رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

فكر يستبق وفن يسطع


25-2-2025 | 17:48

فكر يستبق وفن يسطع

طباعة
بقلم: د. جيهان زكى

«ياللى بدعتوا الفنون وفى ايدكو أسرارها

 

دنيا الفنون دى جميلة وانتوا أزهارها

 

والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها

 

والفن دنيا جميلة وانتو أنوارها»

 

صدر العدد رقم 96 من مجلة «المصور» يوم الجمعة 13 أغسطس 1926 وكان على غلافه مجموعة من وجهاء المجتمع المصرى آنذاك، وهم يرتدون حللا منمقة وأربطة عنق ملونة، ويقفون فى «لقطة سينمائية» وكأنهم فى إعلان دعائى لمصر. غلاف العدد يحمل عنوان «مصر فى خارج مصر: بعثة الفنون الجميلة فى روما».

 

هنا ونحن نحتفل بمرور 100 عام على تأسيس مجلة «المصور»، استرجعت أحد المواقف التى عشتها فى معية فريق عملى المجتهد بالأكاديمية الفنون الجميلة بروما، ونحن نعيد صياغة إحدى قاعات الأكاديمية بهدف تأسيس أرشيف توثيقى لتاريخ هذه المنارة الفنية والثقافية المتفردة ذات الرداءين العربى والإفريقي.

 

كنا نبحث عن مرجع يُفسح لنا عن كواليس أول بعثة فنية سافرت إلى روما ويسطر لنا هذه الصفحة اللامعة من تاريخ الفن المصرى التى واكبت إنشاء الأكاديمية، فقررنا التواصل مع الأستاذ منير عامر الذى أشار علينا بضرورة الرجوع إلى أرشيف مجلة «المصور» فى هذه الأعوام ـ أى عشرينيات القرن العشرين ـ إبان خروجها إلى النور، وبالفعل اجتهد زميلى العزيز الكاتب والشاعر عماد عبد المحسن وأتى إلىّ بعدد مجلة «المصور» رقم 96 والذى يضم بين سبحاته درر ونفائث المعلومات عن هذه الحقبة غير المعروفة والملابسات السياسية والاجتماعية التى شكلت خلفية خروج هؤلاء الفنانين فى أول بعثة من نوعها فى مصر والإقليم العربى.

 

دعونى أنتهز هذه الفرصة كى ألقى الضوء على ما أهدته لنا مجلة “المصور” من معلومات جعلتنا قادرين على ترسيخ الركائز التاريخية لملف إنشاء أكاديمية الفنون الجميلة فى روما منذ بزوغ فكرتها الأولى على يد الفنان راغب عياد وزميله الفنان يوسف كامل وحتى تأسيسها وإيكال إدارتها للفنان المصرى سحاب الماس فى بداية عام 1930.

 

وبالعودة بعض سنوات للوراء، كانت مصر قد بدأت فى إيفاد دبلوماسيين إلى الخارج وذلك تباعا لإقرار بريطانيا بحق الحكومة المصرية فى إعادة حقيبة مستقلة لوزارة الخارجية، فى يوم 15 مارس 1922. ومن ثم، فقد أقرت سفر تمثيل دبلوماسى وقنصلى مصرى إلى الخارج، ليكون ذلك اليوم هو ما يعرف حتى اليوم بـ”يوم الدبلوماسية المصرية”.

 

وفى عام 1923 مع تولى أحمد حشمت باشا منصب أول وزير للخارجية بمصر قام بوضع اللبنة الأولى للهيكل التنظيمى للوزارة، وقرر أن يكون قصر البستان بحى باب اللوق بالقاهرة والذى كان مملوكاً للملك «فؤاد الأول» مقراً للعمل؛ ليصبح هكذا أول مقر رسمى للوزارة فى العصر الحديث.

 

كان الهيكل الإدارى للوزارة ينقسم إلى أربع إدارات رئيسية هى ديوان الوزير، وإدارة للشئون السياسية والتجارية، وإدارة للشئون القنصلية، بالإضافة لإدارة الشئون الإدارية، وبدأت الوزارة فى أعمالها وإصدار القرارات والمراسيم الملكية، وخاصة تلك التى تعنى بإيفاد القناصل إلى الخارج وأيضا تلك التى تعنى بتنظيم الوظائف السياسية.

 

وواكب عودة الخارجية المصرية إلى عملها عودة العلاقات مع مختلف العالم، وكان للعلاقات الدبلوماسية الثقافية نصيب كبير من انتعاش العلاقات الدولية المصرية، فعلى سبيل المثال قام السيد «أحمد ذو الفقار باشا» الوزير المفوض لدى سفارة مصر بإيطاليا فى يوليو 1924 برفع وثيقة هامة إلى وزارة الخارجية بالقاهرة، على إثر استجابته إلى طلب الفنان الشاب «راغب عياد» فى إنشاء أكاديمية مصرية للفنون الجميلة بروما؛ ولتكون بذلك أول كيان مصرى فى قلب أوروبا ينضح بالفن المصرى ويُعْلِى لغة الثقافة فى عقر دار الغرب.

 

واسمحوا لى هنا أن أشارككم هذه الوثيقة الثمينة التى كان لمجلة “المصور” الفضل فى نشرها فى طيات العدد رقم 96 بل وخصصت الغلاف لصورة هؤلاء المبعوثين فى مجال الفنون لتوثق هكذا حدثا فنيا هو الأول من نوعه فى تاريخ مصر والعالم العربى، وإنه لمن دواعى فخرى واعتزازى أن أطلعكم ونحن نحتفل بمئوية مجلة “المصور” على هذه التجربة التى تعتبر نموذجا متفردا من تضافر جهود الدبلوماسية المصرية، ممثلة فى شخص “أحمد الفقار باشا” والمنظومة الفنية الشبابية ممثلة فى “راغب عياد” و”يوسف كامل” لإعلاء لراية مصر بفنها وحضارتها فى إيطاليا، عقر دار الفنون الغربية لتصبح جزءا أصيلا من معالم روما أو كما يسميها الأوروبيون “المدينة الخالدة” لهو مثل يحتذى به فى التجارب التى نطلق عليها اليوم المصطلح الحديث “الدبلوماسية الثقافية”.

 

تعاقب على مسيرة إنشاء ودعم هذا الصرح الفريد نخبةٌ من رموز الفن ورواده ورجال الفكر ومن خلفهم صانعو القرار السياسى الذين لم يدَّخروا جَهداً فى تقديم الدعم والمساندة من أجل خلق هذا الكيان تحت سماء أوروبا، ولعل حماسة التأييد التى لاقتها مبادرة الفنان «راغب عياد» وزميله الفنان «يوسف كامل» فى العقد الثانى من القرن العشرين، حين قاما بعرضها على الزعيم «سعد زغلول» فى روما فى أثناء رحلة عودته من المنفى بجزيرة سيشل، خير دليل على تكامل الفن والسياسة والإدراك الكامل لكونهما وجهين لعملة واحدة.

 

عزيزى القارئ

 

أود هنا أن أوضح أن هذا النمط من الأكاديميات يقتصر فقط على دولة إيطاليا ولا توجد فى أى دولة غيرها، وفى الحقيقة أنها قد استلهمت فكرته من تردد البعثات الفنية لعقود طويلة على إحدى أهم المناطق الطبيعية المعروفة بالخضرة والطبيعة الساحرة وهى “وادى جوليا” بروما، فجاء القرار السياسى الإيطالى الواعى والصائب بدعوة هذه الدول المرتادة بصفة دورية للوادى وحدائقه وتحويل هذا التواجد الفنى غير المنظم إلى كيانات ذات إطار مؤسسى معترف به من الحكومات، بل وفى وقت لاحق أصبحت جزءا من التمثيل الدبلوماسى للدولة الأجنبية فى إيطاليا، فإذا بأوروبا تشهد مولد فكرة أكاديميات الفنون الجميلة عن طريق هذه الطفرة المؤسسية المبتكرة فى بداية القرن الماضي.

 

تعدُّ الأكاديمية المصرية للفنون بروما واحدة من بين سبع عشرة أكاديمية للفنون الجميلة بإيطاليا التى تتميز هى نفسها عن دول العالم باحتضانها لأكاديميات الفنون الجميلة الأجنبية على أرضها. وتتفرد الأكاديمية المصرية بكونها الممثل الوحيد لهذا النمط من المنصَّات الفنية عن القارة الإفريقية والعالم العربي، وتشارك اليابان فى كونهما الدولتين الممثلتين «للشرق» بين تلك الأكاديميات.

 

هذا الفضاء الرحب للأكاديمية المصرية للفنون الجميلة بروما خلق على مر عقود طويلة، آفاقًا واسعة وممدودة، دائمًا ما كانت مبتكرة حاملة فى طيّاتها أنشطة مواكبة لكل زمن وتحدياته، وكذلك فعاليات «ذكية»، متعددة الأوجه، لتقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب، وتوجيه النشء سواء من الأوروبيين أو المصريين للتعرف على الآخر، وحثّهم على مزيد من الاحتكاك الفنى الخلاق.

 

عاشت مصر.. الفن والحضارة دائمًا وأبدًا.

الاكثر قراءة