فى ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، جاء إعلان الأمم المتحدة تفشى المجاعة رسميًا فى القطاع ليكشف جانبًا آخر من المأساة، إذ يعانى مئات الآلاف من نقص حاد فى الغذاء والمياه والدواء، فى ظل انهيار كامل للبنية التحتية الصحية. هذا الاعتراف الأممى لا يُعد مجرد توصيف للوضع، بل دليل دامغ على أن القطاع يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة فى العصر الحديث، الأمر الذى وضع المجتمع الدولى أمام مسئولية عاجلة للبحث عن حلول، فى وقت تتزايد فيه حركات التضامن الشعبية والاحتجاجات فى العواصم العالمية ضد استمرار الحرب.
فى مقدمة ردود الفعل الإقليمية، أدانت وزارة الخارجية المصرية إعلان تفشى المجاعة فى قطاع غزة، محمّلة إسرائيل المسئولية الكاملة، عمّا وصفته بـ«جرائم التجويع المتعمّد ضد المدنيين العزل»، مؤكدة أن «ما يجرى لا يمكن تبريره تحت أى ذريعة أمنية، بل يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولى الإنسانى»، داعية المجتمع الدولى إلى التحرك الفورى؛ لوقف هذه الجريمة، وفتح ممرات إنسانية دائمة؛ لإدخال الغذاء والدواء.
ووصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الوضع فى غزة بأنه ليس مجرد أزمة غذائية، بل «كارثة من صنع الإنسان»، داعيًا إلى وقف إطلاق النار فورًا وفتح المعابر الإنسانية دون تردد.
واعتبرت المملكة المتحدة وأيرلندا وسلوفينيا، أن ما يجرى «كارثة إنسانية يمكن تجنبها بالكامل»، مطالبين إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات دون عوائق، وهو ما شدد عليه وزير الخارجية البريطانى ديفيد لامى حين وصف الموقف بأنه «أمر مقزز أخلاقيًا، كما أصدر أعضاء مجموعة The Elders، ومن بينهم قادة دوليون سابقون مثل هيلين كلارك ومارى روبنسون، بيانًا حذروا فيه من أن رفض إسرائيل إدخال المساعدات يمثل عملية مقصودة تؤدى إلى «مجاعة متطورة» و»إبادة جماعية تحت التنفيذ»، داعين إلى فرض ضغط سياسى جدى.
فى المقابل وصف رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو التصنيف بأنه «كذبة صريحة»، متهمًا الجهات المعلنة بتجاهل المساعدات التى زعمت تل أبيب السماح بدخولها مؤخرًا، مؤكدًا أن إسرائيل لا تتبع سياسة التجويع بل تسعى لمنعه. بينما أصدر وزير الدفاع الإسرائيلى تهديدات صارمة، قائلًا إن «بوابات الجحيم ستفتح» على غزة فى حال لم تتعاون حماس، ملوحًا بالهجوم على مدينة غزة واستئناف العمليات العسكرية رغم إعلان المجاعة.
وأوضح د. صلاح عبدالعاطى، رئيس الهيئة الدولية للدفاع عن الشعب الفلسطيني، لـ«المصور»، أن إعلان الأمم المتحدة قطاع غزة منطقة مجاعة يُعد اعترافًا صريحًا بأن الاحتلال استخدم سلاح التجويع كسلاح إبادة جماعية، وهو ما يحمله مسئولية مباشرة عن إبادة السكان المدنيين عبر سياسة ممنهجة ترتقى إلى مستوى جرائم الحرب، وتؤكد وقوع جريمة الإبادة الجماعية. وأشار إلى أن هذا الإعلان الصادم، الذى يُعد الأول من نوعه فى الشرق الأوسط والخامس فى التاريخ الحديث، جاء بعد تنامى مؤشرات المجاعة منذ مايو الماضي، حيث يواجه أكثر من نصف مليون إنسان خطر الموت جوعًا، فضلًا عن تسجيل نحو 300 حالة وفاة، بينهم ما يقارب 120 طفلًا. ولفت إلى أن هذه الجريمة تأتى ضمن سلسلة من الإجراءات الممنهجة التى ارتكبها الاحتلال، بدءًا من إغلاق المعابر وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، وحتى حين فُتحت المعابر مؤخرًا لامتصاص النقمة العالمية، لم يدخل القطاع خلال أربعة أسابيع سوى أقل من 2000 شاحنة، أى ما لا يتجاوز 15 فى المائة من احتياجات المدنيين. وأضاف أن الاحتلال تعمد أيضًا عرقلة دخول الأطباء والأطقم الطبية والمستلزمات الحيوية كحليب الأطفال والمكملات الغذائية، ما أدى إلى انهيار المنظومة الصحية وعجزها عن مواجهة أمراض سوء التغذية والإصابات الخطيرة الناجمة عن المجازر.
