لا شك أن المشهد اللافت لحال الاقتصاد العالمى والأسواق المالية وحالة التوقعات مع احتمالية حدوث ركود اقتصادى عالمى واقتراب المؤشرات الاقتصادية من الحد الفاصل فى الأفق الزمنى الضيق لانعكاس القرارات السياسية على الملفات الاقتصادية، كلها عوامل تدفع إلى تراجع النمو، وهنا لا بد أن يظهر العامل المهم عند اتخاذ قرار الاستثمار. وبحسبة بسيطة لأى دولة، فهناك أدوات البنية المالية كسندات الخزانة طويلة الأجل أو حتى السندات متوسطة الأجل، فعلى من معهم ملف الاستثمار أن ينظروا إلى نسبة المخاطرة ومعدل الربحية والحفاظ على رأس المال والاستفادة من فرص النمو.
هناك قراءة فى الأسواق العالمية، وهى حالة السندات الأمريكية طويلة الأجل التى أصبحت تشبه حالة الإدمان، والتمعن فيها لن يغير الكثير، فلقد أصبح التعويل على السندات الأمريكية طويلة الأجل غير مجدٍ كأصول خالية من المخاطر من الناحية التاريخية، بعدما أصبح الدولار مسطحًا فى الأسواق. ومن هنا نقول إن السندات أصبحت تعكس حالة المخاطر الجيوسياسية وتأثيرها على الاقتصاد، وهو ما تحذر منه دول مجموعة السبع، فقد تفاقمت الديون الأمريكية بفعل السندات الأمريكية طويلة الأجل. كذلك ديون اليابان تتجاوز ضعف اقتصادها بفعل السندات وفوائدها.
كما يتزايد الدين البريطانى إلى حد يقترب من حجم الناتج المحلى، وهنا وجب الحديث عن مخاوف المستثمرين حول العالم من الاستثمار فى السندات طويلة الأجل سواء الأمريكية أو غيرها، وإذا طلب أحد منا الإجابة نقول لهم: اسألوا الرئيس الأمريكى ترامب!
لقد أصبحت السندات الأمريكية مثلاً، التى كانت وعاءً للاستثمار، تأتى وفقًا لقرارات سياسية، وهنا تكمن الخطورة.
ولا شك أنه فى ظل التحولات الكبيرة التى يشهدها العالم، والتى ألقت بظلالها على الدول فى العالم أجمع، لم يعد هناك مكان للجمود وعدم المرونة، خصوصًا فى ظل الظروف التى يمر بها العالم من ناحية آثار الحروب التجارية التى تشتد، ودخل بها العالم وتداعياتها إلى العام الحالى، بالإضافة إلى الظروف الراهنة للحرب الروسية الأوكرانية التى استسلم العالم فيها لطول أمدها.
ولذلك وجب تغيير فكر الدول، وخصوصًا فيما يخص عمليات التمويل وأدواته الخاصة، وأصبح لزامًا على الدول البحث عن أساليب التمويل المبتكر فى ظل خضوع العالم لمنافسة قوية وتداعيات التضخم والضغوط المالية على موازنات الدول، نظرًا لحجم التحديات التى تحدث فى الأسواق المالية سواء محليًا أو عالميًا، مما يستدعى التصرف بكفاءة وفعالية، بحيث تتمكن الدول من إدارة نشاطها الاقتصادى وأدواتها المالية بأسلوب قادر على إدارة المخاطر سواء اقتصاديًا أو ماليًا، والقدرة على توليد شريحة جديدة من المستثمرين معتمدة على جودة ما تقدمه الدولة، وتوسيع قاعدة القيمة المضافة والقدرة على التغير مع الظروف والنشاط العالمى الاقتصادى المتحرك، والذى يعد مواجهته نوعًا من أنواع المعارك الشرسة التى تخوضها الدول، ويجب وأنت تتحرك نحو أدوات جديدة للتمويل، أن تعرف مواطن قوتك وما يميزك عن الآخرين. وهذا يدفعنا إلى التساؤل الهام عن أهمية السندات كأداة من أدوات التمويل اللازمة؟
إذ تعتبر السندات السيادية أداة تمويلية تلجأ إليها الحكومة لتمويل مشروعات بعينها من أجل تلبية احتياجاتها التمويلية، وهى كنوع من الأدوات التمويلية أيضًا تطرحها الدولة بشكل مستمر، وتأتى فى إطار استراتيجية تنويع الحكومة فى موارد مصادر الموازنة العامة للدولة، وهى لتمويل المشروعات التى تعكس حقيقة تنموية وقيمة مضافة تنعكس فى النهاية على الناتج القومى الإجمالى، وبالتالى تؤثر إيجابيًا فى الاقتصاد المصرى.
فمصر تعيد بنيتها المالية، كما أعادت بنيتها التحتية، ومن حقها إصدار السندات، ولكن لا بد من العودة إلى نقطة البداية: احتمالية الركود العالمى والاستثمار فى هذا التوقيت، فرص وتحديات.
فالسوق لا يملك إجابات عن الأسئلة الخاصة بآلية الاستثمارات، فى ظل تقرير منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية عن انخفاض وتيرة النمو الاقتصادى العالمى والأمريكى، فقد توقعت المنظمة أن ينخفض النمو الاقتصادى العالمى إلى 2,9 فى المائة بدلًا من 3,1 فى المائة، والاقتصاد الأمريكى إلى 1,6 فى المائة من 2,2 فى المائة، كما أن طلبات القطاع الصناعى الأمريكى والصينى تنكمش، ومع طول أمد الحروب التجارية يأتى الخطر على الاستثمارات، وحال الأسواق المالية، تفاقم الدين فى حال إصدار السندات طويلة أو متوسطة الأجل فى ظل هذا التطاحن.
إن إصدار السندات لا بد أن يكون له أثر إيجابى على مستوى الاقتصاد الكلى، ولها دور فى دفع عجلة النمو الاقتصادى، ويرتبط الناتج المحلى الإجمالى ارتباطًا طرديًا مع السندات، لذلك كان لا بد أن نطرح هذا المنظور عن الاستثمار فى هذا الوقت الصعب، تكتيكيًا، المرهون بالحالة الظرفية «الترامبية»، وذلك لأننا نصدر أيضًا السندات.
فهى تساهم بشكل كبير فى تمويل الاقتصاد بوجه عام، وقد يتم الاعتماد عليها فى تمويل مختلف القطاعات، خاصة قطاع البنية التحتية، وهى تؤثر بشكل إيجابى على أهم المؤشرات الاقتصادية، سواء الناتج المحلى أو سد عجز الموازنة العامة للدولة، وهى أيضًا سبيل إلى تنشيط الأسواق المالية، وقد ظهر ذلك فى تجربة ماليزيا والإمارات العربية، وكذلك بريطانيا والدول التى تبنت صناعة السندات واستخدامها كآلية أو سياسة لتنشيط أسواقها المالية وتطويرها.
ولا شك أنها تقوم برفع كفاءة الأسواق المالية ومعدلات رسملتها وتوسيع قاعدة المؤسسات المشتركة، ولا شك أننا فى طريقنا المثمر للبحث عن طريقة لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة، قد وجدنا هذه الطريقة التمويلية التى تتوافق مع قواعدنا وتطبيقها فى الأنشطة التمويلية والبنكية والاقتصادية، وهى وسيلة «أكثر فاعلية فى سداد عجز الموازنة العامة مقارنة بالسياسات الانكماشية التى تقترحها المؤسسات الدولية للدول المدينة، وهى حل بديل، وذلك كمادة جادة للدول من خلال مبالغ مالية تكون رافدًا جديدًا لتمويل عجز الموازنة».
فمصر تعمل على تنويع مصادر وأدوات التمويل لخفض تكلفة الاستثمارات التنموية، خاصة فى ظل الأزمة العالمية الراهنة، بما تفرضه من ارتفاع فى تكلفة التمويل وتزايد حالة عدم التيقن لدى المستثمرين، ومن ثم تم وضع خطة للدولة المصرية فى تنويع التمويل، والتى شهدت إقبالًا بما يدل على الثقة فى صلابة الاقتصاد المصرى وقدرته على تحقيق مستهدفاته فى ظل التداعيات الاقتصادية العالمية الراهنة.
لقد بات التمويل البديل أكثر أهمية فى ظل تشابك التحديات العالمية التى تزايدت حدتها مع التأثيرات السلبية للأزمة الأوكرانية على اقتصادات أنهكتها حاليًا الحروب التجارية، وموجات تضخمية لم تشهدها بعض الدول منذ أكثر من أربعين عامًا، واضطراب فى سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع غير مسبوق فى تكاليف الشحن وأسعار السلع والخدمات، على نحو تداعت فيه الأزمات على الاقتصاد العالمى.
