فى خطوة غير مسبوقة، أعاد الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، تعيين سيباستيان لوكورنيو رئيسًا للوزراء، وكلّفه بتشكيل حكومة جديدة، بعد أربعة أيام فقط من استقالته، وسط أزمة سياسية حادة تعصف بفرنسا.
عودة لوكورنيو المفاجئة يُنظر لها على أنها انعكاس لعزلة ماكرون السياسية وآخر محاولة للرئيس الفرنسى لإحياء ولايته الثانية، فى ظل غياب الأغلبية البرلمانية وتزايد الانتقادات من خارج وداخل صفوفه.
بعد إعادة تعيينه رئيسًا للوزراء، صرح لوكورنيو بأنه يقبل المهمة الموكّلة إليه من قِبل الرئيس ماكرون بـ«دافع الواجب»، معربًا عن عزمه على تأمين إقرار الموازنة العامة لفرنسا قبل نهاية العام، والعمل على معالجة قضايا الحياة اليومية للمواطنين. كما شدد على ضرورة ابتعاد أعضاء الحكومة المقبلة عن الطموحات الرئاسية لعام 2027، والتركيز على مهامهم التنفيذية.
تفاقمت الأزمة السياسية عندما استقال لوكورنيو فجأة، بعد مرور 14 ساعة فقط من إعلان حكومته الجديدة، التى لم تستطِع الصمود بعد انتقاد وزير الداخلية برونو ريتيلو، زعيم الجمهوريين المحافظين، تعيين برونو لو مير، وزير المالية السابق الذى يُلام الآن على ارتفاع الدين الفرنسى إلى 4 تريليونات دولار، وزيرًا للدفاع. الإخفاقات المتكررة للرئيس ماكرون أدت إلى تجدد دعوات من شخصيات معارضة للاستقالة أو الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة مرة أخرى.
الانقسامات السياسية حول كيفية خفض الدين العام الفرنسى وعجز الموازنة أدت إلى سقوط اثنين من رؤساء الوزراء الثلاثة السابقين خلال العام الماضى، وترك البلاد فى حالة من «الشلل السياسى». لذا فإن التحدى الذى يواجهه لوكورنيو هائل. وقد بلغ الدين العام الفرنسى ما يقرب من 114 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، ومن المتوقع أن يصل عجز الموازنة هذا العام إلى 5.4 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. وما يزيد الأمر صعوبة على لوكورنيو هو أنه سيواجه تصويتًا على الثقة فى الجمعية الوطنية حيث لا يتمتع ماكرون بأغلبية تدعمه. وقد وصلت شعبية الرئيس إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق هذا الأسبوع، وفقًا لاستطلاع رأى أجرته مؤسسة «إيلاب»، والذى حدد نسبة تأييده عند 14 فى المائة.
عودة لوكورنيو من جديد لم تمر مرور الكرام، حيث قوبل قرار ماكرون بانتقادات واسعة من مختلف الأطياف السياسية لعدم تقديمه أى تنازلات، حيث بدا سلوك ماكرون هذا العام فى اختيار ثلاثة رؤساء وزراء من معسكره الوسطى أو اليمينى الوسطى -الثالث منهم للمرة الثانية- غير مفهوم على نحو متزايد. جوردان بارديلا، زعيم حزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف، صرح بأن حكومة لوكورنو الثانية ليست سوى «مزحة سيئة، وعار ديمقراطى، وإهانة للشعب الفرنسى». وأضاف أن حزبه سيُجرى تصويتًا بسحب الثقة ضد الائتلاف الحكومى، والذى يقتصر سبب وجوده على «الخوف من حل البرلمان». بدوره، كتب منسق حزب «فرنسا الأبية» على منصة «إكس»: «صفعة أخرى للفرنسيين من غير مسئول غارق فى غروره.. فرنسا وشعبها يشعران بالإهانة»، موضحًا أن الحزب اليسارى الراديكالى سيقدم «اقتراحًا جديدًا» لعزل ماكرون.

من فرنسا، قال الدكتور توفيق قويدر شيشى، خبير العلاقات الدولية، إن هناك أزمة سياسية فى المشهد الفرنسى، وأزمة اقتصادية خانقة حيث وصلت ديون فرنسا إلى 3400 مليار يورو. وهذا يؤثر بدوره على الميزانية والمعاش والقدرة الشرائية. وهو ما حذرت منه المديرة العامة السابقة لبنك النقد الدولى كريستين لاجارد التى قالت إنه على فرنسا أن تفى بالتزاماتها تجاه الدائنين والبنوك والاتحاد الأوروبى. ما انعكس على التعقيد الذى نشاهده الآن فى الشأن الداخلى. فبعد سحب الثقة من رئيس الحكومة الأسبق فرانسوا بايرو، تلاه سيباستيان لوكورنيو والذى لم يدُم طويلا ثم أعاد الرئيس تعيينه وتمسك به. وحتى الآن ننتظر تعيين الحكومة الجديدة، التى قبل تعيينها قالت الأحزاب اليسارية والاشتراكيين واليمين المتطرف إنها سوف تقوم بالتصويت على سحب الثقة منها. وأتوقع أن تكون الحكومة حكومة «تكنوقراط» لأن هناك استقالة جماعية من حكومة لوكورنيو الآن.
ويرى «قويدر» أن خطوة تعيين لوكورنيو هى نفاد للحلول، وفشل آخر من طرف ماكرون فى تعيين شخصية لديها أغلبية فى البرلمان، اليسار والاشتراكيين مجتمعين. صحيح ليس لديهم أغلبية مطلقة، لكن هناك أغلبية نسبية حيث يتجاوزون 220 نائبًا. وجرى العرف فى فرنسا أن مَن يحصل على الأغلبية النسبية، يُعين منه رئيسًا للحكومة. ولكن ماكرون صرح بأنه لا يريد العمل مع حكومة يسارية ولا التعامل مع حكومة يمينية متطرفة، حيث يراهن على مَن ينتمون إلى حزب النهضة. وهو رهان خاسر؛ فحزب النهضة لم يفُز بأى انتخابات بلدية، وخسر الانتخابات التشريعية السابقة، والانتخابات الأوروبية. كذلك ماكرون متعنت فى توجهاته عندما عيّن لوكورنيو الذى قال وكأنه يعلن مسبقًا بأنه خاسر، إن الظروف غير مناسبة لتشكيل حكومة، وإن الأحزاب فضلت المصلحة الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية.
«قويدر» أكد أن هذا هو الخيار الأخير لماكرون. فخيار الانتخابات البرلمانية المبكرة مستبعد لأنه يكلف الخزينة أكثر من 50 مليون يورو. كذلك خيار انعقاد انتخابات رئاسية مبكرة لأن أقصى اليسار، بمَن فيهم الاشتراكيون، حاولوا ذلك سابقًا، لكن تم تجميد المقترح من قِبل مارين لوبان زعيمة حزب «التجمع الوطنى» اليمينى المتطرف، وحزب الجبهة الوطنية، وحزب الجمهوريين.

من جانبه، أوضح خالد شقير، الصحفى المختص بالشأن الفرنسى، أن الرئيس الفرنسى يعيش فترة عصيبة نتيجة الانقسام الداخلى وتسابق الأحزاب اليمينية منها واليسارية لحكومات ماكرون المتتالية، محملين ماكرون نفسه أسباب هذا الانسداد السياسى الذى تشهده البلاد، خاصة ونحن على أعتاب انتخابات محلية فى الربيع القادم.
«شقير» أشار إلى مقابلة ماكرون لقادة الأحزاب بقصر الإليزيه مستثنيًا حزب اليمين المتطرف «التجمع الوطنى» وحزب أقصى اليسار «فرنسا الأبية» قبل تسمية لوكورنيو فى محاولة لحثهم عن تفادى الأسوأ، وهو حل البرلمان لتفادى وصول اليمين المتطرف للحكم بقيادة جوردان بارديلا. وحسب استطلاعات الرأى فى حالة إجراء الانتخابات الآن، سيحصل اليمين المتطرف مع بعض الأحزاب اليمينية على الأغلبية. وبالتالى خطوة وصولهم الى قصر ماتنيون قائمة ستتلوها خطوة أخرى، وهى إلى قصر الإليزيه فى 2027، ولهذا دقّ ماكرون ناقوس الخطر لكل هذه الأحزاب.
ويرى «شقير» أن ماكرون فشل فى التأثير على هذه الأحزاب. وظهر هذا جليًا من خلال تصريحاتهم بعد اللقاء معه، ثم جاءت خطوه تعيين لوكيرنيو للمرة الثانية لتظهر تثبت ماكرون بموقفه، ولكن كل المؤشرات تؤكد أن هذه الحكومة فى طريقها للسقوط مجددًا فى الأسبوع القادم. فالطريق أمام لوكورنيو ليس ممهدًا. وسيكون هذا الخريف ساخنًا حيث يمكن للشارع الفرنسى أن يتحرك ضد ماكرون وحكوماته المتتالية على الرغم من إعلان تجميد قانون المعاشات لـ2027 من قِبل ماكرون لإرضاء الأحزاب اليسارية والفيدراليات العمالية والشارع الفرنسى.. ويبقى السؤال مطروحًا: هل سينجح فى هذا السيناريو؟