لم يكن الرئيس عبد الفتاح السيسى رجلًا يسعى للواجهة، لكنه كان فى قلب «المعركة»، يدرك من موقعه مآلات الوضع وصعوبته، وأمامه تقارير «تقدير الموقف» التى تُنذر بمخاطر جمّة على مفاصل الدولة التى حاول أنصار «الإرهابية» التغلغل فيها، حتى جاءت ثورة 30 يونيو، عندما خرجت الملايين تطلب الخلاص من حكم أسود حاول اختطاف الدولة، لتتدخل القوات المسلحة التى لم يكن فى مقدورها أن تصم آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب التى استدعت دورها الوطنى لا السياسي.
تدخل المؤسسة العسكرية ليس مقامرة، بل استجابة لنداء شعبى هائل قرأه الفريق أول السيسى مبكرًا، وتجهّز له بصبر استراتيجي، ورؤية عميقة لما تعنيه كلمة «الدولة الوطنية»، ليظهر «رجل الضرورة» فى لحظة وطنية نادرة، تلك اللحظة التى انحنى فيها التاريخ أمام صوت الشعب، ووقف الجيش فى صف الوطن وشعبه لا ممثل السلطة وجماعته الإرهابية، استشعارًا من رؤية القوات المسلحة الثاقبة أن «الشعب الذى يدعوها لنصرته لا يدعوها لسلطة أو حكم، وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب ثورته».
لم يتحدث الرئيس السيسى عن نفسه يومًا بوصفه منقذًا، بل دائمًا ما يقول إن «شعب مصر العظيم انتفض ثائرا على من أرادوا اختطاف وطنه»، لكن الضمير الجمعى للمصريين احتفظ له بمكانة لا تمنح إلا لأولئك الذين يختارون التقدّم فى اللحظات الاستثنائية.. واليوم، وبعد 12 عاماً على تلك اللحظة الفاصلة، لا تزال الذاكرة الوطنية تحتفظ بصورة الرئيس السيسى وهو يتلو بيان الثالث من يوليو، محاطًا برموز الدولة الوطنية، معلنًا نهاية مرحلة عصيبة وبداية جديدة، وأن «هوية الوطن مصرية أصيلة لا تقبل الاختطاف أو التبديل».
حين أصدر الرئيس المعزول محمد مرسى قراره فى 12 أغسطس 2012 بتعيين الفريق أول عبد الفتاح السيسى وزيرًا للدفاع والإنتاج الحربى خلفًا للمشير محمد حسين طنطاوي، بدا القرار للوهلة الأولى مفاجئًا للكثيرين، وحاول أنصار الإرهابية رسم سيناريوهات متعددة للقائد العام للقوات المسلحة الذى عرف عنه «صمته المدروس»، للدرجة التى فُسر فيها القرار بأنه خيار مرن بالنسبة للإخوان، لكن الوقائع أثبتت عكس ذلك تمامًا.
جاء القرار فى لحظة تشهد مصر فيها اضطرابات حادة، فى ظل توتر متزايد بين القوى السياسية، وتنامى دور جماعة الإخوان الإرهابية، عبر محاولات ممنهجة لاختراق مؤسسات الدولة، وفى مقدمتها الجيش، بعدما قاموا بتنفيذ حركة اختراق للوزارات والمؤسسات العامة، إدراكًا منهم أن حكم مصر سيظل معهم لـ«خمسين سنة على الأقل»، لكن الشعب لفظهم كما جاءوا أول مرة، إدراكًا بالحس الوطنى بأنهم «تُجار دنيا ودين»، لا يأبهون إلا لمرشدهم، ولا يتطلعون إلا لتنظيمهم، ولا يخدمون إلا مصالحهم.
الفريق أول السيسى شغل مناصب عسكرية مختلفة فى سلاح المشاة، ثم عمل ملحقًا عسكريًا فى السعودية، قبل أن يُنقل لقيادة المنطقة الشمالية العسكرية وصولًا إلى رئاسة المخابرات الحربية، لتكسبه تلك المناصب القيادية والرئيسية حساً عالياً بتركيبة الدولة، وبمكامن الضعف التى تهدد الأمن القومي، والجميع يشهد بدوره المحورى فى تقديم تقارير عن الموقف الاستراتيجى على المستويين الداخلى والخارجى خلال ثورة يناير وبعدها، وتقييمه المتزن لخطورة المسارات السياسية المتداخلة فى سنة حكم الإخوان.
خلال فترة حكم مرسي، كان الشارع المصرى يغلى عن بكرة أبيه؛ قرارات اقتصادية خاطئة، محاولات لأخونة الدولة، صدامات مع كل الجهات؛ السلطة القضائية والداخلية والإعلام والأحزاب فضلًا عن محاولاتٍ للنيل من المؤسسة العسكرية الشريفة، إلى جانب العمليات الإرهابية فى سيناء التى كانت تتم تحت أعين قيادة الجماعة وبعلمهم، وفى ظل هذه الأجواء، راقبت القوات المسلحة الموقف عن كثب، وبذلت على مدار شهور متواصلة جهوداً مضنية بصورة مباشرة وغير مباشرة لاحتواء الموقف الداخلى وإجراء مصالحة وطنية بين كل القوى السياسية بما فيها مؤسسة الرئاسة، كما قدمت رؤية بوصفها مؤسسة وطنية لاحتواء أسباب الانقسام المجتمعى وإزالة أسباب الاحتقان ومجابهة التحديات والمخاطر للخروج من الأزمة آنذاك، لكن لم تجد تلك الجهود باباً للتنفيذ؛ لأن المسيطرين من مكتب الإرشاد على مؤسسة الرئاسة فى تلك الفترة أغلقوا كل بابٍ للخروج، ونفذوا مخططاتهم التى أدخلت الدولة برمتها إلى مأزق تاريخي.
الفريق أول السيسي، رغم كونه من دوائر صناعة القرار، فلم يكن من دعاة التصعيد، أو الانجرار وراء تصريحات تخرج من قادة هذه الجماعة الإرهابية، وكان دائم التأكيد على أن الجيش «بعيد عن السياسة»، لكنه «لن يصمت إذا تعرض أمن البلاد للخطر»، ومع ذلك كان حاسمًا بعدم السماح بأى محاولة للنيل من القوات المسلحة، ولعل تحذيره فى مايو 2013 على هامش تفتيش حرب الفرقة التاسعة المدرعة، لا يزال محفوراً فى الذاكرة حين قال إن «الجيش المصرى نار، لا تلعبوا بها ولا تلعبوا معها»، وهى واحدة من المقولات القوية التى رسخت بحق صورة قائد الجيش لدى المصريين باعتباره صمام أمان هذه المؤسسة ضد ما يُحاك ضدها من جماعات الشر والإرهاب.
هنا لا يمكن أن نغفل ما يمكن وصفه بـ«الفترة الذهبية» للقوات المسلحة حين كان الرئيس السيسى قائداً عاماً للجيش، إذ شكلت قيادته مرحلة تأسيسية مهمة فى إعادة بناء القوة العسكرية المصرية على أسس أكثر حداثة واستقلالية، إذ أرسى عقيدة «التوازن الاستراتيجي»، واعتمد على تحقيق الاكتفاء الذاتى فى بعض أنظمة التسليح، مع تنويع مصادر التسليح وتقليل الاعتماد على مصدر واحد، وبشكل خاص رفع كفاءة كل الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة ووحداتها النوعية مثل قوات مكافحة الإرهاب والوحدات الخاصة، إلى جانب تعزيز القدرة على «الردع» فى ظل حالة السيولة الأمنية التى كانت تعيشها مصر والإقليم برمته.
وفى هذه الفترة كان السيسى حريصاً على عقد لقاءات دورية مع قادة وضباط مختلف الأسلحة للقوات المسلحة لتوحيد المفاهيم تجاه مختلف القضايا والموضوعات المرتبطة بأمن مصر القومي، وحينها كان دائم التأكيد على أن «الجيش حريص على رفع معدلات التطوير ودعم الكفاءة الفنية والاستعداد القتالي، لمجابهة أى تحديات».
هذه الرسالة كانت حاضرة فى منتصف أكتوبر 2012، خلال المشروع التكتيكى بالذخيرة الحية للجيش الثانى الميدانى بسيناء، حين قال السيسى إن «الأنشطة التدريبية تستهدف التأكيد على أن قواتنا المسلحة جاهزة على كافة المستويات من معدات وأفراد وروح معنوية عالية، تجعلنا قادرين على مواجهة أى خطر أو تهديد، ليس فقط فى سيناء، بل على أى جزء من أرض مصر فى الجنوب والشمال والشرق والغرب فهذه مهمة القوات المسلحة الأولى ودورها الرئيسي».
نعود مجددًا إلى لحظة 30 يونيو 2013، وقت أن خرج ملايين المصريين إلى الشوارع عن بكرة أبيهم فى مشهد غير مسبوق، مطالبين برحيل محمد مرسى ونهاية حكم «المرشد الإخواني»، إذ كان الصوت الشعبى مدويًا، والجميع رفع الراية الحمراء بأنه لا عودة دون رحيل نظام مرسى وجماعته، بعدما أصبحت كل مؤسسات الدولة تدرك أن استمرار الوضع يعنى الدخول فى نفق قد يُشبه ما جرى فى سوريا أو ليبيا، وبالتالى لم تكن القوات المسلحة، قادرة على تجاهل هذا المشهد، لتتدخل ببيان أول، حذرت فيه من أن البلاد تدخل منعطفًا خطيرًا، وأمهلت القوى السياسية 48 ساعة للتوصل إلى حل.
