السؤال الذى يطرح نفسه: ما الشيء الذى تدركه الأسواق ولا يعرفه العالم؟!.. وهل المستثمرون أصبحوا يفكرون بشكل تاريخى ونظرة بعيدة أم هم يقرأون أفكار رجل الصفقات دونالد ترامب؟!.. فلا أحد يعرف مدة الإغلاق، وهل هى حالة من التقاط الأنفاس الأخيرة للاقتصاد الأمريكى، الذى يخسر 15 مليار دولار أسبوعياً نتيجة هذا الإغلاق الممنهج.
وهنا نطرح رؤيتنا فى هذا الإغلاق الحكومى الأمريكى بعد مرور أيام معدودة، فى محاولة لتفكيك الصورة..
لعل ما يدعم هذا التصور أن الخيارات مفتوحة وصعبة فى الوقت نفسه، وأولها مسلسل خفض الفائدة الأمريكية والصراع على السوشيال ميديا بين رجل الصفقات ورئيس الفيدرالى الأمريكى جيروم باول، الذى جر العالم من قبل إلى سياسة التشديد النقدى وأدخل العالم كله إلى السرداب المظلم لنار التضخم.. ومن هنا نقول لو بدأنا البحث فى مصفوفة الأهداف الترامبية نجد أن هناك الملف الأسخن، وهو إعادة ترتيب الأوراق وقواعد اللعبة التى تقود إلى أمرين، أولهما إضعاف الدولار كعملة احتياطية على مستوى العالم، والثانى ممثل في صعود الذهب إلى مستويات قياسية..
وهناك فرق كبير بين الإرباك والارتباك.. لقد فضل رجل الصفقات أن يزرع الإرباك والارتباك معاً على مستوى العالم حتى يدعم تصوره فى هذا المعترك، مع هشاشة الوضع الجيوسياسى العالمى الذى أعطى بريقاً للذهب والعملات المشفرة، ليجعل العالم يتعلق فى المتاهة الاقتصادية.. وقبل الخوض فى فكرته علينا جملة من الإيضاحات أن الأسواق العالمية لم تتآكل وكأن المتداولين يعرفون كيف يفكر هذا الرجل ومساعدوه، وأن الأسواق فى وول ستريت تكره الغموض، ولذلك كانت الفكرة من المستثمرين: «كن مستعداً للإغلاق الأمريكى الفيدرالي»، فهذا الحدث يغير المعادلات، وليقارب الجميع الذهب - نجم نجوم المرحلة، ليكون الملاذ الآمن، وكيف تكتنزه الدول، وقد تحدثنا من قبل على صفحات «المصور» عن تكنيز الذهب للحكومات، خاصة الصين التى قرأت السيناريو مبكراً.. وبالتالى فقد بدأ ترامب الشرارة فى الأسواق، التى لا ترحم من يتأخر عن الفصل بين الخسارة والربح..
هنا نستطرد القول، بشأن أولى أوراق رجل الصفقات، فالإغلاق الحكومى عندما تمت هندسته كان الكل يعلم أن هناك تعذراً فى صدور البيانات الاقتصادية الخاصة، سواء بالتضخم أو التوظيف أو إنفاق المستهلكين، وهنا يحرم سيد وول ستريت جيروم باول من البيانات الاقتصادية التى يعتمد عليها فى تقييم خفض أسعار الفائدة الأمريكية، فى مسلسل سخيف متعمد، وهنا يستمر الضغط على الدولار، ولا يصبح فى أفضل حالاته، ويلجأ الجميع بالطبع إلى الملف الأسخن المستهدف وهو الذهب، والأمر الثانى لجوء حاملى السندات الأمريكية إلى استبدالها بشئ آخر - إما الذهب أو البيتكوين..
الأمر ليس خلافاً عادياً بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإنما الإغلاق الحكومى الأمريكى الذى تمت هندسته بطريقة فنية، فلم يفلح رجل البيزنس وصاحب منصة إكس، الساحر إيلون ماسك، فى خفض الإنفاق الحكومي أو حتى ترشيده، وأصبح أمام رجل الصفقات أن يفاوض أعضاء الكونجرس الديمقراطيين على تمويل الموازنة العامة، والكل يعلم أن أمريكا لديها تعاظم فى الدين السيادى يبلغ حوالى 32 تريليون دولار، ولم يستطع ترامب السيطرة على النمو الاقتصادى والتضخم، لذلك اختار المخاطرة حتى النهاية ولجأ إلى الإغلاق الحكومى الأمريكى، بحجة أن الدولة العميقة وعدم التصويت لصالح التمويل الترامبى حتى يستطيع تنفيذ خطته فى فصل أو الاستغناء عن حوالى 800 ألف وظيفة والسيطرة على ملف الهجرة بطريقة ملاتفة، لذلك تحصنت الأسواق فى وول ستريت ضد الإغلاق الحكومى الأمريكى، وكأنها كانت تعلم وتنتظر ذلك..
برؤية واضحة تراجعت الوظائف الزراعية بنحو 32 ألف وظيفة، مع انكماش النشاط الصناعي ومؤشر الدولار يخسر 11 في المائة من قوته سريعاً ، وضمن رجل الصفقات عدم خفض التصنيف الائتماني لأمريكا، ولكن ترامب لم يهتم كثيرا بخفض الناتج المحلي 1فى المائة إلى 02 في المائة، فالشكل التنازلى للأسواق - والتى تقلل الفرص الجيدة، لم ينظر إليها رجل الصفقات بشكل سلبى، ولكن كان أمامه مهمة أخرى، وهى تحريك قطع الشطرنج قطعة قطعة، و وإلغاء وتفكيك الدولة العميقة ومشروعات أقرها الكونجرس من قبل فى عهد الديمقراطيين، مثل مشروعات النقل فى نيويورك بقيمة 18 مليار دولار، مع إلغاء أيضاً مشروعات للطاقة الخضراء التى لا يؤمن بها أبداً، ويعتبرها احتيال عالميًا بقيمة 8 مليارات دولار فى 16 ولاية، والذهاب إلى التحفيز المفرط للذهب، ليخاطب حاملى السندات الأمريكية باستبدالها بفقاعة الذهب والعملات المشفرة لتخفيض الديون الأمريكية بالحيلة..
كل هذه الهندسة فى الإغلاق الحكومى الأمريكى، من أجل أن تعود أمريكا عظيمة اقتصاديا وليس على الورق فقط، لذلك من وجهة نظرنا، كان هناك استهلاك للمواعيد النهائية للتمويل الحكومى من أجل التسريح الجماعى للعمالة، وضمان تحشيد الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية لترامب وفريقه، وتفكيك دوائر القرار في الدولة العميقة التى شكلها الحزب الجمهوري، وكأن ترامب هو الذى احتجز الحكومة من أجل التسريح الجماعى.. وهنا نقول: لقد حصل رجل الصفقات على ما يريده، و هو فرض سردية تسير وفق قواعد اللعبة مع رهونات أن الأسواق لم تقلق من الإغلاق الحكومى الأمريكى..
الكل يعلم حجم الدين الأمريكى، وكيف نجحت «بكين» في امتطاء حصان طروادة، ولن يلحق بها ترامب واستحوذ على كثير من السندات الأمريكية، وهنا تعمد كبير البيت الأبيض، افتعال حالة من الفوضى العارمة أو الفوضى الخلاقة من نوع آخر.. فوضى سياسية ومالية من أجل إعادة تشكيل التكتل الاقتصادى وترتيب قواعد اللعبة من جديد وإنقاذ أمريكا، وليذهب الجميع إلى الجحيم وكأنه القناص المحترف..
والسؤال هنا: هل اقتربت اللعبة من نهايتها أم مازال هناك وقت؟!.. فالولايات المتحدة لديها 8133 طناً من الذهب موجود فى قلعة نورث فوكس منذ الحرب العالمية الثانية، وأقنعت أوروبا بتخزين ذهبها لديها.. وهنا المشكلة ليست فى الكمية ولكن فى قيمتها دفترياً، التى سجلت بها فى وزارة الخزانة، فكل أونصة قيمتها 42 دولاراً، فقد يتصاعد الذهب فى هذا المعترك المخطط والفقاعة الذهبية إلى 4000 دولار للأونصة، ومن هنا يبدأ رجل الصفقات أوامره إلى حاملى الدفاتر بإعادة تقييم هذا الأصل بسعر اليوم، ليكون لديه على الأقل فوق التريليون دولار مرحلياً، ويحترق العالم ويغرق وتطفو أمريكا..
إننا أمام الحقيقة المتضاربة، الضغط على المستهلك الأمريكى وفقدان آلاف الوظائف في القطاع الخاص والوظائف الزراعية.. لقد بلغ الدين الأمريكى ما يمثل 120 من الناتج المحلي، فالإنفاق الأمريكى أكبر من نظيره الأوروبي، وستثبت الأيام القادمة «ماذا سيفعل سيد وول ستريت جيروم باول بدون بيانات»، فى مسلسل سعر الفائدة الأمريكية والصراع بينه وبين دونالد ترامب؟ وكيف يكون مؤشر الدولار وأسعار الذهب والعملات المشفرة وحجم الوظائف الأمريكية؟.. وكل هذا المعترك المخطط والشكوك المثارة حول اختراق جمود الدولة العميقة والسيطرة على الكونجرس الأمريكى من رجل يفكر لأمريكا ولنفسه، وإلى حديث آخر.