رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

فريدات مصر.. الأصل والمعنى والصفة


11-10-2025 | 13:24

.

طباعة
بقلـم: د. جيهان زكى

فريدة... اسم يهمس بأن الاختلاف هو أجمل ألوان الحياة.

يُقال عن الشيء إنه فريد إن لم يكن له مثيل، وكأنما خُلق ليكون استثناءً لا يتكرر.

كلمة فريدة فى معاجم اللغة العربية تُطلق على الشيء المتفرّد الذى ينسج حوله هالة من التميّز والتألّق.

وحين يُختار هذا الاسم للبنات، فإنه لا يُمنح إلا ليفصح عن الأمل فى روح مميّزة، تحمل فى حضورها إشراقة خاصة لا تُشبه أحدًا، وتفيض رقّة وأناقة تجعلها مختلفة فى كل تفاصيلها. إن فريدة ليست مجرد كلمة أو اسم، بل وعدٌ بالتفرّد، ورمزٌ للجمال النادر الذى يترك فى القلب أثرًا خالدً.

 

على مرّ العقود، ارتبط اسم «فريدة» بعدد من الشخصيات النسائية التى تركت بصمات واضحة فى مجالات مختلفة، من الملكة المتوجة إلى الفنانة الاستعراضية، ومن المطربة صاحبة الصوت العذب إلى المذيعة المرموقة، فقد ظل الاسم يتردد ليحمل وراءه حكايات متنوعة، يجمعها التميز والتفرد.

وأول هذه الأسماء اسم الملكة «فريدة» كواحدة من أبرز الرموز النسائية المصرية التى ارتبطت بتاريخ العصر الملكى، ليس فقط لأنها كانت زوجة الملك فاروق، بل لأنها تحولت إلى أيقونة للجمال والرقى، وظلت صورتها حية فى الوجدان المصرى حتى بعد سقوط الملكية.

وهنا دعنى عزيزى القارئ، أصطحبك لدهاليز الحياة الأرستقراطية فى الإسكندرية عام 1921، حين وُلدت الملكة فريدة تحت اسم صافيناز ذو الفقار لعائلة عريقة تنتمى إلى أصول تركية شركسية، ودعنا نتتبع معا قصة نجاح هذه الشخصية الـ«فريدة» اسما وموضوعا، والتى انصهرت قلبا وقالبا فى المجتمع المصرى وارتبطت به حتى اليوم.

كانت فريدة فتاة متعلمة، تجمع بين الجمال والذكاء، وقد التقت بالملك فاروق لأول مرة خلال رحلة شتوية فى منتجع سان موريتز بسويسرا. هناك، خطف جمالها أنظار الملك الشاب، ليقرر بعد فترة قصيرة أن يتزوجها.

فى عام 1938، تزينت مصر كلها باحتفالات الزفاف الملكى، الذى وُصف بأنه حدث القرن العشرين على غرار ما عشناه فى التاريخ المعاصر فى حفل زفاف الأميرة ديانا.

ومع لحظة عقد القران، أصبح اسمها الملكة فريدة، وهو الاسم الذى اختاره لها الملك بنفسه..

لم تكن الملكة فريدة مجرد زوجة تقف فى ظل زوجها، بل استطاعت أن تصنع حضورًا خاصًا بها، لُقبت بـ«أيقونة الأناقة»، وكانت صورها الرسمية التى التُقطت فى قصور القاهرة والإسكندرية تُعرض كنموذج للذوق الرفيع.

الأزياء التى ارتدتها، وأناقتها البسيطة، جعلت منها مصدر إلهام للنساء فى مصر والعالم العربى. حتى اليوم، لا تزال صورها تحظى بإعجاب كبير بوصفها تجسد مزيجًا من الملكية والرقى.

رغم المظاهر البراقة، لم يكن الزواج الملكى خاليًا من التوتر. ومع مرور السنوات، توترت العلاقة بين الملك والملكة، خصوصًا مع تزايد الخلافات داخل القصر الملكى. وفى عام 1948، وقع الطلاق، بعد أن أنجبت الملكة ثلاث أميرات هن: فريـال وفوزية وفادية.

