رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«مو صلاح».. بين عوالم العلم والفلسفة


17-10-2025 | 16:56

.

طباعة
بقلـم: إيمان رسلان

هل فى الجنة كرة قدم؟.. سؤال مباغت من طفل، كنت أقرأ العبارة من كتاب د. صلاح قنصوة، «ومو صلاح» الأسبوع الماضى يضع الهدفين الثانى والثالث لمصر، وللمرة الثانية نصل عبر «مو صلاح» إلى كأس العالم.. فجاء كتاب «عالم مو عندما يركل الفلاسفة الكرة» فى موعده وتوقيته وبسرد فلسفى من د. قنصوة أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا، والذى ترجم هذا الأسبوع إلى الإنجليزية عن دار نشر ريشة، فى قطع صغير يماثل كتاب الهلال جاءت صفحات الكتاب، ويحمل غلافها صورا لمو صلاح فى أوضاع ركل الكرة، وتبويب الكتاب يشبه تقسيمة الرباعيات أو الشذرات، قصيرة وواضحة.

ذكرنى الكتاب بقصة فيديو صغير ما زلت أحتفظ به عن الفلاسفة والعلماء يلعبون مباراة لكرة القدم، واستمتعت بالفيديو وتمنيت وقتها أن يذاع بالمدارس ليعرف الطلاب ببساطة أسماء الفلاسفة والعلماء، وتماما مثل هذا الكتاب فهو يصيغ الرؤى الفلسفية للفلاسفة ببساطة ووضوح، ويربطها باللعب وفى ذلك مبادرة جديدة لتخرج الفلسفة من قاعات الدرس الضيقة، حتى إننى عرفت عن الفيلسوف شيللر قوله لا يلعب الإنسان إلا حين يكون إنسانا ولا يكون إنسانا تماما إلا حين يلعب، وهى العبارات التى افتتح بها د. قنصوة الكتاب الذى يقدم به وجبة جديدة مبتكرة، وهى دراسة وتأثير عالم كرة القدم وتحديدا مو صلاح على الفكر والسلوك الإنسانى، فى تجربة ابتعدت عن تعالى النخبة والمثقفين وأساتذة الجامعات عن عالم الرياضة واللعب وكرة القدم تحديدا حتى إنها فى زمن غير بعيد اتهمها البعض منهم بأنها أفيون الشعوب لإلهاء من الحكومات والسلطات، تماما مثلما قيل فى الهجوم على أم كلثوم؟! والسبب أن هذه الشخصيات فذة فى تفردها واقتربت من الجماهير وقلوبها، فكيف للجماهير أن تبتعد عن الكلام الكبير المرصوص بجانب بعضه البعض، تماما مثل النظرة والتنظير فى الصحافة والسياسية، فهناك درجات ومراتب -غير مراتب النوم - فالكتابة والمناصب والصفحات هى للسياسة وأحيانا للاقتصاد وما بينهما وهو فعل مثل كأن، لذلك نجد الأسماء واللجان تتكرر؟! وهو يشبه كذلك برامج التحليل الكروى التى نشاهدها ونستمع لها وتتكرر بها الأسماء والمصطلحات مثل الضغط على الخصم، البديل الجاهز، الروح القتالية، وإشعال الحماس قبل المباراة وأثناءها والرغبة فى الفوز، كلها مصطلحات أو التوتر الجذاب والانفعالات التلقائية، وهنا يذكر المؤلف الفيلسوف الألمانى نيتشه الذى قال إن الحياة هى أن تعيش فى خطر!، ثم ينقلنا د. قنصوة إلى المفكر ميكافيللى ومقولته إن الغاية تبرر الوسيلة، وهو ما يطبق فى كرة القدم مثل أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، وهنا تكون الوسيلة هى الهجوم وتحقيق الدفاع بإحراز الأهداف والتحكم فى سير المباراة بأسلوب خاص يجلب الاستحواذ ومن ثم السيطرة، ولا ينسى د. قنصوة أن يتساءل عن هل تعد كرة القدم فى بعض الأحيان عزاء للفقراء والضعفاء فى موت حياتهم الاقتصادية على يد الأغنياء، ويذكر رحلة بيليه أسطورة الكرة البرازيلية، كما يرصد أجواء مباراة السنغال وفرنسا فى كأس العالم وقول مدرب السنغال إن مباراتنا هى مواجهة الطبقة العاملة والنبلاء؛ لذا هى من أشرف الحروب. ومن أجمل مقاطع الكتاب هو الاستعانة بمقالات لمحمود درويش وقوله عن الكرة إنها الحرب ولكن على البساط الأخضر؛ ولذا فهى أشرف الحروب كما قال درويش، وذكر لمقالات درويش عن «مارادونا» وكيف يمكن أن تنتسب الجماهير إلى فوز وفرد، فيكتب محمود درويش عن مارادونا بمجلة اليوم السابع ماذا صنعت بالمواعيد وماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله بالأرجنتين وإلى من نأنس ونتحمس بعدما أدمناه، وهنا أفتح قوسا لأقول إننى شعرت وكأن درويش يحيا معنا ويتكلم عن «مو صلاح»، فالمقاهى الآن تفتح شاشتها على الدورى الإنجليزى ومن أجل صلاح، «فمو» هو ما نأنس به ولأننا فى أجواء غزة الحبيبة فلا أنسى مشهد أهالى غزة بالمقاهى عام 2017 فى تصفيات كأس العالم، حينما أحرز محمد صلاح هدف التأهل لمصر ثم الثانى، وكما صرخت ورقصت كانت غزة ترقص وتهتف لمصر وصلاح.

يرصد الكتاب حالة المقاهى وإجبار الكافيهات على وضع تلفاز ونادرا ما لا نجد مقهى بدون كرة، فالجميع يشاهد ويتابع ويغنى فرحا بمولد حالة من التفرد والاستثنائية رغم أنه يحترم جماعية اللعبة -وهو ما يجيده صلاح - لكنه أيضا ما يخطف الأبصار هو أداء هذا الفرد الاستثنائى، وهنا ينقلنا د. قنصوه إلى الفيلسوف جان جاك روسو وتعبيره عن فكرة الفرد الذى يمثل خطا فاصلا بين ما قبله، وما بعده، ويكتب روسو الكلمات عن الفردية والتفرد، فإذا ما أخذنا كلماته بالتطبيق على محمد صلاح وتفرده فهذا الإنسان البسيط ابن قرية نجريج، لا يحمل غير إنسانيته الكامنة وحلمه وقدراته وطموحه ومعها تواضعه، إنه صورة الشاب المواطن العادى الذى يحمل دلالة المواطن العالمى، وهنا يقول روسو أنا دون غيرى عرفت نفسى وخبرت الناس، وفعلا مو صلاح دون غيره ينطلق صاعدا محلقا فى الآفاق، وأصبح صلاح والكرة هو النداهة، كما كتب عنها يوسف إدريس إنه عشق كرة القدم فى العالم كله -حتى ترامب دخل على خطها مؤخرا - أو كما قال الفيلسوف الأديب الفرنسى البير كامو «تعلمت أن الكرة لا تأتى أبدا نحو أحدنا من الجهة التى ينتظرها منها»، وينقلنا الكاتب من كلماتها إلى رحلة البدايات لصلاح وقطار الصباح الذى ينقله إلى المدينة والنادى، وهنا يتساءل المؤلف بدهشة هل اكتسب صلاح سرعته فى الجرى بالملاعب من لعبة جرى الأطفال الصغار بالريف مع القطار فى تحدٍ للسرعة؟! سؤال مدهش وربما يحمل الصحة والدهشة معا.

ويضيف د. قنصوه إننا يمكن أن نفهم موقف صلاح من الكرة من خلال ما ذهب إليه الفيلسوف الوجودى سارتر، بقوله إن الوجود الحقيقى هو الوجود الذى تشعر فيه الذات الإنسانية أنها قائمة بنفسها مسئولة عن وجودها واختياراتها، أما الوجود الزائف فإنه انفصال الشخص عن إمكانياته الذاتية والخاصة ليتبع الآخرين، فتكون معاناة الاغتراب، إن لاعب الكرة هو المشروع نفسه الذى يستثمر نفسه وقدراته.

يشير الفيلسوف الألمانى هيدجر الذى يجعل الوجود هو الزمن والوجود يعنى الوعى، ويستعرض د. قنصوه الزمن فى كرة القدم، ما بين فارس فى فيلم «الحريف» رغم الحرفية الشديدة لكنه البطء فى رد الفعل، إنه عامل الزمن، وهو ما أشار إليه مدرب روسيا حينما كان يلعب ضد منتخب مصر فى بطولة العالم 2018، والمنتخب به صلاح، ولكنه شرح الأمر بنيته الفوز على مصر قائلا: إن الكرة التى يلعبها المنتخب المصرى وبه صلاح بطيئة، وتختلف عن السرعة فى تسليم الكرة فى الأداء، والكرة التى يلعبها صلاح ضمن فريق ليفربول، وهو ما سوف نلعب عليه بقطع الكرات قبل أن تصل إلى صلاح!؟، إنه الوعى بالوجود والزمن، بمعنى آخر إدراك الحركة والتغيير مقابل الثبات، أو كما قال الفيلسوف اليونانى قديما هيراقليطس إنك لا تنزل البحر مرتين، وهو ما نفتقد إدراكه عامل الزمن والتغيرات التى تحدث وكيف نتعامل معها. أعتقد أن تلك هى مشكلتنا ليست فى كرة القدم فقط بل فى كل القطاعات، وإذا كان مو صلاح أدرك عامل الزمن والتغيير أو كما قال أنا فى عقلى أخبر نفسى وأننى أحتاج أن أتطور أكثر، والرغبة تحتاج استجابة أو سرعة الاستجابة للتطور والمعرفة، وهكذا يلهمنا صلاح دائما عناصر المستقبل، وإذا كنت كتبت سابقا عنه مقالات ومنها أنه كما د. زويل فى معمله أى أنه زويل الكرة المصرية، لم أكن أبالغ فى حبى لصلاح فهو الملهم والاستثنائى فعلا، وها هو د. قنصوة يفككك عالمنا وعالم صلاح فى قراءة فكرية للعصر وأدواته، وما أحوجنا لمثل هذه الأمثلة والقراءات حتى لا يصبح الفكر وحيدا يحلق بين أربعة جدران. وذكرتنى باستمرار تداول نفس الأسماء والأساتذة فى لجان الترقيات بالمجلس الأعلى للجامعات، إنه عنصر الزمن والوجود الذى لا نحسن معرفته وإدارته، ندور به فى حلقات مفرغة.

 
 
 
 

أخبار الساعة