قبل ثمانية وسبعين عامًا.. وتحديدًا فى شهر نوفمبر من عام 1947.. استطاعت الضغوط الأمريكية والإنجليزية.. وخاصة الضغوط الأمريكية.. أن تحصل من الجمعية العامة للأمم المتحدة.. على قرار بتقسيم فلسطين إلى دولتين.. دولة للعرب سكان فلسطين الأصليين.. وأصحاب الحق التاريخى فى أرضها.. ودولة لليهود الذين جلبهم الاستعمار من كل بقاع الدنيا.. لكى يغتصبوا أرضًا لم ولن تكون لهم.. ورغم أن قرار الأمم المتحدة (قرار التقسيم 181 نوفمبر 1947) قد صدر بأغلبية انحصرت فى أقل من أربعين صوتا.. بعد أن امتنعت الكثير من الدول عن التصويت ورفضت الغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية هذا القرار.. الذى يشرعن اغتصاب الأراضي.. ويقر احتلال الأوطان.. وكان الاستعمار الإنجليزى قد فرض (الانتداب) على كل أراضى فلسطين مع بداية العشرينيات من القرن العشرين.. وعمل الإنجليز على مدى أكثر من ربع قرن على تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين بكل الطرق والحيل غير المشروعة.. كما عمل الإنجليز على مد العصابات اليهودية بكل أنواع السلاح.. وقد توحشت تلك العصابات (شتيرن والهاجاناه والأراجون... إلخ).. فى الاعتداء على الفلسطينيين..
والعمل على إنشاء مجتمعات يهودية خالصة.. مثل الجامعة العبرية.. ومدينة تل أبيب.. وازدادت تلك العصابات شراسة وهمجية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.. ثم عملت الحركة الصهيونية الدولية على ضم كل تلك العصابات فى جيش واحد.. استعدادًا للحظة الحاسمة.. تلك اللحظة التى كانت كلمة السر فيها هى إعلان بريطانيا إلغاء الانتداب على فلسطين فى مايو 1948.. لتنطلق العصابات اليهودية المسلحة.. فى عمليات إغارة وحشية على البلدات والقرى الفلسطينية.. على شاكلة ما حدث فى قرية دير ياسين.. وليتم إعلان قيام دولة الكيان المحتل فى 15 مايو 1948.. ولم تكتفِ العصابات الصهيونية بما تم تحديده فى قرار الأمم المتحدة (قرار التقسيم).. ذلك القرار الذى يمثل الشرعية الوحيدة لوجود هذا الكيان المحتل.. حيث توغلت تلك العصابات وتخطت المحدد لها (51 فى المائة من أراضى فلسطين التاريخية).. وسيطرت على 78 فى المائة من مساحة فلسطين.. ولأن غالبية الدول العربية كانت تحت سيطرة الاستعمار.. فلم تكن حركتها بالسرعة المطلوبة.. وانتظرت حتى أكتوبر 1948.. لتتحرك بعض وحدات الجيوش العربية لإنقاذ فلسطين.. والغريب أن قائد الجيش الأردنى الإنجليزى (جلوب باشا).. كان هو قائد الجيوش العربية فى حرب فلسطين.. وقد عمل هذا الرجل على تكتيف وإعاقة حركة الجيوش العربية.. ليعطى الفرصة لجيش الاحتلال.. الذى كان أكثر عددًا وعتادًا من كل الجيوش العربية.. ورغم ذلك استطاعت وحدات الجيش المصرى تحقيق انتصارات كبيرة.. مما عمل على تدخل الغرب بقيادة أمريكا وإنجلترا.. لفرض الهدنة على كل الأطراف المتحاربة.. وكان هدف تلك الهدنة تمكين العصابات اليهودية.. وترسيخ وجودها فى كل الأرض التى سيطرت عليها (78 فى المائة من أراضى فلسطين التاريخية)..
ويؤكد هذا السرد التاريخى أن الأساس فى قضية الصراع العربى - الصهيوني هو حل الدولتين.. ورغم وجود فصيل عربى كبير يؤمن بعودة فلسطين كاملة من البحر إلى النهر فإن القوانين والشرائع الدولية مع العديد من قرارات الأمم المتحدة تؤكد حتمية وجود الدولة الفلسطينية.. تلك الدولة التى تعثر وجودها طوال كل هذه السنوات نتيجة توحش الكيان المحتل.. والأهم وقوف الولايات المتحدة الأمريكية حائط صد لحماية هذا الكيان.. حيث تعمل على استخدام حق (الفيتو) فى مجلس الأمن لمنع أى إدانة للكيان المحتل.. كما تعمل على تفريغ كل القرارات الدولية من مضمونها.
