رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الأسرة فى عصر الانفجار الرقمى (2)


20-12-2025 | 11:30

.

طباعة
بقلـم: د. محمود علوان

تحدثنا الأسبوع الماضى عن تعاظم الاتصال الرقمى وما يصاحبه من اتساع الهوة فى الصلات الإنسانية الحقيقية، وهو التناقض الذى يشكل جوهر الأزمة البنيوية التى تواجه الكيان الأسرى المعاصر، كما أشرنا إلى العوامل البنيوية التى تؤثر فى تشكيل البنية الأسرية وتوجيه دينامياتها. وفى هذا المقال، نتناول الآثار الاجتماعية المترتبة على هذه الظاهرة، وتحديدًا على المرأة، حيث ينعكس الاتصال الرقمى العميق على حياتها بعدة أبعاد: فهو قد يسبب قطيعة مع هويتها البيولوجية والنفسية، ويثقل كاهلها بأعباء مزدوجة بين العلم العام والمسئوليات الخاصة، كما تعانى المرأة شعورًا بالعزلة الوجودية على الرغم من التحرر الظاهرى الذى يتيحه الاتصال الرقمى، إضافة إلى حمل نفسى مضاعف فى حال وقوع أذى للطفل أو الإخلال بالأدوار الأسرية الأساسية.

 

 

وعلى الرجل: إرباك فى الهوية الاجتماعية، وتقليص لدوره التقديرى، واستغلال مضاعف فى مجال الإنتاج وتحمل المسئوليات.

أما على النسيج الأسرى: فيتحول البيت من ملاذ عاطفى إلى فضاء للتنازع، وتربية النشء على ثقافة الشك وعدم الاستقرار فى العلاقات الحميمية، مع إمكانية تعريضهم لمخاطر حقيقية خارج المنزل.

وعلى الطفل: تداعيات كارثية طويلة الأمد تشمل صدمات نفسية عميقة، اضطراب التعلق بشكل حاد، صعوبات فى الثقة مدى الحياة، وزيادة قابلية الإصابة بأمراض نفسية وجسدية فى الكبر.

وهنا فى هذا المقال نطرح البديل المقترح: منهج التعايش الصحى وفق الرؤية النبوية

تشكل المبادئ النبوية فى العلاقات الزوجية منهجًا متكاملًا للتعايش الصحى، يقوم على ثلاثة أركان: أولا التغافل والتسامى والتشافى: فن البناء المستمر

التغافل الواعى: ليس تنازلًا عن الحق، بل اختيار حكيم للسلامة النفسية للبيت، وهو القدرة على تجاوز الهفوات الصغيرة وتجاوز العثرات اليومية، حفاظًا على جوهر العلاقة من التآكل بالمنازعات التافهة.

التسامى المشترك: السعى الدائم لرفعة الشأن المعنوى والأخلاقى للعلاقة، من خلال التحلى بصفات الصبر والحلم والكرم، وعدم الانجرار إلى مستويات الخلاف الدنيئة، بل السمو بالحوار والتفاعل إلى آفاق أرقى.

التشافى المتبادل: الاعتراف بأن الجراح العاطفية تحدث حتى فى أفضل العلاقات، والسعى لمداواة آثار الخلاف عبر الاعتذار الصادق، والعفو الكريم، والبدء من جديد بنية صافية، العلاقة الزوجية تصبح بهذا مسيرة شفاء متبادل وترميم مستمر للقلوب.

ثانيا العبادات والشعائر: الإطار الروحى الموحِّد حيث تشكل العبادات والأعمال الصالحة النظامَ الداعم للكيان الأسرى:

الفروض والسنن المشتركة: تحويل أداء الصلوات والعبادات من ممارسات فردية إلى طقوس عائلية تعزز الانسجام الروحى وتذكّر بالغاية المشتركة.

الصدقة والتكافل: جعل البيت منطلقًا للعطاء، عبر تشجيع الصدقة كأسرة، وربط البركة المادية بالبركة المعنوية، وغرس قيمة المشاركة مع المحتاجين.

ذكر ودعاء جماعى: تحويل اللحظات الصعبة أو السعيدة إلى مناسبات للالتجاء الجماعى والتضرع المشترك، مما يعمق الإحساس بأن الأسرة سفينة واحدة فى رحلة الوجود.

التعلم النافع دينيًا ودنيويًا: السعى الدائم لاكتساب المعرفة التى تثمر عملًا صالحًا وعلاقات طيبة، سواء كانت علمًا شرعيًا يضيء الطريق، أو علمًا دنيويًا نافعًا يعمر الحياة، ضمن رؤية متكاملة لا تفصل بين الدين والدنيا.

ثالثا: العبادة الشاملة: إعمار الأرض والقلوب فالعبادة الحقيقية تتجاوز الشعائر إلى تحقيق مقاصدها فى واقع الحياة:

إعمار الأرض: تحويل العمل الشريف وطلب الرزق الحلال وخدمة المجتمع إلى جزء من العبادة، عندما يقترن بالنية الصالحة والالتزام الأخلاقى، الأسرة التى تعمر بيتها وتنفع مجتمعها تكون قد حققت غاية العبودية فى أرض الواقع.

إعمار القلوب: جعل البيت ورشة لتهذيب النفوس وترويض الأهواء وبناء القيم. العلاقة الزوجية والأسرية تصبح مجالًا للترقى الأخلاقى والروحى، حيث يتعلم أفرادها الصبر والشكر والرحمة من خلال تفاصيل العيش المشترك.

التكامل بين الظاهر والباطن: الجمع بين إتقان العمل الدنيوى وإخلاص النية القلبية، بين بناء المسكن المادى وبناء المسكن العاطفى، بين خدمة الناس ومراقبة الخالق.

هذه الرؤية المتكاملة تقدم منهجًا للتعايش لا يعالج الأزمات فحسب، بل يحول الحياة الأسرية إلى رحلة متكاملة من العبادة والبناء والإعمار، تجمع بين متطلبات الدنيا وغايات الآخرة فى نسق متناغم.

الأبعاد النفسية والتربوية: أسس التكوين العاطفى والإرشادى للإنسان

الإطار النظرى: نظرية التعلق (Attachment Theory) - بولبى وأينسورث

تُشكّل نظرية التعلق حجر الزاوية فى فهم الأسس النفسية للتنمية البشرية السليمة. تفترض النظرية أن القدرة على تكوين روابط عاطفية آمنة فى الطفولة تُشكل المنصة الأساسية للصحة النفسية والعلاقات المستقرة طوال العمر، يطور الطفل نموذجًا عمليًا داخليًا عن ذاته وعن الآخرين بناءً على تجاوب مقدمى الرعاية مع احتياجاته، النمط الآمن، الناتج عن الاستجابة الحساسة والمتسقة، يُمكن الفرد من استكشاف العالم بثقة، وتنظيم عواطفه، وبناء علاقات ثقة فى المستقبل، كما يجعله أكثر قدرة على الإبلاغ عن أى إساءة أو انتهاك قد يتعرض له.

أنماط التعلق وأبعادها التنموية:

التعلق الآمن: أساس المرونة النفسية، ينشأ عن حساسية الوالدين وإتاحتهم العاطفية، مما يزرع فى الطفل إحساسًا بالأمان الداخلى والاستحقاق. التعلق القلق/المقاوم: ينشأ عن عدم اتساق استجابة الوالدين (تارة متجاوبين وتارة غائبين)، فيكبر الطفل متوترًا، يسعى بإلحاح للقرب لكنه يجد صعوبة فى الطمأنينة.

التعلق المتجنب: يتشكل نتيجة الإهمال أو الرفض المتكرر للاحتياجات العاطفية، فيتعلم الطفل كبت حاجته للآخرين ويطور استقلالية زائفة وهشّة.

التعلق غير المنظم: يرتبط بتجارب مخيفة أو مؤذية من قبل مقدم الرعاية نفسه، مما يؤدى إلى ارتباك عميق واستراتيجيات متناقضة فى العلاقات.

التربية المتوازنة: فلسفة التكامل بين الشدة الواعية واللين المحمود فى خضم السعى لبناء أسرة قوية، يبرز تحدٍ تربوى جوهرى يتمثل فى تحقيق التوازن الدقيق بين مبدأى الرعاية والحدود، أو بين العطاء العاطفى والتوجيه الأخلاقى، تكمن الحكمة فى فلسفة التكامل التى تجمع بين الشدة الواعية واللين المحمود، ضمن إطار من الإنفاق الرشيد المادى والعاطفى، مع حرص شديد على ألا يُستغل هذا التوازن لبناء تحالفات عاطفية هشة أو تقارب مذموم مع الأطفال على حساب المصلحة التربوية العليا.

الشدة الواعية (الحدود التى تحمى ولا تكسر): لا تعنى القسوة، بل وضع حدود واضحة ومتسقة لتنمية المسؤولية والانضباط، هى التى تعلّم ولا تحطم، وتكون مستقرة وواضحة، وتقوم على السلطة الأبوية الشرعية المستمدة من الرعاية.

اللين المحمود (الحنان الذى يبنى ولا يفسد): هو العطاء العاطفى غير المشروط والقدرة على الاستماع والتعاطف، هو الذى يوفّر ملاذًا آمنًا ويعزز الثقة بالنفس من خلال التشجيع، ويكون حاضرا فى لحظات الضعف كداعم لا كمنقذ.

الإنفاق الرشيد (التوازن بين العطاء والحرمان): يمتد من المال إلى المشاعر. المادى: تعليم قيمة المال والتمييز بين الحاجة والرغبة، العاطفى: أن لا يتحول إلى دَلع مُفسد أو حماية زائدة تمنع مواجهة التحديات الطبيعية.

الخطر الدفين: استغلال التوازن للتقارب المذموم: فى الأسر المتصدعة، قد يلجأ أحد الوالدين إلى كسب ولاء الطفل عبر التلاعب العاطفى أو التقارب الانتهازى (التخلى عن دور الضابط ليظهر كـ«صديق». هذا يُنتج اضطرابًا فى الولاء، وفقدانًا للاحترام، وتكوين شخصية انتهازية.

المنهج المتكامل: شراكة الوالدين فى حكمة واحدة: الحل فى شراكة الوالدين متعاضدة تتفق على فلسفة موحدة: وحدة الجبهة (قواعد متسقة)، التخصص التكاملى (أساليب مختلفة ضمن إطار موحد)، والحوار خلف الكواليس (مناقشة الخلافات بعيدًا عن الأطفال).

عواقب الحرمان العاطفى المبكر والتعرض للصدمة:

عصبيًا: ضعف فى تطور القشرة الدماغية المسؤولة عن تنظيم الانفعالات، وتغيرات فى استجابة الجهاز العصبى للتوتر.

نفسيًا: صعوبات فى بناء الثقة، وخوف من العلاقات العميقة، وسعى دائم لإشباع الفراغ العاطفى، مع قابلية عالية للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة فى حال الاعتداء.

وجوديًا: شعور بالعبثية، وبحث مضطرب عن المعنى من خلال المادية أو الإدمان الرقمى أو السلوكيات الخطرة.

 
 
 

أخبار الساعة