رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الإعلامى الكبير محمد عبدالله: دموعى على الهواء «صرخة ضمير»


31-7-2025 | 19:48

الإعلامى الكبير محمد عبد الله

طباعة
حوار: دعاء رفعت

مصرىٌّ بقلب غزّاوى.. هكذا يلقبه أهلنا في القطاع. والمذيعُ الباكي - هكذا نعرفه نحن. إنه الإعلامى محمد عبد الله، الذي قد يظن أنه سعى بشغفه نحو الإعلام، لكنني أؤمن بأن القدر هو ما ساقه إلى الكاميرا؛ ليجعل من صوته سلاحًا لمن لا يملكون سوى الألم، ومن كلماته ضميرًا لا ينام، في زمن غابت فيه الضمائر وتجردت فيه الإنسانية.

لديّ يقين أنه لم يكن يعلم، حين بكى على الهواء لأجل أطفال غزة، أنه يكتب لحظة فارقة في تاريخ الإعلام، ويعيد بناء الثقة بين الجمهور وشاشاتهم. وإنها كانت لحظةً إنسانيةً خالصة، كسرت صلابة الشاشة، وتفجرت فيها المشاعر في وجه أشرس حربٍ عرفها العصر الحديث، وارتُكبت ضد الأطفال والنساء في غزة، ولذا كان لا بدّ لنا أن نقف أمام عَبَراته وعِبْرَاته- ودموعه التي انهمرت، وكلماته التي عبرت عن وجع أُمَّةٍ بأكملها.

ومن هنا نبدأ هذا الحوار، لا لنروي تفاصيل مهنية فقط، بل لنستكشف ما خلف الكاميرا: قلبٌ يتألم، وضميرٌ لا يساوم، ورسالةٌ لا تنكسر.

 

يطلق عليك «المذيع الباكي» ما كواليس تلك اللحظة الفارقة بعلاقتك مع الجمهور؟

- اللحظة التى بكيت بها لم أكن على الهواء، لقد فوجئت بقطع «الأوف إير» - عرض الصور مع تعليق صوتى - وكانت تلك لحظات أدخلتنا جميعًا فى حالة من الذهول من شدة القصف وقسوته على أهلنا فى القطاع، إذ لم يسلم من نيران الاحتلال لا بشر ولا حجر. قبل تلك اللحظة كنت أتواجد فى الكنترول وأمامى شاشة عرض تغطى أنحاء القطاع وفوجئت بمقطع فيديو من مستشفى الشفاء، وحين اقتربت الكاميرا من الأشخاص بمحيط المشفى ظهر رجل فلسطينى يرفع يديه حاملا - شيئًا ما - قبل أن أكتشف أنه «طفل بلا رأس - وآخر يحمل أكياسا بها - ما تبقى من أبنائه - وهى صور قاسية، وأنا فى نهاية المطاف إنسان لم أرَ مثل هذه الأحداث من قبل، وهناك جيل كامل لم يرَ مآسى الحروب. وحين دخلت الهواء، بدأت المشاهد تشتد رعبًا، وفجأة تم قصف عائلة المراسل المصاحب لى على الهواء.. وهنا بدأت بالدخول إلى لحظات الانهيار - وتلون صوتى بلون الأحداث - وفوجئت بقطع الصورة وخرجت الصورة كما رآها الناس - عفوية بالدرجة الأولى –لحظة تجسد مشاعر إنسان تجاه قتل وحشى لأطفال أغلبهم تحولوا لأشلاء.

بعد ما يقرب من 16 ساعة من العمل خارت قواى وغفوت، وحين استيقظت فوجئت بكمية من المقاطع المصورة للحظة بكائى على الهواء - غير طبيعية –واكتشفت أن المقطع انتشر بصورة هستيرية، واختلطت على نفسى مشاعرها وأنا أطالع هذه الرسائل المرسلة لي، كنت أشعر بمزيج من الحزن والامتنان، وبقدر ما من التضامن لا أقول سوى إننى «مررت بعاصفة هزت قلبى وذهني». فالموت له رائحة تطغى على كل شيء.

ما اللحظة الفارقة فى فترة تغطية الحرب منذ اندلاعها وحتى الآن؟!

اللحظة الفارقة -بالنسبة لى- هى رسالة كشفت لى نجاة فلسطينى من الموت بسبب سؤال طرحته على الهواء، وعلى ما أتذكر كانت بعد واقعة انتشار فيديو البكاء على الهواء بفترة قصيرة، ففى تلك التغطية كان برفقتى على الهواء المراسل الصحفى وزميلى «إبراهيم قنن» من خان يونس - الذى لم يفارق القطاع بالمناسبة منذ بداية العدوان وحتى الآن - وكنت أتساءل معه - على طريقة أهل مكة أدرى بشعابها - عما يجب على المواطن الغزاوى فعله للنجاة بعائلته من القصف والأحزمة النارية، وما هى الأزقة والطرق الالتفافية للهرب من القصف، وهل يخرج برفقة عائلته أم يتفرق عنهم؟ - ولعل الله يكتب لهم اللقاء مجددًا، وهل من الأفضل أن تنزح العائلات معًا أم تنزح كل عائلة على حدة، وغيرها من الأسئلة التى كانت فى ذلك الوقت عفوية، وربما تبتعد عن سياق الأخبار، سمعها أحد سكان القطاع، وبالفعل سار على هدى المسارات التى ذكرناها بالتغطية ونجا.

وبعد التغطية كانت المفاجأة بالنسبة لي، فقد بحث هذا الرجل الفلسطينى عبر مواقع السوشيال ميديا، لكى يتواصل معى ويخبرنى بأنه نجا من الموت بعدما اتبع التعليمات التى أوردناها فى التغطية، وهذه الرسالة صوّبت إلى قلبى مباشرة وحمدت الله كثيرًا أننى كنت سببا - بعد الله عز وجل - فى نجاة أحد إخوتنا فى غزة.. (هنا يخيّم الصمت لثوانٍ، ويبدو التأثر واضحًا على صوته، قبل أن تنهمر دموعه مجددًا وهو يسترجع اللحظة...).

ما الذى غيّر فى محمد عبدالله الإنسان بعد تجربة تغطية الحرب، وهل فكرت فى أخذ استراحة من الضغط النفسى؟!

نحن نعيش داخل الاستوديو مثلما يعيش الشخص داخل منزله، ربما يرانا المشاهد لمدة زمنية محددة إلا أننا نقضى مدة زمنية كبيرة بالكواليس، ونصل إلى مرحلة الانفصال عن الواقع، فبينما يعيش الآخرون بصورة طبيعية - يعيش الصحفى والإعلامى المأساة بكافة تفاصيلها اللحظية - وهو مجبر على العيش فى الصندوق الأسود للأحداث، نحن لا نخرج سوى بالخروج من الاستوديو، وهو خروج ليس آمنًا «نحن ننام بنصف عين» خوفًا من فقدان حدث ما. فحين تكون الأحداث قاسية على النفس البشرية تعجز عن الخروج منها بسهولة، وهو بالظبط ما يحدث أثناء تغطية الحروب، إذ تتوالى الأحداث كل لحظة.

ما تغير على المستوى الإنسانى فى محمد عبدالله، أننى أدركت حقائق مؤلمة كانت غائبة عني، أدركت أن الإنسانية شحيحة فى عالمنا، وأننا بحاجة للدعاء إلى حفظ هذا البلد وشعبه، وتزايد شعورى بالخطر، ولا يمكن إخفاء مشاعرى بالخوف حين أقيس هذه السيناريوهات على نفسى وأهلي. وأعدت التفكير فى فترات كبيرة عشناها وسط ادعاءات تمتع الغرب بحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات والتى تكشفت حقيقتها بالمشاهد فى غزة. وبالعكس، لم تمر أى لحظة شعرت بها بأنه يجب عليّ التوقف، فالانقطاع عن العمل بمثابة «انقطاع النفس عن جسدي»، فالواجب المهنى يحتم عليّ البقاء فى ميدان المعركة.

كونك الإعلامى العربى الوحيد الذى زار سوريا بعد سقوط الأسد.. كيف اتخذت قرار الذهاب لدولة خارجة من صراع دموي؟!

- لم أتخذ القرار، كان الأمر تكليفًا - ولا أعرف سبب اختيارى لهذه المهمة الصعبة - ربما لأنه بالصدفة تلقينا أنباء سقوط النظام السوري، بينما كنت أنا على الهواء مساء يوم الثامن من ديسمبر، وبدأت تتوالى الأخبار من كافة أنحاء البلاد التى كانت تمر بعملية «قلب مفتوح»، وحين وصلت إلى سوريا هذه كانت أول زيارة لي، وكانت تجربة غريبة بالنسبة لى كونى عبرت إلى الأراضى السورية بريًا، إذ خرجت من القاهرة إلى بيروت ومن ثم توجهت إلى معبر «المصنع» للدخول إلى الأراضى السورية.

فى الحقيقة كانت تجربة ثرية فنحن كمصريين لم نرَ تلك النماذج - الجهاديين - سوى فى سيناء، فما نعرفه أن امتلاك سلاح بعيدًا عن أعين الدولة وأطر الترخيص وقبضة الحكومة فى أى بلد منافٍ للقواعد الأساسية وعلى الدولة إصلاحها، ولكن فى سوريا كنت أرى المسلحين مطلقى العنان فى الشوارع يرتدون الزى العسكرى - ما يرتديه أعضاء الميليشيات والجماعات الجهادية - ففى الوقت الذى سقط به النظام سقط الجيش، وكان المشهد آنذاك - دولة فى طور التشكيل، وهو مشهد جلل خاصة أن الوجود الإسرائيلى على الأرض كان على مرمى الرؤية والجنوب السورى فى حالة فوضى.

فى زيارتى إلى مدينة السويداء، أجريت حوارًا مع الشيخ حكمت الهجري، زعيم طائفة الدروز الموحدين، وحين سألته عن فكرة تسليم السلاح للدولة، وفى أول تعليق له على سؤالى سألنى «أين هى الدولة؟ ولماذا أقوم بتسليم سلاحى ولمن؟».. .

وأما فيما يتعلق بلقائى مع شقيق الرئيس السورى أحمد الشرع لأنه رجل تولى حقيبة وزارية وكان يتحدث عن مهام وزارته فى المسقبل وماذا سيقدم لتحقيق التوافق المجتمعى وهل سيستعين بالخبراء، ولهذا كان لقائى به «تقني».

بدأت مشوارك المهنى دكتورا جامعيا.. ما الذى دفعك لهذه النقلة نحو الإعلام السياسي؟ وما هى رسالتك من تدريس الإعلام؟

تخرجت فى كلية العلوم جامعة عين شمس قسم «مايكروبيولوجي» وتم تعيينى «معيدا» بالكلية وأنا شخص محب للعلم، وهو السبب وراء شخصيتى الإعلامية والتدقيق فى متن الخبر والوقوف بسهولة على مناطق القوة والضعف، ولكن لم أفقد شغفى بالتواصل مع الآخرين، وشغفى كان الهدف من مشوار تدريب طويل بدأ من معهد الإذاعة والتلفزيون، ومرورًا بمؤسسة الأهرام الصحفية، ومنظمة اليونسكو، واتحاد الصحفيين العرب، ومنظمة «الجايكا» - هيئة التعاون الدولى اليابانية وغيرها، وتعلمت الكثير حول كيفية إعداد البرامج وتحضير التقارير للعرض، وقدمت أول برنامج عن الإعلام البيئى فى تاريخ التلفزيون المصرى «لغة البيئة». ودخلت المجال الرياضى ومن ثم قدمت البرامج السياسية والتى كانت خطوة هدفها بالأساس هو اتخاذ «الخط الإنساني» فأنا قلبًا وقالبًا مع بلدى ومع الناس. والسبب الحقيقى وراء نجاحى بهذا المجال القراءة والبحث بمصادر موثوقة، وبالطبع السؤال والنقاش وأنا لا أخجل من سؤال أصحاب الخبرة.

أقوم بتدريس الإعلام لأن هذه المهنة هى شغفى وأول ما أعلمه لطلابى هو «ثواب المهنة»، ومهنة الإعلام ثوابها هو «صدق القول» وإنارة الطريق للآخرين، كما أنصحهم دائمًا بضرورة فهم ما يقرأون، فالفكرة ليست فى سرد نشرة الأخبار، الفكرة فى احترام المشاهد، ويتحقق ذلك من خلال أمرين، كيفية تحقيق «ثواب العمل» وكيف يصبح الإعلامى «نفسه» حين يقف خلف الكاميرا. والشيء الأبرز الذى أقدمه التجربة العملية والتعرف على أجواء التغطية المباشرة وما يعرف بمصطلح «فخاخ الهواء» وكيفية الخروج منها ومواجهة مشاكل الهواء، وذلك من خلال دورات محاكاة للتغطية المباشرة. وفى النهاية الفيصل بين الإعلامى ونجاحه هى «عين الكاميرا».

وحين سألناه عن أصعب ما حمله قلبه فى تغطيته؟

صمت قليلًا قبل أن يقول: يظل العمل الإعلامى هو مهنة مقدسة، وتظل تغطية حرب غزة هى أصعب اللحظات الإنسانية التى مرت علينا، فحينما كنت أستمع إلى صرخات الأمهات وهن يبكين أطفالهن بين شهيد وفقيد كان يعتصر قلبى الألم، ويراودنى سؤال عن الأمل فى لقاء الأمهات بأطفالهن خاصة فى ظل عدم توافر الإمكانات أو الأدوات، كما يقشعر بدنى لمدى تمسك أهلنا فى غزة بالأمل واليقين بعد ما يقرب من 22 شهرًا من الحرب الضروس، فنرى الأب الذى فقد أبناءه ولا يعلم مصيرهم، يمتلئ بالأمل فى اللقاء، والعائلة التى فقدت منزلها مازالت ترغب فى العودة وإعادة البناء، فهؤلاء ضربوا للعالم مثلا فى الصبر ستتغنى به كتب التاريخ إلى آخر الزمان، وأخيرًا لا يسعنا سوى رفع القبعة لأرض العزة الأبية وأهلها وأهلنا فى قطاع غزة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة