رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

دراسة فى تجربة بيرم التونسى.. تحولات الزجل فى مصر الحديثة


11-10-2025 | 13:20

.

طباعة
بقلم: عماد سالم

لكلّ أمةٍ تراثها الأدبى الذى يميزها، وإذا كان الأدب الكلاسيكى المكتوب قد مثّل وجه الثقافة الرسمية، فإن الفنون الشعبية، وعلى رأسها الزجل، كانت المرآة الأصدق لوجدان الجماهير، واللسان الذى لم يتخلّ عن دوره الاجتماعى والسياسي. فالزجل ليس مجرّد غناءٍ للتسلية، بل خطاب متجدّد قادر على التعبير عن اللحظة التاريخية بأبسط العبارات وأكثرها رسوخًا فى الذاكرة.

 

نشأ الزجل فى الأندلس فى القرن الرابع الهجري، متكئًا على الموشحات قبل أن يستقل عنها، وبلغ ذروته مع ابن قزمان (توفى 554هـ)، الذى جعل منه فنًا قائمًا بذاته يقوم على البساطة وتنوع الإيقاع واستجابة حاجات المجتمع. انتقل الزجل إلى المشرق، واستقر فى مصر مبكرًا؛ حيث وجد بيئة شعبية خصبة أعادت صياغته وفق طبائعها. برز شعراء مثل ابن النبيه المصرى وشرف الدين بن أسد، الذى عُرف بزجله الساخر «البليقة»، وهو شكل لاذع فى كشف عيوب المجتمع بلسان شعبي. ومع مرور الزمن، ارتبط الزجل بالمقاهى والأسواق والمناسبات، حتى غدا أداة للتثقيف والتسلية فى آن واحد.

ومع صعود الحركات الوطنية والاجتماعية فى العصر الحديث، تحوّل الزجل إلى خطاب جماهيرى مباشر، فقد استخدمه عبد الله النديم سلاحًا فى الثورة العرابية، ثم ارتبط بثورة 1919 والهتافات الوطنية، واستمر حضوره فى ثورة يوليو وأحداث القرن العشرين. هذا التراكم مهّد لظهور شخصية فريدة هى بيرم التونسى (1893–1961)، الذى وحّد بين التراث الشعبى وإمكانيات الشعر الحديث، ومنح الكلمة العامية أفقًا جديدًا فى التعبير والمقاومة.

إن دراسة «بيرم» لا يمكن فصلها عن الامتداد التاريخى للزجل؛ فهو الابن الشرعى لتراث طويل، لكنه استطاع أن يطوّعه لقضايا عصره: مقاومة الاحتلال، نقد الاستبداد، وتعميق وعى الناس. وبذلك جمع بين الوظيفة التحريضية للزجل وبين أفقه الجمالي؛ ليصبح علامة فارقة فى شعر العامية المصرية.

ولد بيرم فى الإسكندرية فى بيئة شعبية منحته لغة قريبة من وجدان الناس وتجارب حياتية متصلة بالشارع والأسواق، هذه النشأة جعلته يرى أن الكلمة الشعبية ليست مجرد تسلية، بل وسيلة للتعبير عن معاناة الناس وتطلعاتهم. لذلك جاء شعره ممزوجًا بعامية رشيقة، مليئًا بالمفارقات الساخرة، ومعجونًا بروح التمرد، كما تأثر بالصحافة الشعبية والأغانى والمواويل المنتشرة فى مطلع القرن العشرين، فصار شعره ابنًا شرعيًا لبيئة لا تعرف الحواجز بين الثقافة العالية واليومية.

تميّز بيرم بقدرته على جعل الزجل مرآة للواقع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين. فقد صاغ نقدًا لاذعًا للاستعمار البريطانى والحكم الملكى والفساد الاجتماعي، بلغة مباشرة محملة بالصور الساخرة. ورث نبرة «البليقة» الساخرة، وأضاف إليها بعدًا سياسيًا عميقًا، فحوّل السخرية إلى وعى مقاوِم.

كما ارتبط شعره بالغناء ارتباطًا وثيقًا، إذ وجد فيه وسيلة للوصول إلى أوسع جمهور، كتب أزجالًا غنّاها كبار المطربين، فأعاد للزجل مكانته الأصلية كفن غنائي، لكنه طوّره ليكون أغنية تحمل رسالة وطنية واجتماعية. على المستوى الفني، حافظ بيرم على البنية التقليدية للزجل بأشطره الأربعة وإيقاعه المنتظم، لكنه أدخل لغة الحياة اليومية والأمثال الشعبية والتعابير الدارجة. هذا الدمج منح شعره طزاجة وقربًا من الناس.

إلى جانب ذلك، اتسمت أزجاله بكثافة التورية والجناس والمفارقة، مما جعلها تجمع بين البساطة والعمق، فيخاطب العامة بوضوح ويمنح المثقف متعة التأمل. كان بيرم مثقفًا عضويًا بالمعنى الحقيقي؛ إذ جعل من شعره أداة لبناء وعى وطني، وشارك بصوته فى ثورة 1919، وظل حاضرًا فى خطاب التحرر الوطنى حتى بعد النفى والإبعاد.

بهذا المعنى، مثّل بيرم امتدادًا لعبد الله النديم، لكن بفارق جوهري: فالنديم كان خطيبًا ثوريًا يعتمد الزجل للتعبئة المباشرة، أما بيرم فكان شاعرًا مجددًا جمع بين الزجل كفن جمالى وأداة تحريضية. وبذلك أسّس لنمط جديد من شعر العامية يجمع بين الغناء والالتزام الوطني.

إن تجربة بيرم التونسى تمثل حلقة محورية فى تاريخ الزجل المصري، فقد ورث هذا الفن روح السخرية والالتصاق بالناس، لكنه أضاف إليه بعدًا وطنيًا وسياسيًا غير مسبوق، جعله أكثر عمقًا واستمرارية. ومن هنا يمكن القول إن بيرم لم يكن مجرد زجّال بارع، بل مجدد كبير نقل الزجل من حدود التراث الشعبى إلى رحابة الشعر الوطنى المعاصر، وجعل من الكلمة الشعبية قوة فاعلة فى تشكيل وعى الأمة ووجدانها.

أخبار الساعة