وقد تراجعت المطالبات الدولية والعربية بخصوص الدولة الفلسطينية.. لتصبح أقل من نصف ما تم تحديده فى قرار التقسيم (181 لسنة 1947).. حيث توقفت هذه المطالبات عند حدود الرابع من يونيو 1967.. أى 22 فى المائة من مساحة فلسطين التاريخية.. بل إن منظمة التحرير الفلسطينية قبلت فى اتفاقية أوسلو 1993 بقيام دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة (10 فى المائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية).. ورغم ذلك تواصل سعار الكيان المحتل وراح يقضم ما تبقى من الأراضى الفلسطينية.. ليقيم العشرات من المستوطنات فى الضفة الغربية.. ثم زاد الطين بلة بإعلانه ضم الضفة بشكل نهائى إلى الكيان المحتل.. وذلك بقرار من الكنيست.. وجاء ذلك فى ظل الاعتداء الوحشى على قطاع غزة.. هذا العدوان الذى تخطى شهره الواحد والعشرين ليقتل ويصيب عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ.. وليهدم أكثر من 80 فى المائة من مبانى القطاع.. وليمارس أبشع أنواع التجويع والإبادة الجماعية.
وأمام تلك المشاهد المروعة.. اهتزت ضمائر شعوب العالم.. وخرجت المظاهرات الحاشدة فى أوروبا وأمريكا.. وراحت بعض الأنظمة الغربية تعيد تقييم مواقفها.. وكانت إسبانيا سبّاقة فى هذا المجال.. حيث اعترفت بالدولة الفلسطينية.. وأدانت العدوان.. وانضم إلى إسبانيا عدد من الدول الأوربية الأخرى.. حتى أعلن الرئيس الفرنسى ماكرون أن بلاده ستعترف بالدولة الفلسطينية.. أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى شهر سبتمبر القادم.. ثم خرج رئيس الوزراء البريطانى ستارمر بعد اجتماعه مع الرئيس الأمريكى ترامب.. ليعلن أن بلاده تفكر جديًا فى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.. وكأنه يردد شطرًا من أشعار نزار قبانى (من بدأ المأساة ينهيها).. وتواصل هذا الحراك ليعلن وزير الخارجية الفرنسية.. أن بلاده تقود كتلة أوروبية قوامها خمس عشرة دولة.. سوف تعترف بالدولة الفلسطينية فى سبتمبر المقبل.
كما أُقيم منذ عدة أيام مؤتمر دولى يرفع لواء حل الدولتين.. وكأن العالم كله قد صار يردد (عودٌ على بدء).. فالمأساة قد بدأت بقرار التقسيم عام 1947.. الذى جعل من فلسطين دولتين؛ الأولى عربية والأخرى يهودية.. وها نحن بعد ثمانية وسبعين سنة.. نعود إلى نفس البداية.. حيث تطالب غالبية دول العالم بضرورة تفعيل حل الدولتين
والحقيقة أن كل هذه المناشدات لن تؤتى ثمارها إلا بطريقتين.. الأولى أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بفرض هذا الحل على ربيبتها الكيان المحتل.. وهذه الطريقة مشكوك فيها.. بل من المؤكد أن الأمريكان لن يفعلوا ذلك إلا إذا استشعروا بتهديد حقيقى لمصالحهم.. وهذا يؤدى بنا إلى الطريقة الثانية.. والتى تستلزم وجود تحالف عربى إسلامى قوى.. يمتد هذا التحالف ليشمل كل دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومعها دعاة الإنصاف والعدل من الدول الأوروبية، وأمام هذا التحالف عدة خطوات مهمة.. أولاها تغيير آلية التصويت فى مجلس الأمم بالعمل على توسيع عضوياته الدائمة.. لتشمل دولًا من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. مع إلغاء حق الفيتو.. الذى تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل دائم.. لحماية حليفتها الكيان المحتل.. والأهم السعى إلى جعل قرارات الأمم المتحدة هى الفاعلة والمؤثرة.. والتى يؤخذ بها حتى لو اختلفت مع قرارات مجلس الأمن.. وذلك لأن الأمم المتحدة هى التمثيل الحقيقى لكل دول العالم.. خاصة أن قرار هذه المنظمة الدولية (قرار التقسيم 181 نوفمبر 1947).. هو الذى أدى إلى إنشاء هذا الكيان المحتل.. وليس من المعقول أن يتحول هذا القرار إلى مجرد سلم تصعد عليه العصابات الصهيونية لاحتلال فلسطين ثم يتم تحطيمه.. فهذا القرار إما أن يتم تطبيقه بكل بنوده.. وإما أن يتم إلغاؤه.. ليفقد الكيان المحتل شرعية وجوده.. ويتحول إلى عصابات إرهابية مسلحة.
وفى ظل صحوة الضمير.. التى يشهدها العالم بعد المذابح البربرية التى يرتكبها الاحتلال فى قطاع غزة.. نرجو أن تشهد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر القادم.. إعلان قيام الدولة الفلسطينية.. دولة لها حدود واضحة.. وتتمتع بكل الحقوق الطبيعية التى تتمتع بها كل دول العالم الحر.
