يوم السبت استضافت سلطنة عمان الشقيقة جلسة المباحثات الأولى بين الولايات المتحدة وإيران، يأتى ذلك فى إطار الدور المهم الذى تقوم به السلطنة منذ سنوات فى أن تكون رسول سلام فى العديد من القضايا الكبرى، الجلسة كانت إيجابية، أشادت بها أمريكا ورضيت عنها إيران، لذا فمن المرجح عقد جلسة أخرى خلال أيام فى العاصمة العمانية مسقط، ومن الوارد أن تصبح المباحثات مباشرة فى الفترة القادمة بين البلدين.
بداية المباحثات ونشاط سلطنة عمان فى هذا الجانب، نزع –أولا- فتيل نشوب حرب ضارية فى المنطقة، كانت الولايات المتحدة عازمة على شن هجمات داخل إيران، وصل الأمر أن صدر تصريح من البيت الأبيض أن الهجمات إذا بدأت لن تبقى إيران موجودة على الخريطة، وبالفعل حركت قطعها الثقيلة قريباً من إيران، وهذا يعنى أنه كان من الوارد استعمال أسلحة مميتة، إيران ردت بتهديد أعنف، كانت اللغة والكلمات خشنة، من خلال تجارب سابقة دفعت المنطقة وما زالت ثمنا باهظا للهجمات الأمريكية سنة 2003 على العراق، المنطقة بأكملها أُضيرت، وكل الأطراف خسرت .. ومن هنا أدرك الجميع فى اللحظة المناسبة، خاصة طرفى الأزمة، أنه لا بد من التراجع عن حافة الهاوية.
نحن فى مصر فى قلب المنطقة، وعادة نكون أشد المضارين، إذا نشبت هجمات فإن ذلك يعنى توقف الملاحة تماماً فى البحر الأحمر وقناة السويس لفترة لا يعلمها إلا الله، ويعنى الإضرار بدول الخليج وتعطل مصالحها الاقتصادية، والجاليات المصرية فى دول الخليج وفى المملكة العربية السعودية كبيرة، وهذا يعنى أن يعود هؤلاء جميعا، ويفقدوا مصدر العمل والرزق، فتزداد الأعباء على الاقتصاد وعلى المجتمع المصرى.
وربما يشتد الخطر فيضطر بعض الأشقاء فى الدول الملاصقة لإيران إلى المجيء نحو مصر هربًا، كما فعل الأشقاء فى سوريا والعراق والسودان من قبل، ومن ثم سوف تكون الأعباء علينا مضاعفة والخسائر أيضا.. أعباء العائدين وأعباء توقف التحويلات التى تأتى من هناك.
يُضاف إلى ذلك تعطل تصدير النفط ومن ثم يتضاعف سعره، وهذا يثقل علينا، حتى الآن نستورد 25 فى المائة من احتياجنا من البنزين للوقود وتشغيل محطات الكهرباء والمصانع وغير ذلك.
تحقيق السلام يعنى تجنب الحرب، وكان من المقرر أن تقوم إسرائيل فيها بدور نشط، ربما توكل إليها الولايات المتحدة شن الغارات على إيران المثقلة بالعديد من الأزمات الداخلية، وهذا يمنحها مزيدًا من الغطرسة والتوحش بحق الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وربما يغريها ذلك بتنفيذ مخططها الأثير وسط الفوضى التى تنشب بتهجير سكان الضفة الغربية وسكان غزة، بما يعنى تصفية القضية الفلسطينية وقيام إسرائيل الكبرى.
كانت الحكومة الإسرائيلية تتوق إلى خطوة شن غارات على إيران، وقد عملت على تهيئة الأجواء لذلك، وقد سبق لها أن قامت بعمليات داخل إيران وطلبت من الإدارة الأمريكية أن تسمح لها بذلك، وتم استدعاء نتنياهو الأسبوع الماضى إلى واشنطن، وهناك سمع من الرئيس الأمريكى أن مشروع الهجمات على إيران توقف، وأنه بصدد الدخول فى مباحثات مباشرة مع طهران، لم تكن التفاصيل قد أعلنت، ترامب أراد أن يعلمه بها قبل أن تعلن ولكن نتنياهو شعر أن الزيارة فشلت وآماله أُحبطت فقد سافر متصوراً أنه ينال تكليفاً بضرب إيران، كما سمع منه أيضا ضرورة التنسيق مع تركيا فيما يخص الأمور فى سوريا، بما يعنى توقف الغارات والهجمات الإسرائيلية داخل سوريا، وأجرى اتصالاً فى حضوره مع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، رسالة ترامب بضرورة التفاهم بينهما حول سوريا ووافقا عليها، على الفور بدأت اجتماعات التنسيق حول سوريا بين خبراء تركيا وإسرائيل.
هذه المفاوضات تشير إلى أن المنطقة بصدد مرحلة من التهدئة بعد أن انطلقت دعوات الجهاد، المفاوضات الإيرانية والأمريكية تعنى الدخول فى مرحلة التوقف عن نشر أذرع إيران فى بعض بلاد المنطقة، بما أشعل نارًا، وتوقف مشاريع تصدير الثورة إلى بلاد المنطقة وتربية كوادر أو ميليشيات التشدد والإرهاب.
يحدث ذلك منذ سنة 1979، حين قامت الثورة الإيرانية، وللتاريخ كان أول مَن انتبه إلى ذلك الرئيس الراحل أنور السادات، ودار الزمان دورة كاملة حتى وقعت عملية السابع من أكتوبر فاشتعلت المنطقة نارًا وجرت محاولات لإثارة الفوضى فى الدول المحيطة بفلسطين، رأينا ما جرى فى لبنان خلال الشهور الماضية، وما تم فى سوريا واضح للعيان، بنيامين نتنياهو لم يتردد فى القول إن حكومته كانت وراء إسقاط نظام بشار الأسد، ولا نظن أنه يبالغ كثيراً تطورات الأمور قادت إلى ذلك وساعد على ذلك أن نظام الأسد كان استنفذ مبرر وجوده منذ سنة 2016..
شعارات مثل «الشيطان الأكبر» الوصف المفضل الذى أعلنه خامنئي بحق أمريكا فى مقابل أن إيران تمثل «محور الشر» لن يكون لها محل فى ظل مباحثات السلام، وقد تبين أن الخطاب الملتهب تجاه الولايات المتحدة الذى تبناه مرشد الثورة الإيرانية على خامنئى وكذلك خطاب التهديد من ترامب، كان هو المدخل الذى أقنع كل طرف بخطورة ما هو مقدم عليه، وكان التسخين مطلوباً لإقناع الرأى العام فى البلدين بأهمية الجلوس معاً.
هذا الخطاب التحريضى لن يكون له موضع فى كل التفاهم والتفاوض، ها هما يجلسان معًا فى عاصمة عربية وفرت لهما كل السبل للجلوس معاً وللتفاهم، حدث ذلك بهدوء وبلا زعيق.
ما يجرى لم يكن بعيدًا عما نادت به مصر والرئيس السيسى تحديدًا، إذ تحدث أكثر من مرة محذرًا من خطورة الهجمات ومن التصعيد وطالب مرارًا بضرورة التهدئة، وجرت لقاءات عدة مصرية - إيرانية أكدت على هذا المبدأ.
فى يوم السبت أيضاً، وصل وفد من حماس إلى القاهرة للتباحث حول المبادرة المصرية لإنهاء التهديد والتدمير فى غزة بهدف الشروع فى إعادة الإعمار، والواضح أن إسرائيل ترحب بهذه المبادرة وبالجهد المصرى.
حالة التهدئة التى تتجه إليها المنطقة بعد معاناة طويلة تعنى العودة إلى المسارات السياسية وإلى عملية الإعمار.. لن يكون هناك مبرر للهجمات الحوثية، إذ إنها مرتبطة بتوقف القتال فى غزة، وسوف يتوقف الدعم اللوجستى والمادى الذى كان يقدم لبعض التنظيمات والمجموعات التتى تتجه إلى العنف، سوف تتوقف معها عمليات الاستقطاب المذهبى والطائفى والأيديولوجى فى المنطقة.
وهذا يعنى أن تجار الأزمات -أقصد تجار السياسة والإرهاب- سوف تبور بضاعتهم، وتتوقف مبررات وذرائع التحريض، ساعتها سوف تسقط أوراق التوت عن الكثيرين.
هناك مَن تصوروا أن تجربة 8 ديسمبر 2024 فى دمشق قابلة للتكرار فى أنحاء المنطقة، راحوا يحرضون ويزايدون تدشين حروب الشائعات والأكاذيب، وتصور البعض أن كل ذلك من أجل غزة وفلسطين، كلا.. نعم غزة هى الغطاء والذريعة لكن الهدف الحقيقى السعى نحو تكرار تجربة الجولانى فى أكثر من بلد.
