رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سجل أسيوط المعمارى.. «وكالة لطفى» وحكاية 3 قرون من التجارة


20-12-2025 | 11:31

.

طباعة
تقرير: إلهام على

فى قلب مدينة أسيوط العتيقة، حيث تتعانق الأزقة والحارات الضيقة مع عبق التاريخ، وتروى الحجارة حكايات القوافل العابرة، تقف وكالة «لطفى» شامخة منذ أكثر من ثلاثة قرون، كأنها بوابة الزمن إلى عصر كان للصعيد فيه دور محورى فى التجارة الإقليمية والدولية. هناك، عند نقطة التقاء الشمال بالجنوب، احتضنت الوكالة أسرار طرق التجارة الكبرى، وحملت على جدرانها آثار تجارٍ جاؤوا من النوبة وبلاد السودان يحملون البنّ والجلود والعاج، ليتركوا خلفهم إرثًا لا تزال تفاصيله تنبض بالحياة. إنها ليست مجرد مبنى حجرى قديم، بل سجلٌ معمارى حىّ يجسد المكانة الاقتصادية والتاريخية لأسيوط فى العصور الماضية.

 
 

وعن الجذور التاريخية لوكالة «لطفى» التجارية، يقول الدكتور  محمد مشهور،  مدرس التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة أسيوط، إنها تأسست عام 1103 هـ / 1692م خلال العصر العثمانى، وهى فترة اتسمت بازدهار النشاط التجارى وارتباط المدن المصرية بأسواق العالم الإسلامى، حيث أنشأها التاجر الأسيوطى لطفى عبد الجواد عبد البر السيوطى، أحد كبار تجار أسيوط آنذاك، والذى عُرف بثرائه ونشاطه التجارى الواسع، وجعل منها مركزًا لتجارة القوافل القادمة من الجنوب عبر درب الأربعين، وهو الطريق التاريخى الذى كان يربط مدينة أسيوط بدارفور وكردفان فى السودان.

وكانت الوكالة بمثابة مستودعٍ للبضائع ومقرٍّ لإقامة التجار، ومركز للتبادل التجارى بين أهل الصعيد والتجار الوافدين من مناطق بعيدة، وقد ضمت فى فترات ازدهارها سلعًا متعددة مثل البنّ، والجلود، والعاج، والتمور، والتوابل، والمنتجات النوبية، ما جعلها قلبًا نابضًا للحركة التجارية فى المدينة.

ويضيف د. مشهور أن وكالة «لطفى» تقع فى منطقة القيسارية، وهى أقدم مناطق أسيوط التجارية وأكثرها حيوية، وتم اختيار موقعها بعناية ليتوسط شبكة الطرق المؤدية إلى الأسواق والخانات القديمة، وبقربها مساجد وأسبلة وحمامات تاريخية، ما يدل على أن المنطقة كانت تشكل نواة اقتصادية واجتماعية متكاملة، حيث يظهر تخطيط الوكالة، العبقرية المعمارية العثمانية، حيث رُوعى فيها الجمع بين الجمال الوظيفى والبساطة، فالواجهة الخارجية مبنية من الحجر الجيرى المحلى، وتعلوها نوافذ صغيرة ذات عقود نصف دائرية، بينما يتوسطها مدخل رئيسى ضخم تعلوه لوحة حجرية نُقش عليها اسم المؤسس وتاريخ البناء.

وبمجرد عبور المدخل، يجد الزائر نفسه داخل فناء داخلى واسع مكشوف تبلغ مساحته نحو 12×12 مترًا، وهو قلب المبنى، تحيط به غرف ومخازن مرتبة فى نظام هندسى دقيق، اُستخدم الطابق الأرضى لتخزين البضائع وإيواء الدواب والجمال القادمة مع القوافل، بينما خُصص الطابق العلوى لإقامة التجار، وقد زُوّد بعقود من الطوب اللبن وسُقفت الغرف بجذوع النخيل المغطاة بالخشب لتوفير التهوية والعزل الحرارى.

ويوضح د. مشهور أن الغرض والوظيفة الاقتصادية للوكالة والهدف من إنشائها هو تنظيم النشاط التجارى فى أسيوط وتوفير مكان آمن للتجار والبضائع، فقد كانت المدينة نقطة عبور رئيسية بين شمال إفريقيا ووسطها، وكان درب الأربعين يربط أسيوط بمدينة الفاشر فى دارفور، ما جعلها مركزًا دوليًا لتبادل السلع، علاوة على ذلك لم تكن الوكالة مجرد مكان للبيع والشراء، بل كانت أيضًا مركزًا للمفاوضات التجارية، وتبادل الأخبار، وعقد الصفقات، وحتى إقامة التجار أثناء موسم التجارة، وكان لأسيوط فى ذلك الوقت سمعة كبيرة كمركز للحرفيين والتجار المهرة، ما أضفى على الوكالة أهمية اقتصادية تفوق كونها مجرد مبنى أثرى.

وقد مرت الوكالة بعدة مراحل من التدهور والترميم، كما يلفت د. مشهور، ففى خمسينيات القرن العشرين تدخّلت مصلحة الآثار المصرية لترميم الأجزاء المتهالكة من المبنى وصيانة العقود الحجرية والأبواب الخشبية القديمة، وفى أوائل الألفية الجديدة، أُعيد ترميم الوكالة بإشراف منطقة آثار أسيوط، حيث تم تثبيت الأسقف وتنظيف الجدران وإعادة بناء بعض الأجزاء المتآكلة، وتُظهر وثائق الآثار أن الوكالة خضعت لما لا يقل عن ثلاث مراحل ترميم رئيسية منذ منتصف القرن الماضى حتى اليوم، بهدف الحفاظ على ملامحها الأصلية دون المساس بطابعها التاريخى.

وتعتبر رمزًا للهوية التراثية فى أسيوط، فهى تختزل بين جدرانها تاريخ المدينة الاقتصادى والاجتماعى، وتعكس روح الصعيد التى جمعت بين التجارة، والكرم، والمهارة الحرفية، وقد دعا عدد من المثقفين والمهتمين بالتراث إلى إعادة توظيف الوكالة كمركز للحرف اليدوية، أو متحف تجارى يعرض تاريخ التجارة فى أسيوط، على غرار ما تم فى وكالة الغورى بالقاهرة، ويؤكد الخبراء أن إحياء مثل هذه الوكالات من شأنه أن يُعيد الروح للمدينة القديمة ويجذب السياحة الثقافية إلى قلب الصعيد وبالتحديد لأسيوط.

ولا تنفرد وكالة لطفى وحدها بالتاريخ، فهناك وكالات أخرى فى أسيوط تحمل الطابع ذاته، مثل وكالة ثابت ووكالة شلبى ووكالة الشيخ خضرى، وجميعها تشهد على ازدهار النشاط التجارى فى المدينة خلال القرون الماضية، حين كانت أسيوط أشبه بعاصمة تجارية تربط مصر بعمقها الإفريقى.

ويشير د. مشهور إلى أن الوكالة ليست مجرد مبنى أثرى قديم، بل هى وثيقة معمارية حية تُجسد عظمة حقبة تاريخية شكلت ملامح الاقتصاد المصرى فى العصر العثمانى، ومن خلال ترميمها وإحيائها، يمكننا أن نعيد وصل ما انقطع بين الماضى والحاضر، وأن نحفظ للأجيال القادمة هذا التراث الذى يعكس هوية أسيوط، وذاكرة صعيد مصر التى لا تزال نابضة بالحياة بين جدران الحجر والطوب.

 
    كلمات البحث
  • أسيوط
  • الأزقة
  • التاريخ
  • وكالة
  • لطفى

أخبار الساعة