رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الازدواجية الأخلاقية فى روايات نجيب محفوظ


28-8-2025 | 14:30

.

طباعة
بقلـم: د. عطيات أبو العينين

فى مدينة فلورنسا الإيطالية، وتحديدا عام 1469م، وُلد نيقولا مكيافيللي، السياسى والمفكر والفيلسوف، الذى ترقى فى الوظائف الحكومية، إلى أن صار المستشار الثانى للجمهورية. بعد أن استولت أسرة ميديتشى على الحكم، وُضع مكيافيللى فى السجن لأنه كان من المعارضين، إلا أنه فى محبسه قد ألّف كتابا مِن أخبث الكتب التى ألّفها البشر، ولا تزال الإنسانية تعانى من آثاره إلى اليوم.

 

ذلك الكتاب هو كتاب «الأمير»، الذى تودد به لآل ميديتشي، يدعو فيه إلى قيام دولة إيطالية موحّدة، فى ظل حكم قوى، لا يقيم للأخلاق وزنًا فى سبيل السيطرة على البلاد، لكنه مع ذلك فشل فى استرضائهم، إلا أن مضمون الكتاب الخبيث أصبح نظرية رائجة تترجمها سلوكيات الأفراد والجماعات والأمم.

النظرية التى أرسى مكيافيللى دعائمها فى الكتاب هى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فمن أجل الوصول إلى الغاية يتجاوز السياسى أو الحاكم كل أطر الأخلاق والقيم والفضائل، فليس هناك محظور أمام الحاكم للسيطرة على شعبه. هذا المبدأ الشيطانى قد أوغل فى سلوكيات كثير من البشر، يخدّر به الناس ضمائرهم لتجاوز الفضيلة، فطالما أن الهدف مشروع، تتهاوى فى سبيل تحقيقه كل القيم والأعراف، فلا بأس من أن يرتشى الموظف أو يختلس من أجل توفير حياة كريمة لأسرته، ولا مانع من شهادة الزور أمام القضاء من أجل أن ينجو مَن يهمه أمره من العقوبة، ولا ضير فى أن يقوم بالتزوير فى الأوراق الرسمية من أجل السفر أو الحصول على وظيفة.

وتعد أعمال نجيب محفوظ نافذة لفهم المجتمع المصرى فى القرن العشرين؛ إذ تتناول التفاعل بين الفرد والبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من أبرز القضايا التى يثيرها محفوظ فى رواياته:

التوتر بين الغاية والوسيلة، والمأزق الأخلاقى الذى يفرضه الواقع على الفرد: تتجلى هذه القضية بوضوح فى روايات مثل «القاهرة 30» و«بداية ونهاية»، حيث يختبر الشخصيات الرئيسية ضغوط الفقر، السلطة، والبيروقراطية، ويُساءلون خياراتهم الأخلاقية. تركز هذه الدراسة على شخصيات محورية: إحسان شحاتة، نفيسة، حسنين، وحسن مقال، لاستكشاف الازدواجية الأخلاقية وطبيعة مأزق الفرد بين الطموح والواقع الاجتماعي.

إحسان شحاتة: الطموح والانحراف

فى «القاهرة 30»، تمثل إحسان شحاتة نموذجًا للفتاة الطموحة التى تسعى للصعود الاجتماعى والسياسى، حيث تكمن الغاية فى الوصول إلى مركز القوة والاعتراف الاجتماعى، وكانت وسيلتها الانخراط فى الفساد وممارسة الرذيلة مع مسئول كبير. يعرض «محفوظ» إحسان كشخصية محكومة بالظروف الاجتماعية والسياسية، لكن لا يبرر أفعالها الأخلاقية. العبرة تكمن فى أن الطموح الفردى لا يُبرر استخدام وسائل فاسدة، وأن المجتمع الفاسد هو سبب، لا مبرر. الشخصية تعكس ازدواجية المجتمع؛ الفرد مضطر أحيانًا للانحراف، لكنه يبقى مسئولًا أخلاقيًا.

نفيسة: المرأة بين الواقع والواجب

فى رواية محفوظ «بداية ونهاية»، تجسد نفيسة معاناة المرأة المصرية فى مجتمع تقليدى وضاغط، غايتها حماية الأسرة وتحقيق استقرارها وأحلامها كفتاة أن تجد شريكا ينتشلها من الفقر. وسيلتها تجاوز الأعراف الاجتماعية أحيانًا أو اتخاذ خيارات صعبة. يستخدم محفوظ نفيسة لتوضيح مأزق المرأة، حيث الظروف تفرض عليها اختيارات أخلاقية معقدة. الرواية لا تبرر الوسيلة، لكنها تعرض الضغوط الاجتماعية التى تجعل هذه الوسيلة خيارًا واقعيًا، لتدلل على أن نفيسة تعبر عن نموذج للالتزام الأخلاقى الجزئي، أو الالتزام الظاهرى الذى يرتضيه الجميع فى مواجهة ضغوط المجتمع.

حسنين: الطموح وسط الفقر

حسنين فى «بداية ونهاية» يمثل الشباب الطامح الذى يسعى لتحسين وضعه الاقتصادى والاجتماعي، غايته الارتقاء الاجتماعى وتحقيق الذات، وسيلته أحيانًا تجاوُز القيم الأخلاقية تحت ضغط الحياة اليومية، شخصية حسنين تظهر تأثير الفقر على الخيارات الأخلاقية، لكنها تؤكد أن الفرد مسئول عن أفعاله، وأن الانحراف هو استجابة للظروف، وليس نتيجة طمع شخصى محض. يسلط «محفوظ» الضوء على العلاقة التفاعلية بين الفرد والمجتمع، حيث الطموح لا يبرر الوسيلة أخلاقيًا.

فى أعمال نجيب محفوظ، نجد أن الفرد مسئول أخلاقيًا عن أفعاله، لكن المجتمع يخلق ظروفًا تجبره على تجاوز القيم. فالروايات تؤكد أن الغاية لا تبرر الوسيلة، مهما كانت الظروف. وشخصيات مثل إحسان شحاته، نفيسة، حسنين، وحسن مقال توضح الازدواجية الأخلاقية ومأزق الفرد بين الطموح والواقع الاجتماعى والسياسي. ومحفوظ يستخدم الأدب كمرآة تعكس المجتمع، مع طرح تساؤلات فلسفية حول الأخلاق، المسئولية، والطموح الفردي.

أما مبدأ مكيافيللى، فهو لا يقتصر على إتيان المحظور عند الضرورة، ولكن يشمل الوصول إلى كل غاية طالما رآها محمودة، فيتخذ إليها أى وسيلة حتى ولو كانت تجمع كل الموبقات، كما رأيناها فى بعض الشخصيات فلا بد من مشروعية الوسيلة مع مشروعية الغاية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولكن استطاع نجيب محفوظ أن يقدم هذا الصراع ويقدم نماذج مختلفة تقع تحت ضغوط المجتمع والعوز والفاقة، وبالرغم من ذلك كان هناك على طه النموذج الثورى الذى آمن بالوطن والانتماء والفضيلة.

ويظل مأزق الفرد الذى يكابده طوال حياته بين ما يحلم به وبين الواقع، هل يستطيع كل منا الهروب من الازدواجية الأخلاقية وكيف ولمنْ سننتصر.. لأنفسنا أم للمجتمع؟