لقد أصبحت مصر، مع خريطة التمويل المستدام للاقتصاد الأخضر، بإصدار أول طرح للسندات الخضراء السيادية الحكومية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا بقيمة 750 مليون دولار فى سبتمبر 2020، على النحو الذى أسهم فى جذب مستثمرين جدد ممن يفضلون الاستثمار الأخضر بأوربا والولايات المتحدة الأمريكية وشرق آسيا والشرق الأوسط.
وتم طرح أول إصدار لمصر من سندات الساموراى بالسوق اليابانية بقيمة 60 مليار ين يابانى، بما يعادل نحو نصف مليار دولار، على نحو جذب العديد من المستثمرين اليابانيين، حيث لاقت إقبالًا كبيرًا بما يدل على ثقتهم فى صلابة الاقتصاد المصرى وقدرته على تحقيق مستهدفاته فى ظل التداعيات الاقتصادية العالمية الراهنة.
ولذلك جاء العزم والاجتهاد لاستقطاب شريحة جديدة من المستثمرين العرب والأجانب، خاصة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا، ممن يفضلون المعاملات المالية المتوافقة، بما يسهم فى توفير التمويل اللازم للمشروعات الاستثمارية المدرجة بخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالموازنة العامة للدولة.
كما تستهدف مصر التعاون المشترك مع الجانب الصينى لإصدار سندات مصرية باليوان فى السوق الصينية التى تُعد ثانى أكبر سوق للسندات فى العالم، بما يسهم فى تنويع مصادر وأدوات التمويل وجذب مستثمرين جدد، ويساعد فى خفض تكلفة التمويل وتنوع المحفظة، والسندات كأداة جذب لقاعدة جديدة من المستثمرين بدول الخليج وشرق آسيا، إلى جانب الدول الأوربية وأمريكا، بالإضافة إلى المستثمرين المحليين، ويأتى ذلك فى ظل ظروف اقتصادية وسياسية عالمية صعبة وشديدة التعقيد، مع ارتفاع تكلفة التمويل نتيجة لموجة تضخمية حادة، على نحو يبعث برسائل ثقة واطمئنان قوية للأسواق المالية العالمية والمستثمرين فى الاقتصاد المصرى ومستقبله، وقدرته على التعامل المرن مع التحديات الداخلية والخارجية، خاصة ما يتعلق بالدين العام.
إن العلاقة الطردية المالية الأخرى بالنسبة للسندات، وهى زيادة أداء المؤشر العام للسوق مع زيادة إصدار الصكوك، سوف تنعكس بالتالى على إصدارات البورصة المصرية، وسوف تحقق عائدًا أكبر من السنوات التقليدية؛ ولذلك فهى أداة تمويلية مبتكرة وتُعتبر تغييرًا جوهريًا فى هيكل تمويل الدول ومصارفها ومؤسساتها المالية، وهى أداة جيدة للتكامل بين مؤسسات التمويل جميعًا، وهى أيضًا عملية تحويل الأصول المالية السائلة مثل القروض إلى أوراق مالية.
لذلك، فإن ارتفاع حالة الغموض الاقتصادى وعدم اليقين وتذبذب السياسات والحروب التجارية جعل الدول تنظر مرة أخرى إلى مسألة الاستثمارات فى السندات الأمريكية طويلة الأجل، وكذلك سندات أى دولة، فالرالى كبير فى زيادة معدلات الديون، وضعف النمو الاقتصادى العالمى يجعل الأصول فى حالة انكشاف على الأسواق. فحال وول ستريت الآن يبنى سياسته على التهديد ثم التراجع، مع التخلى عن الريادة، ومع ضعف الدولار، فقد أصبحت معنويات المستثمرين فى الأسواق العالمية مبنية على ضعف هذا الدولار صاحب العرش المتوّج.
وتلجأ الدول إلى إصدار السندات طويلة الأجل بدلًا من الاقتراض أو خفض سياسة التوسع فى الاقتراض الخارجى، والاتجاه للتمويل باستخدام أداة تمويلية تُخفف من عبء الدين الذى يؤثر بالسلب على الموازنة.