وأكد «عبدالعاطى» أن هذا الوضع الكارثى هو نتيجة مباشرة لعجز المجتمع الدولى، غير أن إعلان الأمم المتحدة سبب غضبًا واسعًا وأظهر بوضوح أن المنظمة الدولية ودول العالم ضاقت ذرعًا بممارسات الاحتلال. وانتقد بشدة تأخر الإعلان الأممى أكثر من ثلاثة أشهر، مشيرًا إلى أن ظهوره الآن جاء نتيجة الضغط الشعبى الدولى والتحركات العالمية للضغط على إسرائيل لوقف حرب الإبادة وضمان تدفق المساعدات. لكنه حذر من أن الاحتلال يسعى إلى إنكار المجاعة رغم الاعتراف الأممى، بل يواصل تصعيد عدوانه عبر القصف والهجمات على غزة وتهديد المدن بالتدمير وتهجير السكان النازحين، فى وقت يعانى فيه المدنيون من الجوع. وقال: «نحن نحذر من مغبة الصمت واستمرار العجز أمام هذه الجرائم التى تشكل حكمًا بإعدام جماعى على مئات المدنيين، وتدميرًا لشبكات الغذاء، وفرضًا للقيود على المساعدات الإنسانية». وطالب بضرورة تحرك دولى جاد للامتثال للقانون الدولى، وضمان فتح المعابر والممرات الإنسانية لدخول المساعدات والعاملين فى المجال الطبى والإغاثى، وفرض عقوبات على دولة الاحتلال الإسرائيلى.
وأوضح الدكتور ريتشارد تشاسدي، أستاذ محاضر فى جامعة جورج واشنطن لـ «المصور» أن إعلان الأمم المتحدة عن وجود مجاعة فى غزة لم يكن خطوة عشوائية، بل استند إلى «التصنيف المرحلى المتكامل للأمن الغذائي» (IPC)، وهو إطار تحليلى من خمس درجات يحظى باعتراف واسع من المجتمع الدولى. وأشار إلى أن استخدام مصطلح “مجاعة” لا يقتصر على الدلالة الإنسانية فحسب، بل يحمل أيضًا أبعادًا سياسية عميقة. ففى المناخ السياسى الراهن فى الولايات المتحدة، يرى تشاسدى أن إدارة ترامب قد تتردد فى الاعتراف علنًا بهذا التصنيف، خشية أن يسلط الضوء على حجم المعاناة المدنية ويفتح الباب أمام المطالبة بالمساءلة بموجب القانون الدولى. وهذا يعكس التوتر القائم بين التقييمات الفنية لحالة انعدام الأمن الغذائى وبين المصالح الجيوسياسية التى تحدد كيفية تأطير مثل هذه الأزمات على المستوى العالمى.
كما شدد تشاسدى على أن الكارثة الإنسانية فى غزة لا يمكن النظر إليها بمعزل عن القرارات السياسية التى أفضت إليها. فقد اعتبر أن سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، التى همشت إدخال الغذاء والمساعدات الطبية إلى القطاع، كانت فى صميم الأزمة، محذرًا من أن مثل هذه الإجراءات قد تندرج تحت المادة (2 ج) من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية إذا ثبت وجود نية متعمدة لاستخدام التجويع كسلاح فى الحرب. وفى الوقت نفسه، أشار إلى أن حركة «حماس» لعبت دورًا فى تعقيد الوضع، فى حين قصرت أطراف دولية فى اتخاذ خطوات استباقية كان من شأنها التخفيف من حدة الكارثة. وبحسب تشاسدى، فإن المجاعة فى غزة هى نتيجة مباشرة لتقاطع المأساة الإنسانية مع خيارات سياسية اتخذت على مستويات متعددة.