رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سقط العلم الأزرق.. ورُفع العلم الأخضر! قوافل مصر الثلاث تنطلق ساعة الصفر


13-6-2025 | 18:44

ميناء بورسعيد

طباعة
نشر فى 3 أغسطس 1956

فى 26 يوليو 1956 أعلن الرئيس جمال عبد الناصر من ميدان المنشية بالإسكندرية قرار تأميم شركة قناة السويس، بعد أن سحبت الولايات المتحدة عرض تمويل السد العالى، ثم تبعتها بريطانيا والبنك الدولى، وقدمت بريطانيا إثر القرار احتجاجا رفضه جمال عبدالناصر على أساس أن التأميم عمل من أعمال السيادة المصرية.. فقامت هيئة المنتفعين بقناة السويس بسحب المرشدين الأجانب بالقناة لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها، إلا أن مصر أثبتت عكس ذلك واستطاعت تشغيل القناة بإدارة مصرية.

وفى صباح اليوم التالى انطلق مندوب «المصور» محمد رفعت إلى شريان مصر الرئيسى فى قناة السويس، ومعه مصورنا محمد صبرى، وسجلا أروع لحظات مصر التاريخية الحاسمة.. تلك التى استكملت فيها حريتها الاقتصادية، وكفلت معها حرية الملاحة البحرية، وأشهدت العالم على أننا لسنا أمة من القراصنة، وأننا لا نبغى غير الحق والأمن والسلام.. لنا وللآخرين.

عندما وصلت مدينة بورسعيد صباح يوم الجمعة، أول يوم يشرق على قناة السويس وقد اتصل شريانها بقلب مصر، كان القائمقام عبدالحميد بهجت نائب رئيس هيئة إدارة قناة السويس فى بورسعيد قد فرغ من أول اجتماع له هو وزملاؤه مع رؤساء الأقسام الرئيسية بالشركة ووكلائها وسجل هذا الاجتماع فى محضر رسمى، ثم بدأ الاجتماع الثانى صباح الجمعة، وأجاب فيه عن أسئلة الموظفين الفرنسيين التى استوضحوا بها طريقة العمل الجديدة، والأسلوب الذى ستسير عليه مصر فى إدارتها.. وكانت الإجابة حاسمة مدروسة بعناية، مضى بعدها الموظفون الأجانب يعملون فى هدوء واطمئنان وقد اطمأنوا إلى أن أرزاقهم مكفولة، ما داموا يؤدون واجبهم فى صدق وأمانة وإخلاص.

وبعد قليل دخل على القائمقام بهجت «مسيو ألبير بربار» رئيس القسم المالى بإدارة القناة، ووقف يعرض أوراقه على نائب الرئيس.. ورأينا كيف يتعاون العقلاء من الفرنسيين مع الهيئة الجديدة.

فى ساعة الصفر

وخرج الرجل الفرنسى، وجلس القائمقام عبدالحميد بهجت يحدثنا عن السرية التى تم بها تنفيذ عملية التأميم، وكيف انطلقت قوافل مصر الثلاث فى ساعة الصفر التى عينها الرئيس فى خطابه إلى منطقة القناة، وأسرعت كل منها تضع يدها على مؤسسات «شركة» القناة فى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وقد روعى أن يكون أعضاء القوافل الثلاث من المدنيين والعسكريين والفنيين ورجال الأعمال والإدارة والمال، بحيث يتحقق هدف الهيئة الأساسى وهو «أداء الواجب الدولى للملاحة، وعدم تأثر الجانب المادى لأرباح الشركة بضمان سير أعمال الشركة تحت ملاحظتهم ومراقبتهم فى المجرى السلمي»، وكانت النتيجة، ذلك التوفيق الذى رأيناه منذ اليوم الأول، الذى دخلت فيه خزانة الهيئة 105,648 جنيها من رسوم المرور فى القنال.

وكان أول منشور أصدرته الهيئة «المنشور رقم 1» موجها للسفن وشركات الملاحة بتسديد رسوم المرور فى القنال لحساب البنك الأهلى المصرى.

