منذ انطلاق المشروع قبل أكثر من عشر سنوات، نجح فى تجاوز المفهوم التقليدى للسكن، ليصبح أداة فعالة فى التنمية الشاملة، حيث تبنى المدن الجديدة بمفهوم الإنسان أولًا، وتتوسع الدولة فى نشر العمران المنظم، بما يراعى متطلبات الحاضر واستدامة المستقبل.
وأوضح خبراء التخطيط العمرانى والاقتصاد مساهمة المشروع فى تحريك قطاعات اقتصادية حيوية، ورصد تأثيره المباشر على الاستقرار المجتمعي، لم يعد مجرد مشروع لبناء وحدات سكنية لشرائح محددة، بل تحول إلى أداة استراتيجية تستخدمها الدولة لإعادة رسم الخريطة العمرانية، وتنشيط الاقتصاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. فعلى مدار سنوات، استطاعت الدولة عبر هذا المشروع العملاق أن تخلق فرص عمل، وتدفع بعجلة التنمية، وتوفر بيئة آمنة كريمة لملايين المصريين، مما جعل التجربة المصرية نموذجا يُحتذى به دوليا.
فى البداية، قال الدكتور محمود غيث، أستاذ ورئيس قسم التخطيط العمرانى، رئيس الجمعية المصرية للتخطيط العمرانى: هناك فهم خاطئ لدى البعض حول مشروعات الإسكان، إذ يتعامل كثيرون معه باعتباره مجرد عملية بناء وهندسة، دون النظر إلى أبعاده الأخرى وتأثيراتها الممتدة على مختلف قطاعات الدولة، مشروع الإسكان فى حد ذاته بجميع مستوياته هو مشروع اقتصادى وتنموى شامل.
وأضاف: مشروعات الإسكان حققت إنجازات غير مسبوقة، حيث تم تنفيذ ما يزيد على مليون ونصف المليون وحدة سكنية، وهو رقم يعادل أكثر من عشرة أضعاف المعدلات السابقة، إلا أن بعض الناس ما زالت تنظر إلى الإسكان على أنه مجرد «حوائط وحجر»، بينما الدولة بدأت فى الرد على هذه الرؤية الضيقة من خلال التأكيد أن «الإسكان حجر وبشر»، وأن الهدف الأساسى هو بناء الإنسان، وتحقيق تنمية بشرية شاملة، عبر توفير البيئة العمرانية التى تحتضن الإنسان، وتحقق له جودة الحياة.
كما أكد «مغيث»، أن مشروعات الإسكان، وعلى رأسها مشروع الإسكان الاجتماعي، تتضمن أبعادًا اقتصادية واجتماعية وبيئية وعمرانية متكاملة، وهذه الأبعاد تتجسد فعليا فى كل وحدة سكنية، وكل حى، وكل مدينة جديدة. وفى عام 2015، وقّعت مصر على اتفاقية الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 2030، أصبحت الوزارات كافة ملزمة بتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما فى ذلك وزارة الإسكان، التى يقع على عاتقها مسئولية كبيرة، تتعلق بتوفير المسكن بكل نوعياته، والتخطيط للمدن الجديدة والقائمة، من الساحل إلى سيناء.
وتابع: الإسكان الاجتماعى يحتل حاليًا موقعًا محوريًا فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التى تنص صراحة على توفير المسكن الملائم والآمن لكل شرائح المجتمع، لذلك أصبح من الثابت أن أى مدينة جديدة لا بد أن تتضمن مكونًا للإسكان الاجتماعى ضمن تخطيطها العام، بهدف تحقيق العدالة المجتمعية، وتوفير البيئة المناسبة للسكان، ونحن لا نقدم فقط مأوى أو مسكنا، بل نقدم دعمًا للاقتصاد، ونوفر إسكانا متكاملا بالخدمات، بل نخلق بيئة متكاملة لكل الخدمات التى يحتاجها هذا العدد من السكان، ونوفر أيضا فرص عمل الإنسان فى هذه المشروعات، وهذه المشروعات تسهم فى تحقيق التنمية الشاملة والتنمية المستدامة فى الوقت نفسه، فالتنمية الشاملة تعنى التكامل بين الاقتصاد، والاجتماع، والبيئة، والعمران، أما التنمية المستدامة فتعنى أن هذه المشروعات لا تُحدث آثارا سلبية على البيئة، بل تخلق مردودا تنمويا طويل المدى.
«د. محمود»، استطرد: نحن نبنى اقتصادًا وعمرانًا ومجتمعًا، ونحقق جودة حياة بلا آثار سلبية، نوفر خدمات وفرص عمل وسكنا، يتماشى مع المعايير العالمية للسكن الآمن، القادر على مواجهة التغيرات المناخية، والأخطار البيئية والصناعية، والأوبئة، والكوارث، ويحافظ فى الوقت نفسه على الموروث الطبيعى والتاريخى والعمراني، والدولة المصرية أصبحت تُسقط أهداف التنمية المستدامة على كل عمران جديد أو قائم، وتطبق مفاهيم حديثة فى التنمية والتخطيط، من بينها تطبيقات الذكاء الاصطناعي، التى تقوم على قواعد بيانات ومعلومات دقيقة، تمكن من اتخاذ قرارات تخطيطية فعالة.
وأضاف: الإسكان الاجتماعى جزء من برنامج أشمل للإسكان، يخدم كل المستويات والفئات فى المجتمع، من حيث الكمية والنوعية والتوزيع الجغرافي، وخلق العديد من فرص العمل وحقق بالفعل مئات الآلاف من الوحدات، وهو ما أدى إلى تنوع فى خصائص السكن، بعدما كان الإسكان فى الماضى نمطيًا تقليديًا، يفتقر إلى الجمال والراحة، ولا يعكس احتياجات السكان ولا رغباتهم، وهذا كان يؤدى فى السابق إلى عزوف الناس عن السكن فى هذه المشروعات، وتغييرهم فى وحداتهم بعد الاستلام، لأن الوحدة لم تكن مناسبة. أما الآن فقد تغير الوضع، إذ أصبحت احتياجات السكان ورغباتهم جزءًا من تخطيط المشروع، وأصبحت جلسات الاستماع المجتمعى من مكونات البرنامج، والدولة تحرص على تنفيذ المشروع بشكل متكامل، تسلم الوحدة جاهزة، بكافة عناصر المرافق دون نقصان، كما كان يحدث فى السابق.
كما أشاد «د. محمود» بنجاح مشروع الإسكان من حيث الكمية والنوعية والتوزيع، حيث انتشر فى أكثر من 20 محافظة، ووصل إلى المدن الجديدة، مع تنوع فى المساحات، والأسعار، وجودة البناء، والتصميم العمراني، موضحًا أن هذا التنوع منح مصر مكانة متقدمة على المستوى الدولى فى مجال الإسكان، وحصلنا على جوائز من برنامج الأمم المتحدة، وكانت التجربة المصرية أبرز نموذج تم عرضه فى المنتدى الحضرى العالمي، ونالت إعجابا واستحسانا غير مسبوق، وطلب الكثيرون نقل هذه التجربة لإعمار إفريقيا والعالم العربي، ومصر استطاعت أن تصدر تجربتها فى مجال العقار، ليس من حيث البناء فقط، بل من حيث التوافق مع المعايير الدولية وتوصيات الأمم المتحدة، هذه المشروعات حققت مردودا اقتصاديا واجتماعيا ضخما، من خلال الأنشطة الاقتصادية والصناعية والسياحية التى نشأت حولها، لأن القاعدة الاقتصادية لأى مدينة تبدأ بالنشاط الاقتصادى الرئيسى الذى يعمل به السكان، وحجم المدينة يتحدد بناء على حجم القوى العاملة، فإذا كانت هناك مدينة تضم 300 ألف عامل، فهذا يعنى أنها قادرة على استيعاب نحو مليون نسمة، لأن قوة العمل تمثل حوالى 30 فى المائة من السكان.
وأكمل: هذه المشروعات وفرت فرص عمل تتناسب مع عدد السكان فى هذه التجمعات، وبالتالى هناك تكافؤ بين السكن، وفرص العمل، والخدمات، نحن نحافظ على جميع الشرائح، وهناك علاقة واضحة بين كل شريحة وحجم الخدمات التى تحصل عليها، كما أن المشروع خدم أهداف الدولة فى تحقيق الاستقرار المجتمعي، أما عدم تثبيت السكان فيؤدى إلى زعزعة الاستقرار، ويخلق مجتمعات طاردة للسكان، وهو ما يؤدى بدوره إلى العشوائيات. أما الآن، ومع مشروعات الإسكان والتنمية الشاملة، أصبحنا نصنع مجتمعات جاذبة، وحققنا هدف تثبيت السكان سواء فى الريف أو الحضر، وهو ما ساهم فى القضاء على العشوائيات من جذورها، واستطعنا أن نحقق الاستقرار، ونجفف منابع العشوائيات.
بدوره، أكد الدكتور سيف الدين فرج، أستاذ التخطيط العمرانى، أن مشروع الإسكان الاجتماعى استطاع أن يحقق استقرارًا مجتمعيًا واقتصاديًا كبيرا، ليس فقط بتوفير وحدات سكنية مناسبة، بل لأنه أعاد الاعتبار للطبقة المتوسطة ومحدودى الدخل، ووفر لهم سكنًا كريمًا فى بيئة آمنة ومتكاملة.
وقال «فرج»: المشروع قدم حلًا عمليًا لأزمة السكن التى كانت تؤرق ملايين المصريين، أنقذهم من السكن غير الرسمى والعشوائي، والذى كان يشكل خطرا مباشرا على حياتهم وأمنهم، لمواطن يحصل على وحدة سكنية كاملة التشطيب، ضمن مجتمع عمرانى مخطط يضم مدارس، ومستشفيات، وأسواقا، وكل ما يحتاجه الإنسان لحياة مستقرة، ومن أبرز نقاط قوة المشروع أنه لا يقتصر على البناء فقط، بل يتكامل مع خطة تنموية شاملة تشمل توفير فرص العمل، وتحقيق التوازن بين السكن والخدمات، بما يؤدى إلى رفع جودة الحياة ويحقق الاستدامة.
كما أشار إلى أن «الدولة كانت تواجه تحديًا حقيقيًا يتمثل فى تضخم الزيادة السكانية، وتنامى الطلب على السكن، إلى جانب ارتفاع أسعار العقارات فى السوق الحر بشكل يفوق قدرة أغلب المواطنين، خاصة من الفئات الأكثر احتياجا، وجاء مشروع الإسكان الاجتماعى كأداة فعالة لتقليل الفجوة بين العرض والطلب، ولإحداث تدخل حكومى عادل ينظم السوق ويوفر بديلا لائقا لمَن لا يستطيعون الشراء فى القطاع الخاص، الدولة لم تكتفِ بتوفير الوحدات، لكنها قدمت دعما مباشرا وغير مباشر للمواطن، سواء فى ثمن الوحدة، أو فى التمويل العقاري، أو فى الدعم الخدمى والمرافق، بما يجعل السكن فى متناول المواطن البسيط، دون أن يشعر بأنه يحصل على شيء أقل من غيره، بل بالعكس كثير من وحدات الإسكان الاجتماعى أصبحت تنافس فى جودتها وحدات القطاع الخاص».
وتابع: المشروع لم يحقق فقط مكاسب اقتصادية واجتماعية، بل كان له أيضا بُعد أمنى واستراتيجي، لأنه ساهم فى منع انتشار العشوائيات الجديدة، والتى كانت مصدرا دائما للمشكلات الأمنية والاجتماعية، مثل الجريمة والمخدرات والتطرف حينما تسكن الأسرة فى بيئة آدمية، نظيفة وآمنة، وتكون مطمئنة على أولادها، فهذا فى حد ذاته حماية للمجتمع من التفكك والانحراف، كما أن مشروع الإسكان الاجتماعى مشروع عمرانى تنموى شامل، يحرك عشرات الصناعات المرتبطة بالبناء، ويخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ويساهم فى إنعاش السوق المحلي، فضلا عن مردوده الإيجابى على الاقتصاد القومي، ومصر كانت بحاجة إلى هذا النوع من التدخلات الجادة لتوفير السكن، لأنه لا يمكن ترك السوق وحده ينظم المسألة، خاصة فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة وزيادة سكانية ضخمة، وأن الدولة تحملت المسئولية، ونجحت فى تقديم نموذج يُحتذى به فى المنطقة العربية والإفريقية.
«د. سيف الدين»، اختتم حديثه بالإشارة إلى أن «الإسكان الاجتماعى مشروع لحماية الأسرة المصرية، وتحقيق الاستقرار للمجتمع، وتكريس مبدأ العدالة الاجتماعية وهو من أنجح ما تم تنفيذه خلال العقد الأخير، ويجب الحفاظ عليه وتطويره باستمرار».
من جانبه، قال الدكتور حسام البرمبلى، أستاذ العمارة والتخطيط العمرانى، وخبير الصيانة الدولى: إن «مشروع الإسكان الاجتماعى يمثل واحدة من أهم الآليات التى تبنتها الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر، من خلال توفير المأوى الكريم للفئات الأقل من المتوسطة، وعلى رأسها العمالة المرتبطة بمجال البناء والمعمار».
وأضاف أن «الإسكان الاجتماعى يخدم شريحة كبيرة من المجتمع المصري، وهى الفئة التى عانت كثيرًا من التهميش السكنى، ولم تجد لنفسها مكانًا لائقًا فى ظل ارتفاع أسعار العقارات، وعندما توفر الدولة وحدات سكنية لهذه الفئة، فهى لا تقدم لهم مجرد مأوى، بل تقدم لهم كرامة واستقرارا، وتدمجهم فى النسيج المجتمعى بشكل عادل».
«د. حسام»، أشار أيضا إلى أن «المشروع أسهم بشكل مباشر فى سد فجوة البطالة، من خلال توفير فرص عمل للعاملين فى مجالات المعمار المختلفة، بداية من العمالة الفنية إلى المهندسين، ما ساعد على تحقيق توازن حقيقى بين احتياجات السوق وفرص التشغيل».
وتابع «البرمبلى» أن «هذه المجتمعات السكنية الجديدة ساهمت فى زيادة الخدمة المجتمعية، وساعدت فى تعزيز الأمن الاجتماعي، من خلال الحد من الفراغ الوظيفى الذى كان ينتج مواطنا عاطلا، غير قادر على توفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة لأسرته، مما كان يؤدى إلى تفكك اجتماعى أو انحراف سلوكى فى بعض الحالات»، لافتًا إلى أن «الإسكان الاجتماعى ليس فقط حلا سكنيا، بل هو مشروع استراتيجى يربط بين السكن والعمل، من خلال إنشاء مجتمعات سكنية قريبة من المناطق الصناعية، ما يحقق ميزة كبيرة للعاملين، إذ يكونون قريبين من أماكن عملهم، ما يقلل الضغط على وسائل النقل، ويعزز شعور المواطن بالأمان والاستقرار».
وأكد أن هذه «التجمعات السكنية تخلق منظومة اقتصادية متكاملة، لأنها توفر بيئة مناسبة لاستهلاك سريع ومستمر، بما ينعكس على الأسواق المحلية والاقتصاد القومي، موضحًا أنه «حينما تتواجد مجتمعات سكنية نشطة ومأهولة، تخلق طلبا حقيقيا على المنتجات والخدمات، وهو ما يشجع على التوسع التجارى والصناعة، واستدامة هذا النجاح تعتمد على استمرار الدعم الحكومي، والتكامل بين وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية وبقية أجهزة الدولة، لضمان تقديم نموذج سكنى يحترم الإنسان ويوفر له بيئة معيشية صحية، عادلة، ومناسبة».
وأكمل: مشروع الإسكان الاقتصادى بالمشاركة المجتمعية هو مفتاح النجاح الحقيقي، لأنه يضع المواطن فى قلب العملية التخطيطية والتنفيذية، ويمنحه فرصة أن يعيش حياة كريمة فى ظل مناخ من الراحة والإنسانية، بما يرسخ الانتماء الوطنى ويحقق استقرار الدولة.