رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ترتد على المواطن الأمريكى أولًا.. الرسوم الانتقامية


14-8-2025 | 23:41

.

طباعة
بقلـم: د.وفاء على

لا شك أنه بالنظر إلى المزاج العام الاقتصادى الأمريكى تحديدًا، نجد أن الملفات تداخلت مع بعضها، وقبل أن تستهدف الدول فقد ارتدت إلى أصحابها.. فهناك فاتورة باهظة يدفعها المواطن الأمريكى كنتيجة فعلية مباشرة للعاصفة الاقتصادية الجديدة، التى يثيرها الرئيس الأمريكي، ولم يكن المواطن مستعدًا لها منذ 91 عامًا مضت بسلام على مواطنى أمريكا.

بالأرقام، تكلّفت الأسر الأمريكية زيادة بسبب الرسوم الجمركية الانتقامية قوامها ارتفاع التكلفة على الأسر بأثر مباشر من 2.5 إلى 18.2 فى المائة، وخسرت الأسر قرابة 307 مليارات دولار على 128 مليون أسرة، كما أن 750 ألف موظف فقدوا وظائفهم، مع خسارة للشركات تُقدّر بـ50 مليار دولار، وخسر الاقتصاد الأمريكى ما يُقدّر بـ152 مليار دولار، بالإضافة إلى التدخل المباشر فى سياسة الفيدرالى الأمريكى لأول مرة، وهناك خيط رفيع بين التوجيه والتشهير برجل وول ستريت الذى ينظر إلى البيانات ودورها فى النشاط الاقتصادي، وإقالة رئيسة مكتب إحصائيات العمل كإجراء عقابى على بيانات ضعف الوظائف، بل إن ثقة المستثمرين حول العالم اتجهت بوصلتها إلى التنين الصينى، فالأسواق تتعامل مع الواقع.

سعى ترامب بكل قوته لعمل توليفة الرسوم الجمركية، فالصفقة الناجحة من وجهة نظر ترامب أن يكسب ويخسر الجميع. الكل يعلم أن واردات الصين من أمريكا تبلغ 563 مليار دولار سنويًا، ولم يفلت من إدراكه أن هناك استراتيجية وضعتها الصين لعام 2025 بشأن «صُنع فى الصين»، وأن أمريكا لم تعد تستطيع مواجهة عدم العدالة فى الملف الاقتصادى بين الصين وصادراتها إلى أمريكا.. ولكن هل يتوقف ترامب عند هذا الحد كى يحدث التوازن الاقتصادى بين الصين وأمريكا، حيث يوجد عجز ضخم لصالح الصين فى الميزان التجارى الأمريكي؟ وهنا نقول إن ترامب لا يُلقى بالًا باتفاقية التجارة الحرة أو أى معاهدات دولية. وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من العالم، فإن الصين تنظر إلى قرارات ترامب الحمائية على أنها نوع من الابتزاز التجارى بفعل فرض هذه الرسوم الجمركية.

لقد شعر المجتمع الدولى أنها سياسات تؤدى إلى رالى عالمى نحو القاع بهذه السياسة، وهناك بلا شك حالة من التداخل بينهما بنسبة كبيرة، وفى حالة غرق أحد هذه الاقتصادات سيغرق الكل. ليست الصين فقط فى الزاوية الضيقة، وإنما الاتحاد الأوروبى أيضًا الذى استسلم من الجولة الأولى، والسؤال الهام: هل هو اختبار للقوة تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، من الصين إلى أوروبا إلى بقية الدول فى كل أنحاء العالم ليُعلن بداية فصل جديد من الحروب التجارية؟ وهنا تبرز (فكرة الحروب القومية الاقتصادية من جديد).

لقد تحدث الأمين العام لغرفة التجارة العالمية، جون دينبتون، أن الاقتصاد العالمى والأسواق فى حالة صدمة، فهناك هبوط عنيف طال أسواق المال، وانخفاض حاد فى العقود الآجلة بسبب القلق من الركود الاقتصادى وتعميق الخسائر.. لقد دخلنا حربًا عواقبها وخيمة، ولكن (المواطن الأمريكى يتألم أولًا)، فالشركات الأمريكية التى تستورد المنتجات الصينية أو غيرها، والتى يريد ترامب فرض السياسات الحمائية عليها، سوف تضطر إلى تحميل المستهلك الأمريكى هذه الزيادات، والتى قد تُكلّف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو أكثر من 2600 دولار، وهذا يمثل تحديًا كبيرًا لملف التضخم.

نقاط الضعف فى الاقتصادات الناشئة، ومصر منها، تبرز فى ظل كل هذه السيناريوهات المتداولة لحركة التجارة العالمية، وعلى مصر وشركائها التجاريين تخفيف الآثار السلبية لهذه الحروب التجارية بتنويع حقيبتها الاقتصادية التجارية سريعًا، وتحسين القدرة التنافسية بأقصى سرعة، وتسريع آلية الشراكات الاستثمارية، التى تعتمد على الموقع الجغرافي، وتسريع وتيرة إنجاز مزيد من الإصلاحات لتيسير حركة التجارة العالمية، أى التكيّف الاستراتيجى والمشاركة الاستباقية للتغلب على التوترات التجارية.. وعلى مصر الاستفادة الفعلية من الفرص المحتملة فى بيئة تجارة عالمية تتسم بالتغيير ولا تأخذ أى وقت باستراحة المحارب، فالوقت لا يسعفنا أبدًا، وإعداد الأسلحة التى سنواجه بها الحروب التجارية، كما ينبغى دراسة الأفق الزمنى للمستثمرين سريعًا، ولابد من التوفيق بين التحديات والمخاطرة والأمر الواقع.

وفى مجمل الأمر، فإن السياسات الحمائية لها تأثير سلبى، ليس على الأسواق الدولية فقط، وإنما على الأسواق الناشئة بصفة خاصة، ما يؤدى إلى اضطراب سلاسل التوريد العالمية وتباطؤ النمو الاقتصادى المباشر.

وهنا يشهر الاقتصاد الأمريكى سيفه بسحب الاستثمارات المباشرة من العالم، فماذا أعدّت الفرق الاقتصادية المصرية أولًا، والدول الناشئة بوجه عام؟ خصوصًا أن هناك بعدًا لافتًا للنظر، وهو التأثير على دول الخليج، وهو وارد مع الضغط على الاقتصاد الصينى بفعل التوترات التجارية بين أمريكا والصين.. لذلك، سوف نجد بعض دول الخليج تذهب لزيادة استثماراتها فى السوق الأمريكي، فقد يقل الطلب على النفط الخليجي، وترامب يريد إغراق العالم بالنفط الأمريكي، وهنا قد تتجه الصين إلى الأسواق الناشئة وتغير بوصلتها، ولكن هناك عقبة أمام الأسواق الناشئة، ونحن معهم بالطبع، وهى الذهاب الجماعى بسبب السياسات الحمائية للمستثمرين إلى السندات الأمريكية والذهب كملاذ آمن.

وهنا لابد أن يكون لدينا خطة واضحة المعالم، مستقبلية واستباقية، لأن فرض ضرائب على واردات أمريكا من الدول النامية سيسبب خفض الطلب على منتجات الدول النامية مثل مصر، ومن هنا خفض العملة المحلية، والصورة الفنية الأوسع هى ارتفاع عائد السندات الأمريكية، ما يعنى عودة شبح التضخم من جديد.. ونخرج من سيناريو الفيدرالى الأمريكى وسعر الفائدة وخطته لخفض التضخم إلى تجمع “بريكس”، والأمر الواقع يفرض نفسه، وهو أن يأخذ تجمع “بريكس” قرارات ترامب بعين الاعتبار، وكذلك تهديداته، لأن السياسات الحمائية أربكت الأسواق والعملات الرئيسية، فهناك غموض بشأن المستقبل الاقتصادى العالمي؛ فالدول النامية تائهة، والاتحاد الأوروبى يرتجف، والصين تستعد، وروسيا تتهيأ.

لا ننسى أن الاقتصادات الناشئة هى عصب الاقتصاد العالمي، وأن تدفقات الاستثمارات المباشرة حول العالم لهذه الاقتصادات، ونحن منهم، كانت فى عام 2024 تبلغ 980 مليار دولار. وبوجه عام، يدخل الدولار بصورة مباشرة فى عمليات التمويل المباشر للتدفقات الرأسمالية للدول النامية. والسؤال الآن: هل تستطيع هذه الدول امتصاص هذه الصدمة إن حدثت حرفيًا؟ خصوصًا أن الربع الأخير من عام 2024 شهد خروج حوالى 19 مليار دولار من العالم إلى السوق الأمريكية. والحروب التجارية والسياسات الحمائية الجديدة لترامب، التى أربكت المشهد الاقتصادى العالمى وعملية الاستقرار المالى للاقتصادات العالمية والناشئة، ستُحمّل هذه الأخيرة خسائر، ومن بينها الدول التى لن تستطيع إيصال منتجاتها إلى الأسواق العالمية.. وهنا لابد من تشكيل فريق لإدارة أزمة وابل الحروب التجارية، فعصر التجارة العادلة لن يأتى أبدًا.

إعادة التشكيل فى الملعب العالمي

وقد تكون هذه المحنة فرصة لنا حتى ندعم منتجنا المحلى ونُغيّر بوصلتنا، بمجموعة عمل تُدير ملف التجارة العالمية، لتفتح أسواقًا جديدة فى أوروبا التى وقعت فى مرمى ترامب وتفصيلاته كذلك.