55,000 صنف بالمخزن

ولأول مرة ندخل مخازن الشركة، فالتقينا مديرها «المهندس المصرى مصطفى وهبي» أول مدير مصرى فى الشركة، ويطوف بنا فى المخازن الضخمة الهائلة التى تضم قطع الغيار والسيارات والمهمات من كتل حديد ومواسير وأخشاب وسلاسل وكل ما يخطر على البال، بحيث تجد هناك 55,000 صنف، وقيمة ما فى المخازن كلها 3 ملايين جنيه بدون حساب الرسوم الجمركية، لأن بضائع الشركة ومهماتها كانت ترد إليها معفاة من الرسوم، ولو حسبنا هذه الرسوم لوصلت قيمة محتويات مخازن الشركة إلى أربعة ملايين من الجنيهات.

الشركة تحتكر المياه والنور

ومررنا بحوض عائم لإصلاح وحدات الشركة البحرية التى تزن حتى 5,000 طن، وقد تكلف بناؤه مليون جنيه.. ورأينا الرافعات الهائلة، وبينها رافعة ترفع 150,000 طن.. ثم رأينا الكراكة «لوى يربيه» أضخم كراكة فى العالم، وهى تطهر 20,000 متر مكعب من الرمال فى قاع القنال فى اليوم الواحد، وثمنها مليون جنيه.

ثم زرنا الورش الكبيرة للسباكة والنجارة وجميع أنواع العمل التى تستلزمها حركة الشركة، وكلها تدور بالكهرباء.

والعجيب أن الشركة كانت تحتكر عملية المياه والنور فى بورسعيد والقنطرة والإسماعيلية والسويس، وكان لها قضية عجيبة الشأن مع صاحب كازينو كبير فى بلاج الجميل المجاور لبورسعيد اسمه «الجزار»، كلف البناء آلاف الجنيهات، ورفضت الشركة أن تمده بالمياه، وذلك منذ عشر سنوات، ورفع الرجل قضية لم تنتهِ إلا هذا العام.. وكسبها الجزار. وكان عجيبًا من الشركة أن تعلن أنها لو كسبت تلك القضية فستدفع لبلدية بورسعيد عشرة آلاف جنيه، لتستعملها فى مشروعاتها.. وكأن «الجزار» ليس مصريًا، وكأن بلدية بورسعيد ليست بلدية لمدينة مصرية.

جنة محرمة على مصر

وعبرنا المدينة إلى بورفؤاد، تلك المدينة الجميلة التى بنتها الشركة على الشاطئ الآسيوى وأقامت عليها فيلات أنيقة وحدائق غناء وحمامات سباحة، وخصت بها موظفيها الفرنسيين المحظوظين، وكأنها جنة محرمة على غيرهم..

وحتى عندما سمحت للأهالى بسكنى بورفؤاد، راعت أن تكون فيلات الموظفين الفرنسيين هى وحدها التى تشرف على شاطئ البحر، وأشارت على الأهالى أن يقيموا بيوتهم فى قلب الضاحية.. بعيدًا عن البحر وعن نعمة السكن على البحر الذى احتكرت الشركة مياهه.

وفى إحدى الورش التقيت بعامل وقف يحدثنى عن الشركة، ثم وقع بصره من بعيد على تمثال ديليسبس فقال وهو يشير إليه:

خسارة نكسر تمثال ديليسبس، ده فيه 25 طن نحاس، الكيلو منه يساوى ستين قرشًا، واقترح أن نصهره ونصنع منه تمثالًا للبطل جمال عبد الناصر.

غرام بالتماثيل

والحق أن الشركة كانت مغرمة بالتماثيل غرامًا عجيبًا، ففى مبانيها كلها وشوارع المدن التى تقوم فيها فروعها ترى التماثيل متناثرة هنا وهناك، وأغلبها لشخصيات لا مبرر لتخليدها. إن وجد المبرر لتخليد ديليسبس، فهذا تمثال للكونت «سالو»، وهذا آخر للباشمهندس «ليماسون»، وثالث للملازم «واجهورن».. وفى كل مكتب تقريبًا من مكاتب الشركة تمثال لديليسبس وكأنه إله لا تُقام إلى جانبه صور أو نصب أخرى.

مرتبات سخية وأخرى شحيحة

وفى بورفؤاد «دار الحكمة»، وكانت أصلاً دار المحكمة المختلطة.. وكان طريفًا عندما استلمتها المحكمة الأهلية أن لاحظ القاضى المصرى أن مرتب البستانى المعين من قبل الشركة يزيد على مرتبه هو، فضحك وقال:

من هنا ورايح، لو حد سألنى عن ماهيتى ح أقول: أنا والجناينى بناخد 100 جنيه.

(على عكس النكتة المعروفة التى قال فيها حاجب المحكمة عندما سئل عن مرتبه: «أنا والقاضى بناخد 100 جنيه»).

وكانت الشركة تصرف بسخاء فى المرتبات والمكافآت والهيئات، وغرضها من هذا أن تقلل من حصة الحكومة المصرية فى الأرباح.. بل لقد سمعت أنها كانت تُخرج مهمات كبيرة غالية الثمن من مخازنها بحجة استعمالها فى الورش، ولكنها لم تكن تستعملها، وإنما كانت تُلقى بها إلى البحر، وذلك حتى تزيد من مصروفاتها، وتقلل الأرباح فى حدود النسبة المعينة التى تتقاضاها حكومة مصر كل عام.

تمييز صارخ

وأعجب العجب ما تلاحظه على طريقة معاملة الشركة السابقة لعمالها.. فهى تقسمهم إلى ثلاث فئات:

فئة لها الحق فى المعاش، وفئة تستخدمها الشركة بواسطة المقاولين ولها الحق فى المكافأة وحدها، وفئة مؤقتة بعدد معين، ليس لها الحق فى المعاش ولا المكافأة..

وقد ابتدعت الشركة هذا التقسيم، لتتخلص من التزاماتها تجاه العمال المصريين، إذ تعين أكثرهم مندوبين أو مؤقتين.

وكان التمييز بين العامل المصرى والعامل الأجنبى واضحًا جدًا، فإذا وجدت عاملين أحدهما مصرى والآخر أجنبى يتساويان فى كل شىء بالنسبة للعمل فى الشركة من حيث المدة والكفاية والقدرة الإنتاجية، تبينت أن المصرى يقل فى المرتب كثيرًا جدًا عن الأجنبى.. بل إن العامل المصرى من الدرجة الأولى يتقاضى فى الساعة 40 مليمًا، فى حين يتقاضى العامل الأجنبى من الدرجة الثانية 45 مليمًا فى الساعة. كما أن الأجنبى يسافر إلى بلاده فى إجازة سنوية على حساب الشركة، ويتقاضى فيها مكافأة تُحوّل مباشرة إلى المصرف الموجود فى بلاده حتى يصرف منها فى إجازته، وهى تُحوّل له فى الخارج حتى لا يخرج بها من مصر، وتتقاضى منه الحكومة المصرية الرسم الذى يحصل على النقد فى الخارج.

وقد جرى العرف فى الشركة على ألا يتجاوز أجر العامل المصرى 99 مليمًا فى الساعة، بينما يصل العامل الأجنبى إلى 136 مليمًا فى الساعة!

الملاحة حرة بالقنال

وفى ميناء بورسعيد رأينا بارجة أمريكية اسمها «هنلى» أصابها عطب وتوقفت للإصلاح، فلما صدر قرار التأميم أسرعت بالرحيل.

ورأينا طرادة جبارة من قطع الأسطول البحرى المصرى، وعلى مقربة منها قاذفة طوربيد.. وكانت كل منهما تقف لتؤكد للعالم أن مصر تكفل حرية الملاحة للجميع، وأنها تضمن هذه الحرية بكل ما تملك من قوة.. ومن هذه القوة قطع الأسطول البحرى.

وبعد يومين تركنا بورسعيد إلى الإسماعيلية، وفى الطريق رأينا قافلة من المراكب «كونفوى» تشق مياه القنال.. وقال لنا مرافقنا إن هذه أكبر قافلة تعبر القناة منذ 7 شهور وتتألف من 20 مركبًا، بينها ناقلات بترول «أسكرنات» ضخمة تابعة لبريطانيا.

وقد وضع المسؤولون نظامًا دقيقًا لحراسة قوافل السفن.. فعندما تصل مركب لنقل البضائع أو البترول يستقبلها كونستابل وجنود مسلحون لحراستها وهى تعبر القناة، وإذا كانت الباخرة القادمة محمّلة بالركاب، أسرع لحراستها ضابط ومعه عدد كبير من الجنود، وذلك زيادة فى الحرص على أرواح الركاب.

يونس شعلة النشاط

وكانت الساعة تشير إلى السابعة من صباح الأحد عندما بلغت الإسماعيلية، ويوم الأحد هو يوم العطلة الأسبوعية الذى تغلق فيه الإدارة أبوابها.. وسألت عن القائمقام محمود يونس عضو مجلس الإدارة المنتدب، فقيل لى إنه أمضى الليل ساهرًا مع معاونيه وذهب فى الساعة الرابعة صباحًا يلتمس شيئًا من الراحة فى استراحة الهيئة «الربز دانس»..

وذهبت إلى الاستراحة، وفى عزمى أن أترك له بطاقة، وإذا بى أصادفه خارجًا منها بصحبة معاونيه وقد تخفف من بعض ثيابه، وانطلق معهم على قدميه بنشاط وحيوية.. فى طريقه إلى مكتبه.

قلت له:

– ألم تشعر بالتعب؟

قال:

– إننى أزداد بالعمل حيوية ونشاطًا..

وأنا أصدقه.. فهو شعلة من النشاط والحركة.. عرفته كذلك يوم كان رئيسًا للجنة جرد القصور الملكية، ويوم عهد إليه ببعث معمل تكرير البترول الحكومى..

ومضى المهندس المصرى خفيفًا نشطًا، تلمع عيناه ببريق الذكاء والوطنية.

متحف فى الاستراحة

وفى استراحة الإسماعيلية، وجدت متحفًا.. غرفة تحتوى على أثاث فردنان ديليسبس الذى استخدمه أثناء حفر القناة.. سرير صغير ربع بوصة بناموسية، وطشت من النحاس للاستحمام، ومكتب صغير عليه صورة أسرة الرجل، ودولاب للثياب، ومنضدة عليها طشت وإبريق وسلطانية..

لقد أبقت الشركة على هذه المخلفات تخليدًا لذكرى العزيز الراحل.

وفى مقر الشركة التقينا ببعض العمال القدامى، وبينهم «حسن مبارك» الذى قضى 28 سنة فى الشركة، وكان قد بدأ بيومية قدرها 3 قروش وخرج بمرتب 20 جنيهًا فى الشهر، ومنحته الشركة 40 جنيهًا معاشًا كل ثلاثة أشهر، ولو كان أجنبيًا لوصل إلى ثلاثة أضعاف هذا المرتب والمعاش.

ختامًا فى السويس

وبعد الإسماعيلية انتقلنا إلى السويس، حيث مدخل القنال الذى يحمل نصب شهداء الجيش الهندى فى الحرب العظمى الأولى، وكان أعضاء الهيئة هناك فى مكاتبهم، بالرغم من أن الشمس قد مالت إلى الغروب.. ودعانا الأعضاء للطعام.. طعام الغداء لا العشاء، فهم جميعًا يعملون بلا مبالاة بحقوق أبدانهم عليهم، ينسون كل شيء إلا الأمانة التى وضعها الرئيس جمال عبدالناصر فى أعناقهم.

وعلى المائدة طلبت كوب ماء، وجاءنى بها الفراش.. وإذا بى أكتشف أنه – واسمه «أحمد عبدالعال عبدالله» – يحمل شهادة الثقافة ودبلوم التجارة الفرنسية من الخرنفش، وقد عينته الشركة فى هذه الوظيفة بأجر 25 مليمًا فى الساعة فى فبراير سنة 1955.

وعندما تركنا مقر الإدارة بالسويس، كان العلم المصرى يرفرف على سارية البرج الكبير، بلونه الأخضر رمز السلام، وهلاله ونجومه البيضاء التى تُضىء الطريق للجميع.. فى قناة السويس.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة