لا شك أن أكاديمية البحث العلمى ومراكز البحوث المصرية تكتظ بآلاف العلماء والباحثين النابغين الذين يعملون ليل نهار فى صمت، دون البحث عن ضجيج إعلامى أو صيت وشهرة، من أجل التوصل إلى اكتشافات علمية ربما تؤدى إلى تغيير أوجه الحياة فى مصر نحو الأفضل، ومن حقهم علينا تسليط الضوء من وقت لآخر على إنجازاتهم العلمية .
من بين هؤلاء العلماء مجموعة بحثية متميزة تعمل بمركز بحوث الصحراء التابع لوزارة الزراعة، هذه المجموعة توصلت إلى اكتشاف علمى مذهل، ربما يغيّر وجه الحياة بالأراضى الصحراوية، ويصنع مستقبلاً مشرقاً للزراعة فيها، ويفتح أبواب الأمل لاستصلاح عشرات الملايين من الأفدنة الجديدة.
هذا الفريق البحثى المتميز بقيادة الدكتور «على عبد العزيز» أستاذ مساعد الاحتياجات المائية بشعبة مصادر المياه والأراضى الصحراوية بمركز بحوث الصحراء، عمل على مشروع حقن التربة الرملية بالطين وعنوانه المختصر (إيجيبت كلاي).
هذا المشروع الذى استغرق أكثر من 10 سنوات قضاها الباحثون فى البحث والدراسة دون كلل أو ملل حتى اكتمل، سوف يُعيد للتربة الرملية قدرتها على الاحتفاظ بالماء والغذاء، كما هو الحال فى الأراضى الطينية الخصبة، ليس هذا فحسب بل إنه يعمل توفير من 50 إلى 70 فى المائة من مياه الرى، وهذا فى حد ذاته إنجاز عظيم، ويوفر أيضاً من 35 إلى 50 فى المائة من الأسمدة فضلاً عن زيادة الإنتاجية.
الدكتور «على عبد العزيز» قائد فريق البحث قال لى إن مشروع حقن التربة الرملية بالطين، والذى يتم مرة واحدة، ويجعل الأرض تحتفظ بخصوبتها مدى الحياة، هو ثروة مصر الحقيقية فى مجال استصلاح الأراضى التى ستواجه به تحديات نقص مياه الرى، باعتباره يوفر نسبةً لا تقل عن 50 وربما 70 فى المائة منها، وتبلغ تكلفة حقن فدان من المحاصيل الحقلية والخضراوات ما بين 20 و30 ألف جنيه، فى حين تصل تكلفة حقن فدان مزروع بالأشجار إلى 21 ألف جنيه فقط.
طريق طويل بدأ بفكرة جريئة عام 2013 ثم تحول إلى مشروع تطبيقى ضخم غيّر معادلة استصلاح الأراضى الرملية فى مصر، وفى عام 2017 دخل المشروع مرحلة التنفيذ الفعلى امتدت عبر سنوات من التجريب والتطوير.
التحدى الأكبر والمهمة الاستكشافية الشاقة كمنت فى البحثً عن مصادر «الطين» فى مصر.
خلال تلك المرحلة تمت دراسة مكونات الطين فى بحيرة ناصر كمصدر محتمل، لكن العمق الهائل (180 مترًا) والتكلفة الباهظة جعلاها غير اقتصادية، فضلاً عن نتائج التحاليل أثبتت أن الطين السائد هناك لا يمتلك الخصائص المناسبة لتحسين التربة الرملية، فاتجهت أنظار الباحثين إلى نواتج تكريك الترع والمصارف، ولكن تبين أنها مشبعة بالملوثات والعناصر الثقيلة وبذور الحشائش، فاستُبعدت تماماً حفاظًا على الأراضى الصحراوية البكر من الإصابة، حتى عثر الفريق على خامات طينية غنية موجودة بوفرة فى صخور صحراء مصر، يمكن تكسيرها وطحنها واستخلاص حبيبات السلت والطين منها، وبعد أن طوى الباحثون صفحة البحث عن مصادر الطين بدأوا مرحلة الإنتاج من خلال خط «قادر 1» فى مركز التنمية المستدامة لموارد مطروح، وهو أول خط من نوعه لتحويل الصخور الهشة إلى حبيبات سلت وطين قابلة للحقن داخل التربة.
هذا الخط تم تزويده أيضًا بوحدة متطورة لاستخلاص جزيئات الطين النانوية (النانو كلاي)، لكن الباحثين اكتشفوا أن النانو كلاى الذى يُروّج له تجاريًا غير مجدٍ زراعيًا ولا اقتصاديًا على الإطلاق، إذ كانت تجربته مخيبة للآمال، فجزيئاته الدقيقة تُغسل بسهولة مع مياه الري، وتختفى فى الموسم التالي، بل ربما تُسبب طبقة صماء تمنع الصرف فى الأعماق، لهذا تم استبعاده من المشروع، باعتباره «حلًا سريع الزوال، باهظ التكلفة، قليل الفاعلية».
وفى المرحلة الثالثة، طور فريق البحث تكنولوجيا حقن دقيقة لضخ حبيبات السلت والطين فى باطن التربة حتى عمق 40–50 سم للمحاصيل الحقلية وعمق 1.5 متر للأشجار .
وبهذه التقنية ثبت أن التربة الرملية المحقونة بالطين تحتفظ بمياه الرى والأسمدة داخل منطقة الجذور الفعالة للنبات، فتقل الفاقدات من مياه الرى بنسبة من 50 إلى 70 فى المائة، وتوفر من 35 إلى 50 فى المائة من الأسمدة، مع زيادة ملحوظة فى الإنتاجية وتحسين خصائص التربة، الرائع فى هذا الاكتشاف العلمى أن الأرض المحقونة تصبح جاهزة للزراعة فى اليوم التالى للحقن مباشرة ولا تحتاج له مرة أخرى.
وفى المرحلة الرابعة والأخيرة، أُضيفت لمسة مصرية أخرى، كما قال لى الدكتور «على عبد العزيز» حيث تم تخصيب حبيبات السلت والطين بالعناصر الغذائية الطبيعية ونواتج تحلل المخلفات الزراعية، ما أنتج ثلاثة تركيبات صديقة للبيئة مسجلة كبراءات اختراع من أكاديمية البحث العلمي.
وبهذه الخطوة أصبح المشروع قادرًا على معالجة الأراضى الرملية والمالحة والقلوية، بل وتثبيت الكثبان الرملية فى المناطق المهددة بالتصحر، ويفتح أبواب الأمل نحو استصلاح ما لا يقل عن 9 ملايين فدان جديدة.
الفريق البحثى لا ينشد مجداً شخصياً، ولا يبحث عن مزايا ومكافآت مالية، فكل ما يتمناه أن تتبنى الدولة مشروعه، وتمنحه دعماً مالياً حتى يمكنه تلبية مطالب آلاف المزارعين، ويمكِّنه من عمل خطوط إنتاج فى عدد من المحافظات التى بها ظهير صحراوى، ومن ثم توفر تكاليف النقل.
مشروع بحثى آخر بطله الدكتور «سعيد سعد سليمان» أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، هذا العالم الجليل حلم بالتوصل إلى صنف أرز جديد لا تحتاج زراعته إلى كميات كبيرة من المياه.. هذا الحلم راوده منذ عام 1985 عندما عانت مصر من انخفاض منسوب النيل لمدة عشر سنوات فى الفترة من (1978-1988)، فتطرق إلى تجربة الصين ونجاحها فى استنباط أصناف عالية المحصول تتحمل الجفاف، ولا تحتاج إلى وجود مياه فوق سطح التربة، وبالفعل تقدم بمشروع لزراعة أصناف من الأرز التى توفر 50 فى المائة من المياه، مستعيناً بالتهجين والطفرات والانتخاب بين الأصناف المقاومة للجفاف والمنخفضة المحصول، والمصرية الحساسة للجفاف وعالية المحصول، ونجح بالفعل فى انتخاب 110 سلالات عام 1993 واستمر التقييم حتى توصل إلى أربعة أصناف مقاومة للجفاف والملوحة واللفحة وعالية المحصول أطلق عليها عرابى1، وعرابى2، وعرابى3، وعرابى4، حصلت على براءات اختراع رقم 70، 110،111،112 من وزارة الزراعة عام 2010، هذه الأصناف قصيرة العمر(120 يوماً فقط، تعطى محصولاً من 4 إلى 6 أطنان للفدان) ناهيك عن صفات التبييض والطهى الممتازة.
وبالفعل تمت زراعة تجارب تأكيدية بدأت بمساحة 10 أفدنة حتى وصلت إلى أكثر من 100 ألف فدان فى موسم 2015 واتسعت رقعة انتشاره فى محافظات الدقهلية والشرقية والبحيرة وكفر الشيخ والغربية والمنوفية والقليولبية، كما انتشر خارج الدلتا ليصل إلى محافظات كانت لا تزرع الأرز مثل الفيوم والوادى الجديد وأسوان وشمال سيناء والإسكندرية.
ولم يتوقف حلم الدكتور «سعيد» عند زراعة أرز الجفاف بالأراضى الطينية بل نجح فى زراعته فى الأراضى الرملية وريه بنظم الرش والتنقيط بأبو صوير وتوشكا، كما نجحت زراعته بالرى بالرش أو بالتنقيط فى واحة سيوة وسهل الطينة وقرية جلبانة وقرية الأبطال بشمال سيناء، ومركز بدر والنوبارية ووادى النطرون، وانتشرت زراعته فى الوادى الجديد وخاصة واحة الفرافرة منذ عام 2018، مما أدى لإصدار قرار محافظ الوادى الجديد رقم 21 لسنة 2021 بزراعة أرز الجفاف عرابى 3 وعرابى 4 بالمراكز الخمسة بالوادى الجديد وعدم زراعة أى أصناف أخرى.
وفى موسم 2024 تمكن الدكتور سعيد من إنتاج تقاوى الأساس من خلال زراعة 15 فدانا تحت إشراف الإدارة المركزية لفحص واعتماد التقاوى بوزارة الزراعة، والأهم من ذلك أنه أصبح بإمكاننا التوسع فى زراعة الأرز بالأراضى المستصلحة لتصل مساحته إلى 3 ملايين فدان.
وفى الختام أقول: تحية لكل عالم وباحث حوَّل حلمه من مجرد دراسات حبيسة الأدراج إلى حقيقة ملموسة تفيد بلدنا الحبيبة مصر.