بيان القوات المسلحة أكد أن «الجميع رأوا حركة الشعب المصرى وسمعوا صوته بأقصى درجات الاحترام والاهتمام، ومن المحتم أن يتلقى الشعب رداً على حركته، وعلى ندائه من كل طرف يتحمل قدراً من المسؤولية فى هذه الظروف الخطرة المحيطة بالوطن».
وأعادت القوات المسلحة التأكيد فى بيانها أنها «لن تكون طرفاً فى دائرة السياسة أو الحكم»، لكن «الأمن القومى للدولة معرض لخطر شديد إزاء التطورات التى تشهدها البلاد، وهو يلقى علينا بمسؤوليات كل حسب موقعه، للتعامل بما يليق من أجل درء هذه المخاطر».
وكعادتهم، فإن جماعة «المرشد» أهدروا أى فرصة للتوافق، وبدلاً من الاستجابة للمطالب الشعبية أو قراءة المشهد بعين وطنية، اختاروا التصعيد وزيادة الخطاب العدائي، متهمين كل من يخالفهم بالخيانة والردة، ومتمسكين بشرعية «وهمية» فى عزلة عن إرادة الشعب، كما لم يُبدِ النظام الإخوانى أى بادرة للتراجع أو تقديم تنازلات، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عبر تحريض أنصاره على المواجهة، والتظاهر فى ميدانى رابعة العدوية والنهضة، ما هدد بحالة فوضى عارمة وعمق الانقسام الداخلي.
هذه المهلة التى منحتها القوات المسلحة كانت بمثابة الفرصة الأخيرة، لكن الجماعة تعاملت معها باستخفاف واستعلاء، لتكتب بذلك السطر الأخير فى علاقتها مع الشعب ومؤسسات الدولة على حد سواء.
كان مساء الثالث من يوليو 2013 لحظة فاصلة فى تاريخ مصر، حين بلغت الأزمة ذروتها، وبلغ النداء الشعبى مداه، ووقفت القوات المسلحة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسى أمام مسؤولية وطنية جسيمة، بعدما بات الأمن القومى على شفا الانهيار، ففى الشوارع، كانت الملايين تهتف بصوت واحد «يسقط يسقط حكم المرشد»، وفى القصر، كان رئيس معزول عن الواقع، متشبثًا بشرعية لفظها الشعب.
فى الليلة السابقة، 2 يوليو، أطل مرسى على المصريين بخطاب أثار الغضب أكثر مما هدأ النفوس، كرر فيه كلمة «الشرعية» عشرات المرات، ورفض أى دعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، متجاهلًا أن شرعية الحكم تُستمد من الناس، لا من صندوق يُعاد تأويله بمنطق الجماعة.
وفى قلب المشهد، دعت القوات المسلحة إلى اجتماع تاريخى ضم رموزًا وطنية من مختلف الأطياف، بعدما رفضت قيادات الإخوان الحضور أكثر من مرة، وبعد التشاور والتوافق، وقف السيسى فى قاعة الاجتماع وأعلن خارطة طريق واضحة تنحاز بشكل قاطع لإرادة الشعب، وتضع حدًّا لحكم جماعة حاولت اختطاف الدولة، ليأتى هذا البيان تتويجًا لتحرك شعبى جارف، وإعلانًا صريحًا بأن مصر ستبقى لكل المصريين، لا رهينة فى يد جماعة.
وسطر الرئيس السيسى ما بين لحظة تعيينه وزيرًا للدفاع فى أغسطس 2012، وحتى بيانه نهاية مارس 2014، حين تقدم باستقالته من وزارة الدفاع لعزمه على الترشح لانتخابات الرئاسة استجابة للمطالب الواسعة من المصريين، سطر دورًا استثنائيًا فى التاريخ المصرى الحديث، فلم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان العقل الاستراتيجى الذى أنقذ مصر من فوضى محققة، وعبَر بها من لحظة الانقسام إلى مسار الدولة المستقرة.. اختار أن يكون فى قلب المواجهة، حيث لا توجد حسابات سياسية سهلة، بل قرار وطنى صلب يعتمد على تفويض شعبى نادر، ورؤية تاريخية عميقة لما تعنيه «الدولة».. وصولًا إلى الجمهورية الجديدة الآن.