ومصر لها شأن آخر، فهى تستورد بما قيمته 5.1 مليار دولار من أمريكا، وتُصدر بما قيمته 2.6 مليار دولار، وهنا نحن الأكثر استيرادًا.. وهنا نحن من أهم الوجهات التى تستقبل منتجات دول شرق آسيا التى لن تجد غيرنا، وبأسعار مناسبة لنا. وفى نفس الوقت، فرضت أمريكا 10٪ فقط على المنتجات المصرية، وهى فرصة لزيادة صادراتنا إلى أمريكا بجودة تنافسية تُقلّل فجوة الميزان التجارى بيننا وبين الأمريكيين.. الأمر الهام أن القيادة المصرية أعدّت بنية تحتية ومزايا لوجستية وعمالة مدرَّبة، تُـمكّن الاستثمارات المباشرة التى تخرج من أمريكا أو غيرها لتكون على أرض مصر، ومن هنا يتم تغيير الأولويات وإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى فى تموضع جديد وسط معترك الحروب التجارية.

سلبيات إعادة تشكيل السياسات الحمائية

لا شك أن سلاسل الإمداد وحركة التجارة الدولية لن تعود إلى سابق عهدها، ولن تنتهى أزمات التوريد؛ فالأزمة تهدأ فى منطقة وتندلع فى منطقة أخرى. ومع زيادة الأهداف التوسعية، بدأت الأحداث تتصاعد فى السودان لتغيير خريطة التجارة فى البحر الأحمر، كما تغيرت فى البحر المتوسط والمحيطات، وأصبحت التداعيات الأعمق تأتى فى الطريق، وكيفية تأثيرها فى تحولات حركة التجارة الدولية التى أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي.. فالحروب وحدها ليست المسؤولة الوحيدة عن تغير حركة التجارة الدولية، ولكن تم ترتيب العقوبات الاقتصادية لتزيد العقبات أمام التجارة العالمية بعد عصر العولمة الاقتصادية.. لقد رتب أصحاب الفكر التوسعى الجدد للرياح المعاكسة، حتى لو أصابهم جزء منها.

وسنتحدث فى مرة قادمة عن سياسة الإغفال فى العقوبات، فقد تفككت سلاسل التجارة العالمية، واستطاعوا تعطيل سلاسل الإمداد التى خُطّط لها مسبقًا للإضرار بالنمو المحلى والدولي، ولقد أجبرت السياسات الجديدة للدول العظمى العالم - من الدول النامية والناشئة والدول المسيطر عليها- أن تجعل صادراتها فى مجال ونطاق وجودها الجغرافي.

لقد عمّقت الحرب الروسية الأوكرانية الفجوة بين العرض والطلب عالميًا، ونجحت فى رفع أسعار الطاقة، وحدث التشابك الاقتصادي، وخُفّضت القوة الشرائية، وأصبحت التجارة الدولية أداة أساسية للضغط على الدول، كأنها عقوبات غير مباشرة للعالم الذى يحاول التخلص من خريطة التجارة الدولية المُعدة سلفًا.. فقد فهم العالم مؤخرًا: إما الخروج عن الخط المرسوم، وإما مزيد من التجويع والتدمير الاقتصادي، الذى هو أشد من التدمير العسكري؛ لذلك كان هنرى كيسنجر يُحذّر العالم، وأمريكا بالذات.

لذلك، عطفًا على ما سبق، على العالم أن ينتبه سريعًا للحروب التجارية الجديدة، خصوصًا الدول النامية والناشئة التى دومًا تتلقى الصدمة الفجائية.. فالواقع الحالى لسلاسل الإمداد والتوريد لا يتوافق مع عالم تحكمه معطيات متداخلة ومتعددة، لا يستطيع أحد التوقف أو قراءة الأحداث فيه. وهناك حقيقة لا يمكن إغفالها فى عالم يعج بالمشكلات، والنتيجة الواضحة للعيان: هل استطاعت الدول الكبرى تغيير الواقع والخريطة العالمية للتجارة؟.. الإجابة: نعم، بدون مواربة، فأى مشكلة تحدث فى أى مكان فى العالم تتضرر بها تباعًا دول أخرى، بسبب ضعف سلاسل وقدرات الإمداد مع التغيرات المحيطة، حتى أمن المعلومات أثّر على سلاسل الإمداد، واتجهت كل المحاولات والمبادرات لاستعدال البوصلة فى هذا الأمر. لقد أدخلوا الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، والخدمات السحابية، لا لخدمة الشعوب، وإنما لزيادة توسيع الفجوة بين العرض والطلب.

لابد من حلول جذرية للحاق بكفاءة الإمدادات والارتقاء بسلاسل الإمداد، للفرار من خريطة التجارة الدولية الجديدة والسياسات الحمائية. وعلينا أن ننجو من هذا الزحف، بتحويل الاقتصاد الإفريقى إلى بوصلتنا، فهو سوق يضم أكثر من 1.3 مليار شخص، ويمكن لهذه السوق أن تغيّر ديناميكية اللعبة العالمية، وتدفع بالتصنيع والابتكار، ورسم الخرائط الجديدة كنقطة تحول نحو تغيير قواعد اللعبة.. انتبهوا للسياسات الاقتصادية الحمائية بحزم اقتصادية واستثمارية ممنهجة، فهل تهيأت الدول الناشئة، ونحن معها؟ وعلى المستهلك فى مصر والعالم أن يُغيّر خياراته لتفادى سلبيات الحروب التجارية.

 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة