التطور التكنولوجى السريع زاد من الخطورة؛ إذ أصبح من السهولة إنتاج محتوى مزيف باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، مما يصعب من قدرة الشعوب على التمييز بين الحقيقة والأكذوبة. الشائعات لم تعد مجرد ظاهرة بل أصبحت جزءا من حرب نفسية طويلة المدى تعتمدها الدول للتأثير على الشعوب وتزييف وعيها.
وتعد السوشيال ميديا أو وسائل التواصل الاجتماعى المحرك الأكبر لانتشار الشائعات، خاصة فى أوقات الأزمات والحروب والكوارث، حيث تتدفق بشكل سريع وتتداخل مع الحقائق لتصبح أرضا خصبة للترويج للأكاذيب، وتحريف الحقائق. عندما تفشى فيروس كورونا عام 2020، انتشرت نظريات المؤامرة حول أصل المرض ونطاقه على منصات الإنترنت، ومنها أن الفيروس جزء من «برنامج صينى سرى للأسلحة البيولوجية»، ومزاعم أخرى قالت إنه انتقل من الولايات المتحدة. آنذاك تسببت الشائعات فى إثارة الذعر حول العالم.
فى الولايات المتحدة الأمريكية، دائمًا ما تشهد الانتخابات الرئاسية تصعيدًا فى المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة، أبرز ما تنشره المواقع من شائعات هو دعم مشاهير، مثل الفنانة تايلور سويفت، لمرشح معين، أو تزييف الانتخابات والتلاعب بنتائجها مثلما حدث فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، وفى حادثة محاولة الاغتيال الأخيرة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، اندلعت الأكاذيب بما فى ذلك التعرف الخاطئ على هوية مطلق النار، والتكهنات الجامحة حول دوافعه وانتمائه الحزبي، وقد اتخذت بعض هذه الأكاذيب منحىً أكثر مؤامرة، حيث ادعى البعض، دون دليل، أن عمليات إطلاق النار كانت مُنسقة. وحتى يومنا هذا لم يسلم ترامب من التقارير الزائفة عن تدهور صحته بل زادت حتى تصدر هشتاج «ترامب مات» منصة «إكس» بعد غيابه عن بعض الفعاليات العامة مثيرًا حالة من الجدل والتساؤلات.
وعلى الصعيد الأوروبي، لم تسلم العائلة المالكة البريطانية من دوامة الشائعات بل تعيش فيها يوميًا، حيث تتناول التقارير الإعلامية معلومات عن صحة الملك تشارلز الثالث، ونظريات انفصال الأمير وليام عن زوجته الأميرة كيت ميدلتون، وخلافات بينها وبين زوجة الأمير هارى ميجان ماركل، مما يوثر بشكل مستمر على سمعة العائلة الملكية.
كما شهدت المملكة المتحدة العام الحالى انتشارًا واسعًا للأخبار الكاذبة، بما فى ذلك الخدع التى تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعى والتى تسببت فى تأخير القطارات مثل صورة مزيفة لانهيار جسر. وقد ازدادت المخاوف البريطانية بشأن دور الذكاء الاصطناعى فى نشر الادعاءات الكاذبة خاصة فى أعقاب حادثة الهجوم على فصل رقص فى ساوثبورت، والتى أسفرت عن مقتل ثلاث فتيات، حيث تدفقت موجة من المعلومات المضللة على الإنترنت، مما أدى إلى تأجيج الاحتجاجات وأعمال الشغب فى جميع أنحاء البلاد.
من ضمن هذه الشائعات، منشور على موقع «إكس» زعم أن المهاجم مسلم، وهو ادعاء كاذب تمامًا. وقد شاهد المنشور ما يقارب 44 مليون مستخدم. ورغم بيان الشرطة الرسمى الذى أفاد بأن الجانى وُلد فى كارديف، استمر الناس فى تداول هذه المعلومة على الإنترنت متسببًا فى موجة من الكراهية.
سرقة القرن
فى فرنسا، انتشرت على الإنترنت شائعات كاذبة حول قضية سرقة متحف اللوفر «سرقة القرن»، بدءًا من صورٍ يُزعم أنها لمحققين، وصولًا إلى صورٍ لمشتبه بهم يُزعم تورطهم فى القضية. ففى 19 أكتوبر الماضي، اقتحم فريق من اللصوص متحف اللوفر بجرأة، وسرقوا مجوهراتٍ تُقدر قيمتها بنحو 88 مليون يورو فى وضح النهار.
وكما هو الحال مع كل خبرٍ هام، سارع مستخدمو الإنترنت إلى منصات التواصل الاجتماعى للتعليق والتكهن بشأن السرقة، بينما استغل آخرون الفرصة لنشر معلومات مضللة وادعاءات كاذبة. واتهمت إحدى الروايات مواطنين روسًا بالسرقة، زاعمةً العثور على جوازات سفر روسية داخل المتحف عقب الحادث، وحصد منشور واحد على موقع « إكس» يروج لهذا الادعاء أكثر من 7 ملايين مشاهدة.
الشائعات أحاطت كذلك بسيدة فرنسا الأولى بريجيت ماكرون التى اضطرت إلى أن تلجأ للقضاء مؤخرًا، وتتخذ إجراءات قانونية بحق مروجى أنها ولدت ذكرًا. وقد بدأت هذه الشائعات نهاية عام 2021 عندما قامت ناشطتان فرنسيتان بنشر مقطع فيديو على موقع «يوتيوب»، زعمتا فيه أن بريجيت ولدت كطفل رضيع اسمه جان ميشيل ترونيو عام 1953.
ومع اقتراب الانتخابات البلدية الفرنسية فى مارس 2026، انتشرت حملة تضليل إعلامية عبر عشرات المواقع الإخبارية المزيفة باللغة الفرنسية منذ فبراير 2025. وعلى الرغم من أنها تحاكى الأسلوب التحريرى لوسائل الإعلام الإقليمية والوطنية الفرنسية، إلا أن محتواها يردد روايات يروج لها الكرملين. وتتضمن المواضيع المتكررة على هذه المواقع انتقاد الرئيس الفرنسي، والتحذيرات من «سقوط» الغرب، ومقالات تمجد مهارات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين السياسية.
وفى شهر مايو الماضي، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى سلسلة من المنشورات التى زعمت أن المستشار الألمانى ميرتس والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر تعاطوا الكوكايين خلال رحلتهم إلى كييف. وكان محور هذه المزاعم مقطع فيديو يُظهر القادة الثلاثة معًا فى قطار من بولندا إلى أوكرانيا، قبل لقائهم بالرئيس زيلينسكى لتأكيد دعمهم لبلاده. حيث ادعى المروجون أن الجسم الأبيض الذى كان بجانب ماكرون كان كيسًا من الكوكايين، زاعمين أنه أزاله على عجل، وأن الجسم الذى كان بجانب يد ميرتس كان ملعقة استُخدمت لتعاطى المخدر.
وانضم المسئولون الروس مجددًا إلى حملة التضليل، حيث نشرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، على قناتها الرسمية على تطبيق تيليجرام أن الثلاثة «تعاطوا المخدرات» معًا. لكن قصر الإليزيه نفى هذه الادعاءات، موضحًا أن ما أزاله ماكرون كان منديلًا ورقيًا.
روايات خادعة
تعد الحرب الروسية الأوكرانية أبرز حرب استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، والتكنولوجيا الحديثة كسلاح فى نشر الروايات الخادعة، والتلاعب بالصور والفيديوهات للتأثير على معنويات الشعوب والجنود فى ساحة المعركة. الحرب النفسية القائمة على تضارب المعلومات المتداولة وتناقضها، كانت لها تأثير كبير على مجريات الحرب وإطالة أمدها. كما دفعت العديد من أفراد الشعب الأوكرانى إلى الفرار من بيوتهم واللجوء إلى دول أخرى مثل بولندا فى أوائل الحرب.
بدورها، اتهمت حكومة تايوان الصين بتقويض الثقة فى ديمقراطية الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتى وعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة من خلال نشر المعلومات المضللة، خاصة عبر الإنترنت. حيث أنشأت «حسابات وهمية» لنشر دعايتها على موقع «يوتيوب»، واستخدمت تكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي؛ لإنشاء مقاطع فيديو مزيفة مغرقة قسم التعليقات بتصريحات مؤيدة للصين. وتأتى هذه الاتهامات فى ظل تفاقم التوترات بين الصين وتايوان. حيث تعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها تحت مبدأ «الصين الواحدة»، بينما ترى تايوان نفسها دولة مستقلة ذات سيادة.
مما لا شك فيه أن الشائعات أصبحت بمثابة عالم افتراضى موازٍ للواقع يعيش فيه مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يتم تداول المعلومات والصور والفيديوهات المدعومة بالذكاء الاصطناعى دون حدود ورقابة مما يهدد استقرار الدول، وينمى من الصراعات الدولية والإقليمية تحت نظريات «المؤامرة». وهنا تبرز الحاجة إلى وعى دولى لمواجهتها، وتجنب الانزلاق نحو عالم من الفوضى والانقسام.

تعليقًا على ما سبق، يقول الدكتور طارق وهبى، خبير العلاقات الدولية، إن الشائعات والأخبار الكاذبة تحولت فى عصر الإعلام الرقمى إلى أداة استراتيجية فى ترسانة الدول والفاعلين السياسيين، تُستخدم لزعزعة الاستقرار الداخلي، والتأثير فى صناعة القرار، وإعادة تشكيل العلاقات بين الدول، خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعى والفيديوهات المفبركة (Deepfakes). وتكمن خطورتها فى أنها لا تكتفى بتضليل فردي، بل تعيد تشكيل إدراك الجماعات والمجتمعات نفسها، وتخلق بيئة دائمة الشك تفقد فيها المؤسسات والنخب قدرتها على الإقناع.
ويضيف أن شبكات التواصل تحولت من منصات ترفيه إلى ما يشبه «أسلحة تأثير جماهيري»، تعتمد على الصور والفيديوهات القصيرة والخوارزميات، فتخترق العقل العاطفى قبل العقل العقلاني، وتؤثر مباشرة فى المواقف السياسية والاجتماعية. المنصات تبنى «فقاعات ترشيح» تحاصر المستخدم فى محتوى يوافق ميوله، ما يجعل الشائعات والأخبار الكاذبة أكثر قابلية للتصديق وأصعب فى التصحيح، ويحول الإعلام الرقمى إلى مصنع آراء لا مجرد ناقل للمعلومات.
تغذية نظريات المؤامرة
يتابع د. وهبي: حملات التضليل الرقمية تستهدف الثقة بالمؤسسات، فتضرب شرعية الحكومات، تعمق الاستقطاب، وتُغذى نظريات «المؤامرة»، ما يخلق بيئة داخلية متوترة تُصعب التوافق على سياسات عامة أو إصلاحات اقتصادية أو صحية. صانع القرار يجد نفسه أمام فضاء معلوماتى مسموم: ضغط رأى عام مبنى جزئيًا على معلومات خاطئة، وتهديد مستمر بأن أى قرار يمكن تشويهه فورًا عبر موجات منظمة من الحسابات الوهمية وما تنشره.
وفى الحرب الروسية الأوكرانية، استُخدمت الدعاية والتضليل لخلق أسطورة عن «حماية الناطقين بالروسية» وشيطنة الحاكم فى كييف، مع شبكة قنوات رسمية وحسابات مزيفة لملء الفضاء المعلوماتى برسائل موالية لموسكو أو مشككة فى أوكرانيا والغرب. تقارير مراكز الفكر تُظهر أن دولًا مثل روسيا والصين وغيرها تستثمر فى «حرب معلومات» عابرة للحدود، هدفها التأثير على انتخابات، واستجابات للأزمات، ومواقف الرأى العام الدولى من النزاعات، بما فيها الملفان الأوكرانى والتايواني.
ويشير «وهبى» إلى أن استهداف الحياة الشخصية أو السمعة الرمزية لزعماء الدول أصبح جزءًا من المعركة: شائعات عن قادة وزوجاتهم، أو عن مؤسسات ثقافية، بحثية ورمزية مثل المتاحف ومراكز الفكر، تُستخدم لتقويض صورتهم أمام جمهورهم الداخلى والخارجى وإلهائهم عن ملفات استراتيجية.
الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب كان من أكثر القادة حضورًا فى بيئة الشائعات الرقمية، سواء عبر الأخبار الكاذبة ضده أو عبر استخدامه هو نفسه لمنصات مثل «إكس» أو بنائه لمنصة جديدة خاصة به ولمناصريه لتوجيه خطاب شعبوى يهاجم خصومه والمؤسسات، ما عمق الاستقطاب السياسى فى الولايات المتحدة. وفى فرنسا، جرى استثمار شعبية المقاطع المفبركة عن الرئيس ماكرون حتى فى إطار رسمى للترويج لقمة حول الذكاء الاصطناعي، لكن خبراء حذّروا من أن المضى فى هذه الثقافة يزيد صعوبة تمييز الجمهور بين المزاح والخداع الخبيث، ويُضعف القدرة على تصديق حتى الفيديوهات الحقيقية مستقبلًا.
ويختتم «وهبى» حديثه بأن القادة يدركون أن استقرارهم لم يعد رهنًا فقط بالأمن العسكرى أو الاقتصادي، بل أيضاً بأمن رقمى وسيبراني، أى القدرة على حماية الفضاء المعلوماتى الوطنى من التدخلات والتزييف والحملات الأجنبية. لذلك تتجه دول عديدة لوضع أطر تشريعية، ووحدات متخصصة فى رصد التدخل الأجنبى المعلوماتى وفرض عقوبات على الجهات التى تنفذ «حرب معلومات» ضدها، فى محاولة لاستعادة توازن القوى فى هذا المجال الجديد من الصراع.