وتحدثت رئيسة صندوق النقد الدولى عن حالة الخرائط التى تغيرت، والاقتصادات التى تصدعت، بالرغم أن العالم نجح فى تجنب صدمة السياسات الحمائية والرسوم الجمركية، إلا أن زوارق المخاطر تجعل الأسواق مفتوحة.. وهنا تظهر مشكلة التمويلات، ثم نطرح السؤال الأبرز: هل تم اختبار قدرة العالم والأسواق على الصمود بالكامل؟
طبعًا الإجابة القاطعة: لا، لم يتم اختبار الأسواق والعالم بالكامل، وهناك تأثير على التقييمات، إلا أن هبوط مؤشر الدولار أمام العملات يدعم المقترضين، والخوف من الضغط على الهوامش الربحية، فتزيد الأسعار، ويتعرض العالم لموجة جديدة من التضخم.. وهناك إشارات مقلقة لحركة التجارة العالمية التى تجرى مثل المياه، وعلى صانعى السياسات المحافظة على حركة التجارة العالمية، فى وقت أقدمت البنوك المركزية على زيادة حيازتها من الذهب.
وهنا نتطرق إلى ما يسمى «مناطق التصحيح»، فلابد من الذهاب إلى هذه المناطق سريعًا لزيادة معدلات النمو الاقتصادى، خصوصًا للدول النامية، وعلى صناع القرار توفير فرص العمل للشباب وإجراء الإصلاحات المالية.. ولا شك أن الأحاديث الدولية المثارة: هل تصمد الدول فى وجه العاصفة فى الفترة القادمة؟.. لقد تم إعادة رسم خريطة جديدة للعالم، والكل ينتظر بارقة أمل من اجتماعات المؤسسات المالية فى العاصمة الأمريكية واشنطن، باعتبارهما أكبر مؤسستين دوليتين يسيران الأمور المالية عالميًا، ألا وهما: «صندوق النقد الدولى والبنك الدولي».
فالاستراتيجيات المتداخلة، والتى تخدم بعض الأجندات، جعلت النتائج تختلف اختلافا جذريا عن التوقعات، فالتشتت يخيم على الاجتماعات، والكل لا يرى قراءة الأحداث أو لا يريد قراءة الواقع قصدًا.. فالعالم يمر بمرحلة غاية فى الصعوبة وهناك اختبار كبير لصناع السياسة فى المرحلة القادمة.
لقد اجتمع محافظو البنك وصندوق النقد الدوليين، فى لقاء الربيع، لمعالجة الأزمات العالمية المتتالية والمتمثلة فى التوقعات الاقتصادية العالمية، والقضاء على الفقر، وإعادة هيكلة الديون العالمية، والتنمية الاقتصادية، وفعالية المساعدات والتغلب على الديون، وكيفية تحقيق النمو، والحكم بفاعلية على الأوقات العصيبة التى يمر بها العالم، وتسريع وتيرة التنمية فى عصر الأزمة العالمية، وتمكين النساء، وكيفية تحفيز قوة رأس المال الخاص فى التنمية المستدامة، وكيفية تحفيز سلاسل الإمداد المستدامة والشاملة، والاستثمار فى رأس المال البشرى لتسريع وتيرة التمويل الأخضر.
وكان من المنتظر أن يستعيدوا الثقة فى الاقتصاد العالمى من خلال تحديد مستوى عال من الطموح للمؤسسات المالية الدولية، وذلك لتفعيل عملها فى معالجة بعض أكبر التحديات التى يواجهها العالم.
وهذا يجعلنا نتحدث أولًا عن تصريحات المسئولين فى البنك والصندوق عن التمويلات وأهميتها وجدواها بعد كل هذه المناقشات فى خريفهم المفتوح، هذا كان حديث الفاينانشال تايمز أيضًا، فإن التحديات العالمية ملحة وخطيرة وشديدة التعقيد، والتمويل الخارجى السنوى يبلغ أكثر من تريليون دولار للبلدان النامية، والذى من المفروض أن يساعد الحكومات على حماية شعوبها من التأثيرات المناخية المتزايدة، وتحويل اقتصاداتها إلى اقتصاد فاعل.. فهل هذا يحدث بالفعل؟!.
إننا نتساءل فقط لمسئولى البنك والصندوق، أن تعهداتكم لهذه الشعوب لم يتم الوفاء بها منذ عام 2009 والتى كانت 100 مليار دولار فى السنة، ولم يتم الوفاء بها حتى الآن، بالإضافة إلى أن 60 فى المائة من الدول الناشئة النامية ومنخفضة الدخل تعانى «ضوائق مالية»، أو هى قريبة منها، فى حين أنهم جروا العالم إلى هذه الحرب الهجينة وعرضوا كل البلدان لصدمات اقتصادية بسبب هذه الحرب، ووباء كورونا الذى لا يعرف أحد من أين أتى ومن هو المسئول عنه، والتى جعلت الدول فى حالة من عدم المساواة، وهناك ما يقرب من 100 مليون شخص يعيشون فقرًا مدقعًا حول العالم أكثر مما كانوا عليه قبل جائحة «كوفيد 19».
ويبدو أن محافظى البنك الدولى ليسوا مستعدين لأى تغييرات إضافية لمضاعفة الموارد اللازمة لحل المشكلات الحقيقية، فهناك اختلاف فى وجهات نظر المساهمين حول أولويات المؤسسات المالية الدولية قد تؤدى إلى تفاقم عدم الثقة عالميًا.. فالعالم بمؤسساته المالية يحتاج إلى حجم هائل ونقلة نوعية فى حجم التمويلات، والاستجابة السريعة لمعاناة الدول النامية، وتحفيز رأس المال الخاص للاستثمار فى البلدان النامية.. ويرى خبراء المؤسسات المالية أن الدول الناشئة تحتاج إلى زيادة الدعم المالي، بينما الدول الكبرى لا ترى وتغمض عينيها قاصدة بعدم تخصیص أموال كافية لحل المشكلات التى تسببت فیها جزئيًا.
وبالنظر إلى تصريحات المحللين للواقع الاقتصادى فى هذا الشأن الخاص بالمساعدات أو التمويلات، فنرى أن البنك والصندوق لم يقدما حلولًا واضحة، بل وغير راغبين فى الابتكار على نطاق واسع.. فالعالم فى حاجة إلى مزيد من إقراض المؤسسات المالية الدولية مع حماية الفقراء، ويجب عليهم قبل اجتماعهم المقبل، أن يجدوا حلولا لمزيد من التمويل الميسر والاستثمار الخاص والاستخدام الإبداعى لحقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولى (لخفض أسعار الفائدة).
فالتمويلات الميسرة هى أهم الوسائل لحل المقايضات المفترضة بين المناخ مقابل التنمية، والأولويات الوطنية فى مقابل تفعيل المنافع العامة العالمية - سواء مناخيًا أو فى مساعدة فقراء العالم، أو تخفيف عبء الديون المتراكمة، والتى لم تترك كبيرًا أو صغيرًا.
وهنا نشير إلى ماهية نمو الاقتصاد العالمى.. لقد كان الصندوق فى مطلع هذا العام قد عدل توقعاته للنمو الاقتصادي، وكان متفائلًا بشأن نمو الناتج المحلى إلى 3.1 فى المائة بدلا من 3 فى المائة، ولكن حال العالم لا ينم عن ذلك، إلا إذا قام المجتمعون بدورهم فعلًا، فلابد من عودة الثقة عالميًا أولًا بإمكانية التوسط فى صفقة طموحة للمؤسسات الدولية لمحاولة (ترميم العالم).
نعم، ترميم العالم، ونقصد به أن تشارك المؤسسات الدولية المالية فى ضخ مزيد من الاستثمارات وخلق حالة من المسئولية للمؤسسات متعددة الأطراف وتهدئة حالة المنافسة بين القوى العظمى أكثر من ذلك، وأن يتم الاتفاق على حزم تمويلية لتهدئة وتلبية مخاوف جميع البلدان لحل المشكلات الاقتصادية العالمية، التى يحتاج إليها العالم أكثر من أى وقت مضى، وأن تكون هناك الإرادة السياسية لها لتوسيع نطاقها بشكل كبير، وإلا تحولت الاجتماعات - سواء ربيعية أو شتوية، إلى «مكالمة لأصحاب الياقات البيضاء».
وبالرغم أن العالم ومؤسساته تنظر بعين الاعتبار إلى بيانات التضخم الأمريكية فقط على حساب بقية الدول، وتبنى آليات قراراتها، وتشير رسائل صانعى السياسة النقدية فى الاقتصادات الرئيسية إلى أن الأسواق بدأت تتوقع أن تخفض البنوك نسب الفائدة لتخفيف وطأة ارتفاع كلفة الاقتراض فى ظل الضغوط الائتمانية الناجمة عن أزمة القطاع المصرفي، ولكن هذه التوقعات التى يبنى عليها المجتمعون قراراتهم، قد لا تتحقق، فقد أثبتت المراحل الماضية أن «النتائج عكس التوقعات»، حتى لو كان أصحابها هم: الفيدرالى الأمريكى أو المؤسسات المالية الدولية.
فالتحديات التى تواجه الاقتصاد العالمى كبيرة، فحتى اتجاهات التجارة الدولية قد تغيرت، ولابد لكل دول العالم أن يكون لديها حالة من الحذر الدائم.. الاقتصاديون يستطيعون شرح سلوك أى أمر فى الاقتصاد، ولكن أى اقتصادى فى العالم لا يستطيع تفسير ما يحدث، وكأن العالم أصبح على قارعة الطريق، والقضايا التقليدية التى يطرحها مختلف المشاركين فى الاجتماع تم التركيز على فرص الحصول على مزيد من التسهيلات والقروض، مطالبين الدول الناشئة بمزيد من الاستقرار الاقتصادى والسياسى والاجتماعي، بجانب ضرورة استقرار السياسات المالية النقدية لكل الدول المنخرطة فى برامج مشتركة مع صندوق النقد الدولى أو البنك الدولي.
فالصندوق لا شك يلعب دورًا فى رسم ملامح السياسات الاقتصادية التى تطبقها البلدان المرتبطة معه ببرامج مشتركة، إذ إن بنية الاقتصاد العالمى السائدة حاليًا، منحت الصندوق «المفتاح السحري»، الذى من خلاله وبواسطته، تستطيع حكومات الدول التى تعانى اقتصاداتها من مشكلات تهدد استقرارها، الحصول على قروض تنموية من مؤسسات التمويل الدولية المختلفة أو الفنية أو حتى القطاع المصرفى العالمي، الذى يمتلك فوائض مالية كبيرة وبحاجة إلى أسواق للعمل فيها بأدوات تمويلية مبتكرة ومختلفة.
نحن بحاجة إلى المفتاح السحري، فلاشك أن المؤسسات التى تجتمع بواشنطن تعلم جيدًا أنه بدون شهادة صادرة من صندوق النقد الدولى تفيد بأن هذا البلد أو تلك الحكومة، تقوم بتطبيق سياسات اقتصادية تتفق مع فلسفته، فإن أبواب غالبية مصادر التمويل الخارجية الموجودة فى هذا العالم ستكون مغلقة أمام هذه الحكومات للحصول على تمويل يغطى عجوزات موازناتها أو الحسابات الجارية لموازين المدفوعات، وهذا يعرضها لمخاطر مالية واقتصادية لا تعرف مداها.
وننوه هنا بأنه من المخاوف أو عود على بدء المشكلات المجدولة فى اجتماع الخريف، هى مشكلة الديون العالمية، خصوصًا أن توقعاتهم تشير إلى زيادة الديون الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية والصين فى المرحلة القادمة إلى أكثر من 136 فى المائة من الناتج المحلى لواشنطن و130فى المائة من الناتج المحلى لبكين، مع خفض توقعات النمو العالمى ومخاوف الصندوق، الذى يقول إن الديون العالمية ستتفاقم إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف الناتج المحلى الإجمالى.. ويرى «الخبراء الوازنين» أن سياسات الصندوق المعمول بها، لا تمتلك أي حلول فعلية لوقف التدهور فى تفاقم هذه المشكلة، وتضع مجمل الاقتصاد العالمى على صفيح ساخن.
لا شك أن معدلات النمو تحتاج إلى الإنتاجية، ومشاركة القطاع الخاص الذى يعطى مرونة أكثر، وتحفيز الشركات على الاستدامة مع استمرار حالة عدم اليقين.
وكانت «جورجييفا» تشدد على ضرورة أن تواصل المصارف المركزية مساعيها لحفظ الاستقرر النقدى والمالى العالمى، وأن تعطى الأولوية لمكافحة التضخم، ثم يأتى الاستقرار المالى من خلال أدوات مختلفة، وفى رأينا أن هذه التصريحات تشير عكس آليات ما يحدث فى الأسواق.
ونكشف كذلك أن نشر التوقعات المعدلة للاقتصاد العالمى ستشكل نقطة للانطلاق، سواء رسمية أو غير رسمية، وسواء للمؤسسات الدولية أو الدول بصفة عامة، خصوصًا بعد إشارة ريستالينا جورجينيا المدير العام للصندوق، إلى أن التوجه العالمى السائد بالنسبة للنمو العالمى المتوقع دون نسبه الـ 3.1 فى المائة فى حين لا يتضمن مثل هذا التصور مخاطر ما يحدث.. وبالتالى ستظل أسعار الفائدة والتضخم والديون والنمو، تخيم على آفاق النمو العالمى.