الطلاق لم يكن مجرد حدث شخصى، بل كان صدمة للرأى العام، إذ لم يكن مألوفًا أن تنفصل ملكة عن زوجها، خاصة فى مجتمع يقدّس صورة العائلة الملكية، وبعد الطلاق عاشت الملكة فريدة بعيدًا عن أضواء القصر، لم تتزوج مرة أخرى رغم العروض التى تلقتها، وظلت محتفظة بوقارها وهيبتها، وكأنها لا تزال تحمل روح الملكة فى أعماقها. فى سنواتها الأخيرة، اتجهت إلى ممارسة الفن التشكيلى، حيث وجدت فى الرسم متنفسًا للتعبير عن مشاعرها. أقامت معارض فنية لاقت تقديرًا، وأظهرت جانبًا آخر من شخصيتها بعيدًا عن البروتوكولات الملكية. رحلت الملكة فريدة عام 1988، لكنها تركت إرثًا من الصور والذكريات التى لا تزال شاهدة على عصر كانت فيه الملكية جزءًا من وجدان المصريين.

ولننتقل إلى فريدة أخرى، اعتبرها التاريخ رمزًا لمرحلة كاملة من النهضة الفنية وهى فريدة فهمى التى ارتبط اسمها بالهوية المصرية التى جمعت بين الحداثة والأصالة، ومن خلال أدائها الإيقاعى، استطاعت أن تنقل صورة مصر للعالم، بملامحها الشعبية الممزوجة بالروح الاستعراضية الراقية.

وحين يُذكر الرقص الاستعراضى فى مصر، لا يمكن أن يغيب اسم فريدة فهمى. فهى لم تكن مجرد راقصة على خشبة المسرح، بل كانت مشروعًا فنيًا وثقافيًا حمل الفلكلور المصرى من الأزقة الشعبية إلى أضواء المسارح العالمية، وجعل من الرقص الشعبى فنًا راقيًا له هوية واضحة.

البدايات... طالبة جامعة حلمت بالفن

وُلدت فريدة فهمى عام 1940 فى القاهرة، ونشأت فى بيئة مثقفة دفعتها إلى الجمع بين الدراسة الأكاديمية والفن، التحقت بجامعة القاهرة، لكن شغفها بالفنون الاستعراضية كان أكبر من أن يُحصر فى قاعة درس. وجدت ضالتها فى لقاء الأخوين محمود رضا وعلى رضا، اللذين كانا يخططان لتأسيس فرقة تهدف إلى إحياء التراث الشعبى.

عام 1959، كانت فريدة فهمى هى «الوجه الأنثوى» الأول لفرقة رضا للفنون الشعبية، ولم تكن مجرد راقصة، بل كانت رمزًا للأناقة والرقى على المسرح، قدّمت رقصات استعراضية مستوحاة من الريف والصعيد والمدن المصرية، لكنها صاغتها برؤية فنية متطورة جعلت الجمهور ينظر للفلكلور باعتباره فنًا جديرًا بالتقدير.

يقول النقاد إن فريدة فهمى «أعادت تعريف صورة الراقصة» فى ذهن المجتمع المصرى، من مجرد أداء فى الأفراح الشعبية، إلى فن راقٍ يُدرّس ويُعرض فى المسارح الكبرى، ولم يقتصر حضورها على خشبة المسرح، بل انتقل إلى الشاشة الفضية، شاركت فى أفلام استعراضية أصبحت من كلاسيكيات السينما المصرية، مثل: إجازة نص السنة 1962، وغرام فى الكرنك 1967.

هذه الأفلام لم تكن مجرد ترفيه، بل وثّقت تاريخا وحفظت خطوات الحركة الاستعراضية المصرية فى سجلات الزمن، وقدّمتها للأجيال بوصفها جزءًا من هوية السينما والفن الدراسة والاحترافية. ما ميّز فريدة فهمى عن غيرها أنها لم تكتفِ بالموهبة الطبيعية، بل اختارت أن تصقل تجربتها بالدراسة. بعد سنوات من النجاح، أكملت دراستها الأكاديمية فى مجال الرقص والفنون بالخارج، وعادت لتقدّم خبرتها بشكل أكثر عمقًا، واضعة بصمة علمية على مشروعها الفنى.

عزيزى القارئ:

حين نستحضر اسم فريدة، نقف أمام مفارقة صنعها القدر، وهى أن تحمل الساحة المصرية اسمين لامرأتين فريدتين، اجتمعتا على مسار واحد تتقاطع فيه التجارب بين الميكروفون، والقلم، ومقعد البرلمان، ولعلّك، خاصة إن كنت من أبناء جيلى، ستتسرّع بالقول، فريدة الزمر! 

نعم، بلا شك هى إحدى العلامتين البارزتين، لكن هناك أيضًا فريدة الشوباشى، التى عُرفت بتجربتها الفكرية وتوجّهها السياسى اليسارى، وبصمتها الناصرية فى الوعى الجمعى، حتى طغى حضورها السياسى على صورتها الإعلامية.

على عكس فريدة الزمر التى ارتبطت فى الأذهان بالطلة المبهجة والابتسامة الساحرة القادرة على إضاءة حياة المشاهدين حتى فى أصعب المنحنيات الاجتماعية والسياسية التى عرفتها مصر.

فى الحقيقة، فقد ارتبط اسم الإعلامية والبرلمانية فريدة الزمر بمرحلة ذهبية من تاريخ التليفزيون المصرى، حين كانت استوديوهات ماسبيرو هى المصدر الأول للأخبار والبرامج الثقافية والسياسية، وقد تميزت منذ بداياتها بقدرتها على الحضور أمام الكاميرا بهدوء وثقة، وقدمت برامج مهمة تركت أثرًا فى الجمهور، خاصة فى فترة الثمانينيات والتسعينيات، وهى المرحلة التى شهدت تحولات سياسية واجتماعية كبرى فى مصر والمنطقة العربية.

إلى جانب عملها الإعلامى، خاضت فريدة الزمر تجربة فى العمل السياسى بترشحها لانتخابات مجلس الشعب، فى محاولة لترجمة مكانتها الإعلامية إلى تأثير مباشر فى الشأن العام مما جعلها نموذجا مضيئا للمرأة المصرية.

وُلدت فريدة الزمر فى الجيزة، ومُنحت شهادة بكالوريوس الآداب (قسم اللغة الإنجليزية) من جامعة القاهرة، لتنطلق بعدها إلى عالم الإعلام.

فى عام 1972، انضمت إلى التليفزيون المصرى، بدأت رحلتها الإعلامية مع برنامج «النادى الدولي» إلى جانب سمير صبرى، والذى يُعدّ أحد أوائل برامج الـتوك شو فى التليفزيون المصرى. تلتها مجموعة من البرامج الناجحة مثل «النجوم»، و«كلمة حق»، و«اليوم المفتوح»، و«صباح الخير يا مصر» وهو البرنامج الذى كانت من أوائل مَن قدمه عند انطلاقته. من بين برامجها المميزة، تأتى «كلمة حق» كأقربها إلى قلبها، إذ كانت منصة مهمة لمناقشة القضايا الاجتماعية وإلقاء الضوء على موضوعات تتعلق بالقوانين، خصوصًا المتعلقة بالمرأة، والتى ساهمت فى تعديل بعضها لاحقًا..

لم تكتفِ فريدة الزمر بكونها وجهًا إعلاميًا، فقد خاضت تجربة سياسية حقيقية بترشحها لانتخابات مجلس الشعب عام 2000 عن دائرة ناهيا بمحافظة الجيزة، ثم أُعيد انتخابها مرتين متتاليتين حتى عام 2010 حين قررت عدم الترشح مجددًا.

فريدة الزمر هى إنسانة من رحم الحياة خاضت تجربة إنسانية مؤثرة تماهت من شاشة ماسبيرو إلى قبة البرلمان، مرورا بالحياة الأسرية التى أسفرت عن ابنة تحمل أيضا سمات التميز وسارت على درب والدتها ونهلت من خبرتها بين الإعلام والبرلمان وهى النائبة هند رشاد التى لا تألو جهدا فى خدمة المواطنين.

تلتقى فريدة الزمر وفريدة الشوباشى فى مسارين يجتمعان عند نقطة واحدة: الإصرار على الحضور والتأثير. فقدّمت الأولى نموذجًا يُحتذى به فى مجالها: إعلامية متعددة الأدوار، وشخصية سياسية مسئولة، وإنسانة تحظى بالاحترام الشعبى. تركت علامة بارزة فى تاريخ الإعلام المصرى، وزرعت بصمة إنسانية تجاوزت حدود التليفزيون.

والثانية خطّت أفكارها بالقلم وتجلّت فى ميدان السياسة، لتجسد صورة المرأة المصرية القادرة على أن تصبح أيقونة لتيار سياسى وقضايا الفكر التقدمى.

ونأتى هنا إلى سمات مسيرة الكاتبة الصحفية والبرلمانية فريدة الشوباشى وهى أيقونة التيار اليسارى، فنجد أنها تنتمى لأسرة ذات توجه يسارى واضح، الأمر الذى شكَّل ملامح شخصيتها منذ الصغر، ورسّخ فى وعيها أهمية العدالة الاجتماعية والحرية والدفاع عن حقوق المواطن.

تزوجت من على الشوباشى، الذى كان له تأثير بالغ فى حياتها الفكرية والإنسانية، ومن خلاله تعمقت أكثر فى القضايا الوطنية والفكر التقدمى. وبعد مرور خمس سنوات على زواجهما، اتخذت قرارًا شخصيًا كبيرًا باعتناق الإسلام، متأثرة بما قرأته فى سيرة الفاروق عمر بن الخطاب، حيث وجدت فى شخصيته مثالًا للعدل والإنصاف الذى يتماشى مع ما تؤمن به من قيم إنسانية. هذا التحول الدينى لم يغيّر فقط مسارها الروحى، بل أضاف إلى تجربتها الفكرية بُعدًا جديدًا، جعلها أكثر انفتاحًا على التنوع، وأكثر جرأة فى الدفاع عن مبادئها، سواء داخل الوسط الصحفى أو من خلال موقعها كنائبة فى البرلمان المصرى. من أعمالها الأدبية: مجموعات القصص القصيرة «عبارة غزل»، و«الخاتم والخاتم»، وصدرت لها سيرة ذاتية بعنوان «محطات» تحكى فيها جوانب من نشأتها فى حلوان ومسيرتها الصحفية والسياسية.

وهناك فريدة أخرى دخلت عالم الفن عبر خشبة المسرح، لتثبت موهبتها سريعًا بفضل شخصيتها القوية وحضورها اللافت وهى

 فريدة سيف النصر التى برزت كواحدة من أبرز الممثلات المصريات فى جيلها. وُلدت عام 1960، بل ولم يقتصر عطاؤها على المسرح، بل تنقلت بين السينما والتليفزيون، وقدمت أدوارًا متنوعة تراوحت بين الكوميديا والتراجيديا، وأثبتت قدرتها على تجسيد شخصيات معقدة وقريبة من الناس فى الوقت نفسه
يقول عنها النقاد إنها «من الممثلات اللاتى يجمعن بين الكاريزما والأداء التمثيلى المتمكن»، وهو ما جعلها تحتفظ بمكانة خاصة لدى الجمهور رغم المنافسة الكبيرة فى عالم التمثيل.

وفى مجال الرياضة، فهناك فريدتان، الأولى هى فريدة عثمان، التى فازت لمصر بأول ميدالية فى بطولات العالم للناشئين فى السباحة وأول مصرية تحمل رقماً قياسياً عالمياً فى السباحة.

أما الفريدة الثانية فهى فريدة الشرقاوى أصغر فتاة مصرية تسلقت جبل إيفرست، وهى 17 عامًا فقط. وقد ذكرت أن تشجيع «منال رستم» التى انشغلت أعواما طويلة بقضية تمكين الفتيات وتشجّعهنّ على المغامرة، وقد وصفتها فريدة بأنها كانت بمثابة «الأم الروحية» لها خلال رحلتها.

من الملكة إلى الفنانة، ومن المطربة إلى الإعلامية والبرلمانية، ظل اسم «فريدة» حاضرًا فى صفحات التاريخ والحياة اليومية على السواء..

كل «فريدة» سطّرت بطريقتها بصمة خاصة، ملكة أضافت للعرش هيبة، فنانة أمتعت العيون والقلوب، مطربة شدَت بما خلد فى الذاكرة، وإعلامية وبرلمانية أعلت من قيمة الكلمة والموقف..

إنه اسم لا يتقادم، لأنه ارتبط دومًا بالقدرة على صناعة تاريخ، وترك علامة لا تُمحى فى الوجدان المصرى، وكأن كل مَن حملته كان قدَرها أن تكون فعلًا فريدة.

وهكذا يبقى هذا الاسم عنوانًا للجمال والجرأة والريادة، وبصمة لا تُمحى فى الوجدان المصرى.

أخبار الساعة