ودعونا نرسم ملامح ما جرى، البداية مصر.. زيارة الرئيس ماكرون إلى مصر، هذه الزيارة اختلفت، إذ حوّلها الرئيس السيسى إلى زيارة شعبية إلى جوار أنها زيارة دولة، الجولة فى خان الخليلى ثم زيارة جامعة القاهرة، تقول بوضوح إن التهدئة والسلام يبدأ من هنا، كانت رسالة للعالم أنه لا بد من التهدئة، وزيارة ماكرون إلى العريش، على الحدود مع فلسطين مع الرئيس السيسى ومشاهدة الواقع هناك، تعنى أن أوروبا جادة فى السعى إلى التهدئة وإحلال السلام، نحن أبناء المتوسط نتشارك فى هذا المصير، والتهدئة والسلام لا تتحقق إلا إذا كانت شاملة، الاضطراب فى أى بلد بالمنطقة يصيبها كلها، غزة أُخذت معها لبنان وسوريا واليمن وإيران فى حالة من الغليان امتدت إلى المحيط العربى كله، ولولا الجهد الدبلوماسى المتواصل عالى الكفاءة ولوطنية الدولة المصرية كلها، لاتسعت الأمور واشتعلت النيران فى كل المنطقة، من اللحظة الأولى يوم السابع من أكتوبر سنة 2023 أدركت مصر خطورة ما يجرى، وبدأت مباراة طويلة من المؤتمر الدولى الذى دعا إليه الرئيس السيسى فى منتصف أكتوبر 23 بالقاهرة، وحتى يومنا هذا.
يوما الأحد والاثنين قام الرئيس بجولة فى قطر والكويت، لبحث الأوضاع فى غزة والمنطقة لمنع التهجير وصولا إلى التهدئة التامة ثم إعادة الإعمار.
حركة نشطة فى المنطقة تلعب مصر فيها الدور الرئيسى لنزع فتيل النيران، وتوقف القتال، والاتجاه إلى التنمية والبناء السياسى والحفاظ على الدولة الوطنية والمدنية فى بلاد المنطقة.
الأمر المؤكد أن مرتزقة الميليشيات وتجار السياسة والحروب، وأصحاب الرهانات المريضة، الذين يعيشون ويتكسبون من الفوضى، هؤلاء لن يريحهم ما يجرى ولن يقبلوا به، لذا لنستعد من الآن لسيل من الشائعات والأكاذيب، وكذلك محاولات إثارة الفتن واختلاق وقائع وأشياء لم تحدث.. أو النفخ فى بعض الوقائع الصغيرة، مثل خلاف حاد بين سكرتير عام محافظة سوهاج ومساعد المحافظ، صحيح أن الأمر تم حله فورًا بقرار سريع من وزيرة التنمية المحلية، لكن خفافيش الظلام لا تتوقف ولا تهدأ.
مفاوضات مسقط بين واشنطن وطهران، لنقل بين ترامب وخامنئي، نزعت فتيل جهنم، وهى رسالة للأذرع وسائر الميليشيات التى تقوم على التحريض والإرهاب بأن دورهم على وشك الانتهاء، لم يعد هناك حاجة لهم، وأظن أن مشغليهم سوف يكفون عن إصدار الأوامر أو استخدامهم.
يلفت النظر أنه مع الاتجاه للتهدئة تصدر الدعوة من كيان غريب إلى «الجهاد» فى غزة، وقد قام فضيلة المفتى بالرد الفورى على تلك الدعوة فى بيان مهم، أوضح أن الجهاد لا يكون إلا من خلال الدولة ولا يصدر عن أفراد، وقد وجد بيان دار الإفتاء استجابة فورية لدى الرأى العام.
التساؤل: لماذا الآن؟ ولماذا لم يصدر منذ أكتوبر 2023، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، البيان محاولة لتجنيد ميليشيا جديدة وتدريب كوادر جدد وتسليحهم، على غرار ما جرى فى أفغانستان سنة 1979، والنتيجة نعرفها جميعاً، عمليات إرهابية وحرب أهلية فى أفغانستان.. الدعوة مريبة فعلاً وعلينا أن ننتبه.. دعاة الإرهاب تداعبهم أوهام القفز فى الظلام التى اعتادوا عليها.
إعلان الجهاد أو الحرب قرار الدولة ويقوم به الجيش الوطنى وليس أفراد أو ميليشيا.. الميليشيا للإرهاب فقط، لا لتحرير الأوطان ولا لبناء الدول.
فى كل الأحوال الاصطفاف الوطنى واجب اللحظة، التلاحم بين الدولة والشارع ضرورة وطنية، فضلا عن أنها إنسانية، لأن البديل هو الفوضى والخراب والتدمير.. ببساطة.. انظر حولك.