فى شهر يونيو الماضى، وراح ضحيتها 18 فتاة من قرية كفر السنابسة التابعة لمحافظة المنوفية، ومعهن سائق الميكروباص الذى كان يقلّهم، حين اصطدمت بهم «التريلا» الملعونة على الطريق الإقليمى الأوسطى نتيجة استهتار ورعونة سائقها، الذى قطع عليهم الطريق فجأة سائرًا عكس الاتجاه، وتبين فيما بعد أنه لم يكن يحمل رخصة قيادة... حتى فُجِعنا بحادث مرورى جديد، وقع ظهر يوم الخميس الماضى على طريق الإسكندرية – مطروح، فى منطقة تبعد عن مدينة الضبعة مسافة 10 كيلومترات، وأسفر الحادث عن وفاة 3 أشخاص وإصابة 18 آخرين، بعضهم فى حالة حرجة، واندلاع النيران فى 11 سيارة.
الحادث المروع الجديد وقع نتيجة انقلاب «تريلّا» كانت محمّلة بالبضائع واشتعال النيران فيها، مما تسبب فى تصادم الإحدى عشرة سيارة فى بعضها بعضا، واشتعال النيران فيها، حتى تفحمت تمامًا.
إذن نحن أمام كوارث مرورية متكررة، لا بد أن نتوقف عندها، ونستنفر الجهود من أجل الحد منها.. لا بد أيضًا أن يتحرك المسئولون المعنيون وبسرعة؛ من أجل التوصل إلى حلول جذرية توقف نزيف الدم المسال على الطرق، فلا يُعقل أن نصحو كل يوم على واحدة من تلك الحوادث المروعة، أرجوكم.. لا أحد يتشدق بجملة «القضاء والقدر»، بل هو الإهمال بعينه.. إهمال جسيم لا تتحمله وزارة النقل أو الحكومة التى أنجزت أهم مشروع قومى للنهوض بالطرق فى مصر بتوجيه من القيادة السياسية، المشروع الذى بدأت خطوات تنفيذه منذ عام 2014، حتى الآن، وانتهى بالفعل من إنشاء وتطوير طرق جديدة بأطوال تصل إلى أكثر من 7 آلاف كيلومتر، بالإضافة إلى تطوير وازدواج، ورفع كفاءة 10 آلاف كيلومتر أخرى جرى الانتهاء منها.
بل إهمال يتحمله ملاك وقائدو التريلات، ومعهم الإدارة العامة للمرور المنوط بها وبكمائنها، رقابة الطرق وضبط السائقين المخالفين، الذين دائمًا ما يكونون المتسبب الأوحد لهذا النوع من الكوارث.
نحن بالفعل أمام ظاهرة تستدعى، وفورًا، ضرورة مراجعة جميع الإجراءات الخاصة برقابة الطرق من جهة، والتعامل بقسوة مع شاحنات النقل الثقيل من حيث سلامتها الفنية من جهة أخرى، والتدقيق الدقيق فى منح رخص القيادة وعدم السماح لغير المؤهلين بقيادتها، وحرمان المخالفين حرمانًا نهائيًا منها، ناهيك عن الفحص المشدد والمستمر لقائديها حتى يتأكدوا من عدم تعاطيهم أية مواد مخدرة، فالقيادة تحت تأثير المخدر تمثل جريمة مزدوجة، لأنها لا تقتصر على السائق فقط، بل تعرض حياة العشرات من الأبرياء للموت.
علينا أن نواجه الحقيقة المرة التى تشير إلى أن العنصر البشرى لا يزال المتسبب الرئيسى لغالبية حوادث الطرق، وبالتالى لا بد أن نجرى العديد من الدراسات والأبحاث، يشارك فيها خبراء من كافة الجهات المعنية، سواء أساتذة الطرق أو قيادات المرور من أجل الوقوف على أسبابها ووضع الحلول والتوصيات الملزمة، ولا بد أيضًا من تكثيف الحملات التوعوية عبر وسائل الإعلام، نبثّ من خلالها كل التوصيات والإرشادات الهامة لسائقى سيارات النقل الثقيل، مع المناشدة المتكررة لمنع السرعات الجنونية والالتزام بالسرعات المحددة على الطرق، وتوخى الحذر أثناء القيادة، والانتباه إلى فحص إطارات المركبات وعدم التخطى الخاطئ أو التسابق أثناء السير بالمحاور، والإكثار من رادارات السرعة على الطرق.
والحقيقة أن مسألة رادارات الطرق هذه تحتاج إلى مراجعة من جانب الخبراء والفنيين، بعدما اكتظت الأسواق بأجهزة رصد أماكنها قبل الوصول إليها، بل وظهور تطبيقات على الهواتف الذكية تكتشفها هى الأخرى، وتصدر لقائدى المركبات إشارات تحذيرية لتهدئة السرعة، وسرعان ما يستأنفون سرعاتهم الجنونية مرة أخرى بعد تجاوز أماكن تلك الرادارات.
وفى هذا السياق أتصور أنه لن تستعصى على الخبراء مسألة التوصل إلى طريقة تبطل مفعول الأجهزة أو التطبيقات الكاشفة لأماكنها، مع مضاعفة غرامات السرعة وعدم الاكتفاء بالغرامة المادية بل بالحبس والغرامة معًا، ومنع المخالفين من القيادة لمدة تصل إلى عام، وعند تكرار المخالفة يُحرم السائق من القيادة نهائيًا، حتى تصبح العقوبة رادعة لكل مَن يخالف تعليمات المرور.
أعود مرة أخرى إلى الحديث عن التريلات وكوارثها التى لا ولم تنتهِ.. فهل يعقل مثلًا أن تسير تريلا محملة بعشرات الأطنان من البضائع بسرعة جنونية تتجاوز الـ150 كيلومترًا فى الساعة؟ بالله عليكم.. أية فرامل يمكن أن توقف عجلات هذه التريلا؟ وهل يُعقل أن يدخل سائقو 3 تريلات فى سباق سرعة كما حدث على طريق الواحات بمنطقة 6 أكتوبر؟ أى جنون هذا وأية عقوبة يمكن أن تردع مثل هؤلاء المجانين؟
نحن بحاجة إلى إصدار قانون مرور جديد به بنود صارمة تلزم سائقى سيارات النقل الثقيل بقواعد مرورية أكثر صرامة، بنود تغلظ العقوبات وتقضى بالسجن سنوات طويلة وبالحرمان من مزاولة المهنة مدى الحياة، وليس بسحب رخصة القيادة لمدة لا تزيد على 30 يومًا إذا أسفر الحادث عن جريمة قتل أو إصابة خطأ وفق القانون الحالى، وكذلك رفع سقف الغرامات والتعويضات لتصبح بملايين الجنيهات، يتحملها السائق المخالف، ومعه مالك الشاحنة.
نحن بحاجة إلى قانون جديد يوضع خصيصًا لمحاربة الحوادث المرورية، يشمل عقوبات مغلظة، تصل إلى معاملة تعاطى المواد المخدرة أثناء القيادة، بنفس معاملة الاتجار فيها؛ حتى يكون عبرة لغيره.
أعود مرة أخرى لأتساءل: لماذا لا تخضع سيارات النقل الثقيل إلى فحص فنى دقيق كل 3 أشهر للتأكد من سلامتها؟ وهل توقفت عملية تحجيم سرعتها عند الـ80 كيلومترًا فى الساعة كما كان يحدث فى الماضى؟ لا سيما أن الشركات المصنعة لها قد تفننت فى تزويد كبائن القيادة بكماليات تحقق للسائقين رفاهية غير محدودة من ناقلات حركة أوتوماتيكية وتكييفات وباور ومقاعد كهربائية فائقة الراحة، شجعتهم على السير بسرعات جنونية.
لماذا لا توفر شبكات الطرق السريعة على مستوى الجمهورية -كلها وليس بعضها- حارات مرورية لسيارات النقل والنقل الثقيل فقط حتى نمنع اصطدامها بالمركبات الصغيرة ونقلل من حوادثها؟
لماذا لا تشترط إدارة المرور ضرورة اجتياز المتقدمين للحصول على رخصة القيادة المهنية بدرجاتها الثلاث دورة تأهيلية إجبارية؟
وهنا دعونى أثمن مبادرة وزارة النقل التى انطلقت منذ شهر تحت اسم «سائق واعٍ.. لطريق آمن» بهدف دعم وتطوير منظومة النقل فى مصر من خلال تطوير مهارات الكوادر البشرية باعتبارها الركيزة الأساسية لبناء الدولة الحديثة، وشرعت فى تنفيذها الشركة القابضة للنقل البحرى والبرى، التى انتهت بالفعل من تخريج الدفعة الأولى من السائقين المشاركين فيها، وعددهم 250 سائقًا على القيادة الآمنة، بمشاركة نخبة من خبراء المرور والمدربين المتخصصين، وشمل التدريب جوانب متكاملة نظرية وعملية تناولت أحدث أساليب القيادة الاحترافية، وقواعد المرور والإشارات، وكيفية التعامل مع المواقف الطارئة، بالإضافة إلى التدريب على الصيانة الوقائية للمركبات ومعالجة الأعطال البسيطة، إلى جانب التوعية السلوكية والنفسية؛ لرفع مستوى الانضباط والالتزام المهنى لدى السائقين.
هذه المبادرة لن تكون مجرد دورة تدريبية، بل تحولت إلى مشروع وطنى استراتيجى يستهدف إعداد كوادر من السائقين، يمتلكون الوعى والمسئولية والمهارة، ويساهمون فى رفع معدلات السلامة المرورية وتقليل نسب الحوادث، فلا شك أن تدريبهم سيسهم كثيرًا فى الحد من حوادث الطرق، وهذا هو الأمل المنشود.