رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الوصفة المثيرة للجدل: «مصر وصندوق النقد 2».. التعويم الكامل وبرنامج 2016


5-10-2025 | 14:37

.

طباعة
بقلم: د. محمد فؤاد

فى عام 2016 وصلت الأزمة المالية والنقدية فى مصر إلى ذروتها، ولم يعد ممكنًا الاستمرار بالآليات المعتادة، فقد هبطت الاحتياطيات الأجنبية إلى أقل من 16 مليار دولار، والتى بالكاد تكفى لتغطية ثلاثة أشهر من الواردات، بينما صار سعر الصرف الرسمى بلا جدوى أمام انفلات السوق الموازية، حيث تجاوز الدولار حاجز 18 جنيهًا مقابل سعر رسمى ثابت عند حدود 8.8 جنيه.

 

فى الوقت نفسه، قفز عجز الموازنة العامة إلى أكثر من 12 فى المائة من الناتج المحلي، وارتفع الدين العام المحلى إلى ما يزيد على 90 فى المائة من الناتج المحلى، فيما لامس الدين الخارجى مستوى 45 مليار دولار، أما التضخم فقد تجاوز بالفعل 12 فى المائة وسط توقعات بمزيد من التصاعد.

أمام هذا المشهد المأزوم، لم تجد الحكومة بُدًا من العودة إلى صندوق النقد الدولي، طلبًا لتمويل عاجل يمنحها متنفسًا ماليًا ودعمًا سياسيًا خارجيًا، وفى نوفمبر من ذلك العام، وافق الصندوق على برنامج تسهيل الصندوق الممدد بقيمة 12 مليار دولار تمتد لثلاث سنوات، وهو ما عُدّ حينها أكبر اتفاق لمصر مع الصندوق منذ تسعينات القرن الماضي.

كانت الركيزة الأولى فى برنامج 2016 هى التعويم الكامل للجنيه المصري، وفى الثالث من نوفمبر أعلن البنك المركزى تحرير سعر الصرف، لتفقد العملة نصف قيمتها تقريبًا خلال أيام معدودة، إذ قفز الدولار من 8.8 جنيه إلى نحو 18 جنيهًا، قبل أن يواصل الصعود لاحقًا متجاوزًا 19 جنيهًا.

الصدمة انعكست مباشرة على الأسعار، ففى عام 2017 وحده سجّل التضخم العام متوسطًا بلغ 29.5 فى المائة، وهو الأعلى منذ منتصف الثمانينات، فيما تضاعفت أسعار الغذاء تقريبًا، وارتفعت تكاليف النقل والطاقة خاصة مع بدء تقليص دعم المحروقات.

ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، ارتفعت نسبة الفقر من 27.8 فى المائة عام 2015 إلى 32.5 فى المائة فى 2018، أى أن أكثر من ثلث المصريين أصبحوا تحت خط الفقر خلال هذه الفترة، لكن فى ميزان صندوق النقد، بدا هذا الثمن مقبولًا مقابل ما وصفه بـ«استعادة الثقة» و«القضاء على السوق الموازية للعملة»، إذ عادت التدفقات الدولارية إلى البنوك، وتمكنت الحكومة من فتح خطوط تمويل جديدة مع شركاء دوليين.

على الورق، بدت حصيلة برنامج 2016 واعدة بعد عامين فقط، فقد قفزت الاحتياطيات الأجنبية إلى أكثر من 44 مليار دولار بحلول 2019، وسجل الاقتصاد معدل نمو تجاوز 5.5 فى المائة، فيما تقلص العجز الكلى فى الموازنة إلى نحو 8 فى المائة من الناتج، وحققت الدولة لأول مرة منذ عقد فائضًا أوليًا يعادل 2 فى المائة من الناتج المحلي.

غير أن تفكيك هذه المؤشرات يكشف مفارقة جوهرية، فالنمو لم يكن مدفوعًا بتوسع إنتاجى حقيقى أو بصادرات قادرة على المنافسة، فنسبة الصادرات من الناتج المحلى قد تراجعت إلى أقل من 15 فى المائة بعد 2019، مقارنةً بنحو 30 فى المائة فى منتصف العقد الأول من الألفية، أما الاستثمار الأجنبى المباشر فلم يتجاوز 3 فى المائة من الناتج، وانحصر أغلبه فى الغاز والعقارات، دون أن يمتد إلى الصناعة التحويلية أو القطاعات التصديرية.

فى المقابل، اتجهت الدولة إلى الإنفاق بكثافة على مشروعات بنية تحتية ضخمة: طرق وأنفاق ومدن جديدة ومحطات طاقة، ورغم أن هذه المشروعات ساعدت بالفعل على رفع معدلات النمو الكلي، لكنها لم تترجم بالضرورة إلى وظائف مستدامة أو صادرات إضافية، وفى الخلفية، كان الدين الخارجى يتصاعد من 45 مليار دولار فى 2016 إلى أكثر من 120 ملياراً فى 2020، قبل أن يقترب من 160 مليار دولار بحلول 2023.

لم يكن الأثر الاجتماعى أقل وطأة من الأرقام الكلية، فإلغاء الدعم التدريجى على الوقود والكهرباء، إلى جانب فرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 14 فى المائة، أطلق موجة تضخمية اجتاحت جميع البيوت، وبرغم استحداث برنامج «تكافل وكرامة» كشبكة أمان اجتماعي، فإنه لم يغط سوى نحو ثلاثة ملايين أسرة، أى أقل من ربع الفقراء الفعليين.

التقارير المستقلة أشارت أيضًا إلى أن الإنفاق العام على الصحة والتعليم ظل متواضعًا، عند حدود 4.5 فى المائة من الناتج المحلى مجتمعَين، وهو مستوى أدنى بكثير من المعايير الدولية، وفى الوقت نفسه، تراجع معدل المشاركة فى سوق العمل من 46.6 فى المائة عام 2016 إلى 42.2 فى المائة فى 2019، لتتجسد بذلك مفارقة وصفها الصندوق نفسه: «النمو بلا وظائف».

المشكلة الأكبر برزت بعد عام 2020، حين وجّهت جائحة كورونا ضربة مزدوجة للاقتصاد المصري، حيث انهيار عائدات السياحة وتراجع تحويلات العاملين بالخارج، فى وقت ارتفعت فيه فاتورة الواردات، ومع تشديد السياسات النقدية عالميًا بعد 2021، خرجت استثمارات المحافظ أو ما يُعرف بالأموال الساخنة من مصر بمليارات الدولارات. عند هذه اللحظة، تبيّن أن الاستقرار السابق كان هشًا، إذ استند بالأساس إلى تدفقات ديون خارجية قصيرة الأجل، بينما بقيت الصادرات ضعيفة والاستثمار الأجنبى المباشر محدودًا، ومع تضخم فاتورة خدمة الدين الخارجى إلى أكثر من 20 مليار دولار سنويًا بحلول 2022، انهارت الثقة سريعًا، ليفقد الجنيه نصف قيمته مجددًا ويقفز التضخم إلى 33.9 فى المائة فى 2022، وهكذا وجدت مصر نفسها مضطرة للدخول فى برنامج جديد مع الصندوق فى ديسمبر 2022.

فى كتاب اقتصاديات الطائرة الورقية أوضحت أن مصر نجحت بعد 2016 فى إصلاح أرقام الاقتصاد الكلي، لكنها فعلت ذلك بطريقة عمّقت اعتمادها على الخارج؛ فالنمو تحقق عبر تدفقات الديون لا عبر قاعدة إنتاجية أو تصديرية صلبة.

كان ذلك خطأ فى ترتيب الأولويات داخليًا، لكنه أيضًا خلل فى مقاربة الصندوق، الذى اكتفى بمتابعة مؤشرات كلية مثل العجز والاحتياطيات، واعتبر المهمة مكتملة من دون أن يضع تصورًا يضمن استدامة الإصلاح.

وبمقارنة هذه التجربة بما حدث فى التسعينات، يظهر الفارق بوضوح، فإذا نظرنا إلى التجربة المصرية فى مطلع التسعينات، نجد أن برنامج 1991 مع الصندوق منح البلاد عقدًا كاملًا من الاستقرار، مستندًا إلى زيادة فى الصادرات وتخفيفٍ ملموس لأعباء الديون، وعلى النقيض، جاء برنامج 2016 محمَّلًا باحتياطيات قياسية وفائضٍ أولي، لكنه لم يصمد سوى بضع سنوات، إذ بُنى على أقدام قصيرة من تمويل خارجى سريع وقاعدة إنتاجية لم تكتمل.

وهنا تتضح الخلاصة: الإصلاح المالى والنقدى ليس غاية فى ذاته، بل مجرد محطة انتقالية، فالاستدامة لا تُقاس بأرصدة الاحتياطى وحدها، بل بقدرة الاقتصاد على أن يُنتج ويُصدّر ويجذب استثمارات تُراكم رأس المال المنتج، وفى حين أن الاعتماد على الديون والمشروعات العقارية قد يُغرى بما يحققه من مؤشرات نمو لامعة، لكنه يترك الجسد الاقتصادى هشًّا أمام أول صدمة داخلية أو حتى خارجية. أما صندوق النقد، فعليه أن يراجع منهجه، فلم يعد كافيًا أن يُمسك بالميزان الكلى فيوازن الأرقام ويُعلن النجاح، بينما تتآكل مقومات الاستدامة فى الداخل، والمطلوب أن يُصبح الإصلاح مشروعًا متكاملًا يوازن بين الانضباط المالى والعدالة الاجتماعية، ويُحوّل المؤشرات الرقمية إلى نمو حقيقى يمكن أن يعيش طويلًا.

هكذا بدت تجربة 2016 أقرب إلى جراحة ناجحة على المدى القصير، غير أنها اعتمدت على مسكنات مؤقتة تركت الجسد الاقتصادى أكثر هشاشة.. نعم، تحققت أرقام لامعة فى الاحتياطيات
 
 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة