عندما تلتقى الأرواح على مسرح الجمال، تذوب الجغرافيا ويبقى الأثر.. الجمال وما أدراك ما الجمال!
قد يخيَّل إليك، عزيزى القارئ، وأنت تلمح اسم سامية جمال يتصدّر هذه الصفحة، وكذلك نظيرتها نجمة الرقص الغربى ليزلى كارون، أنّ افتتاحية المقال ستنساب مباشرة نحو مقارنة بين الشرق والغرب وأننا سنمضى معا ما بين الفنون الأدائية والرقص الشرقى والباليه.
لا أخفيك سرًا وأنت تتابع كلماتى أننى كنت بالفعل أنوى أن أسلك هذا الطريق، غير أن قلبى وقلمى وقبل ذلك كلّه قدمى قادونى إلى مسرح الحياة وذكرى حية نابضة فى وجدانى وتتلخص فى حديث جانبى دار بينى وبين سيدة المسرح «سميحة أيوب» فى إحدى لجان وزارة الثقافة فى مارس 2019 بشأن الإعداد لدفعة جديدة من مبعوثى الفنون إلى أكاديمية الفنون بروما، فيما يعرف إداريا بـ «جائزة الدولة للإبداع الفني». حكت لى عن موقف عاشته مع الفنانة الكبيرة أمينة رزق أثناء قيامها بأحد الأدوار المسرحية، فقالت لى بصوت خافت وهى تتنهد من آلام فى ظهرها وتبتسم رغم ذلك بابتسامة طفلة: عارفة يا جيهان كنت أتعجب من أمينة رزق حينما نصل إلى المسرح وأراها سيدة متعبة يبدو عليها ثقل سنوات العمر والوهن وأحيانا الإعياء، وها أنا اليوم أحتاج من يمسك بيدى، كما كنت أنا أفعل معها وهى تتوجع من آلام ظهرها، ولكنها يا صديقتي، وفى رمشة عين حين يرفع الستار، تتحول فى لحظة إلى مارد يفيض إبداعًا وقوة، بل وتتحول إلى عاصفة حضور، لدرجة أننى اعتقدت أنها تستدعى روح المسرح كله إلى صدرها: صوت مدوٍ، أداء تلقائى وخطوات واثقة تحمل ذكاءً فنيًا وحسًّا حيًا يجعل الضوء نفسه يتريث احترامًا..
الجمال وحرم الجمال!
كِدت أضحك من أداء سميحة أيوب التمثيلى وهى تحكى عن أمينة رزق ولحظة التحول أمام الواجب، وطالت بى لحظة التفكير فيما روته لى هذه السيدة العظيمة فوجدتُنى أبوح لنفسى وأقول: كلنا هذه المرأة!
نعم.. فأحوالنا جميعا كنساء وخاصة العاملات ليست ببعيد عما وصفته سميحة أيوب بلحظة التحول أمام خشبة المسرح ولقاء الجمهور: من إرهاق يثقل البدن، ومسؤوليات تنحت من العافية كل يوم، وشعور دائم بأن العالم يطلب منا أكثر مما فى الطاقة إلى لحظة رفع ستار اليوم الجديد، ستار التحدى والضرورة فتنبعث فينا قوة لا نعرف مصدرها.. قوة تجعلنا، مثل أمينة رزق، نقف منتصبـاتٍ رغم انحناءات الظروف الصحية وربما النفسية أو أيضا المالية، ونملأ مساحة الدور مهما ضاقت، ونضيء الحياة مهما أظلمت، إنها تلك الماردية الخفية التى تسكن كل امرأة... قوة لا تُرى فى لحظات التعب، لكنها تتوهج حين يحين وقت الأداء..
زينب محفوظ نجمتنا اليوم عاشت أيضا تلك اللحظة...
نعم زينب محفوظ هو اسم الولادة فى إحدى قرى محافظة أسيوط بصعيد مصر للنجمة التى نعرفها بسامية جمال، والتى كانت واحدة من أكثر الوجوه تأثيرًا فى تشكيل هوية الرقص الشرقى الحديث.
وإذا كانت لحظة التحوّل هى كلمة السر التى تجمع كل امرأة تصعد إلى مسرح الحياة، فإن سامية جمال جمعت سلسلة طويلة من تلك اللحظات، لحظات التحول التى صنعت منها أسطورة.
وُلدت سامية جمال فى 5 مارس 1924.. فى محافظة أسيوط، بعيدا عن أضواء القاهرة وضجيجها، وكانت طفلة خجولة لاسيما لديها رغبة ملحّة فى الحركة.. بدأت قصتها مع الحياة، حينما رحلت الأسرة إلى القاهرة واضطرارها للعمل عند خياطة كعاملة ومعاونة منزل حتى هربت وذهبت لتعمل فى قسم الخدمات المهنية بمدرسة رقص ومنها انتقلت إلى كازينو بديعة.
بدءا من عام 1943، تعلّمت سامية فى كازينو بديعة مصابني، ذلك المكان الذى خرّج نجمات الشرق الانضباط، والجرأة..
واكتشفت موهبتها التى اعتبرتها نافذة للحرية ووسيلة للوجود بل ولغة بأكملها وفى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين بدأت بالعمل فى مجال السينما، حيث شكلت ثنائياً ناجحاً مع الفنان فريد الأطرش فى عدة أفلام وقدمت على أغنياته أحلى رقصاتها وأشهرها من خلال ستة أفلام شهيرة، تمامًا كما اكتشفت ليزلى كارون لاحقًا موهبتها أيضا فى الغرب، عندما لعب معها جين كيلى دور فريد الأطرش معها وقدّمها للعالم فى فيلم «الفتاة الأمريكية» لتصبح فيما بعد أيقونة تجمع بين الأداء التمثيلى والرقص الرشيق.
وكانت ليزلى كارون قد وُلدت فى ضواحى باريس وبالتحديد فى بولون-بيانكور من أب كان كيميائيًا متخصص فى النباتات والزهور، وامتلك فيما بعد متجرا للعطور فرنسية، بينما كانت والدتها، مارغريت بيتي، الأمريكية الجنسية، راقصة باليه. على الرغم من أن شقيقها الأكبر أصبح كيميائيًا مثل والده، إلا أن والدة كارون شجعتها على احتراف الرقص وبالفعل، بدأت الطفلة بتلقى دروس الرقص فى سن الحادية عشرة وسرعان ما انتقلت عائلتها إلى باريس، حيث التحقت كارون بدير العذراء، وبدأت تدريبها ثم احترافها هذا النوع من الفنون.
ويا له من خطّ خفى يضافر جهود الروح بين سامية جمال وليزلى كارون..
فكلتاهما بدأت بعد معاناة فى السنوات التأسيسية، فقد عاشت ليزلى طفولة مضطربة فى ظل الحرب العالمية الثانية، تبحث عن وطن فى الحركة وفن الرقص، بينما ولدت سامية جمال فى بيئة ريفية متشددة، تبحث عن ذات لا يحدّها سياج.. اختارت كل منهما أن تعبّر بجسدها حين تتعذر لغة الكلمات. وحين اعتلت كل منهما خشبة المسرح وشاشة السينما، تحوّلتا ـ تماما مثل أمينة رزق - من وهن الظروف المجتمعية إلى قوى لا يمكن تجاهلها.. اللافت أن كلتيهما أعادت تعريف فكرة الراقصة/الممثلة لدى مجتمعاتها واستطاعتا أن تكون لهما مدرسة واتباع وعشاق.
فعلى سبيل المثال، كانت ليزلى كارون تمثّل بعينيها المعبرتين وبخطواتها الرشيقة، وسامية جمال كانت ترقص بروحها المنتشية داخل جسدها، فكانت حركتها جريئة، لاسيما ممزوجة بخجل أنثوى وبهاء ايزيسى النكهة نابع من أصولها المصرية. وقد أسهمت علاقتها الفنية والإنسانية مع فريد الأطرش فى وصولها إلى ذروة حضورها على الشاشة، فكل لحن من ألحانه كان يفتح لها مساحة لتكتب بجسدها قصة جديدة، تمامًا كما فتح جين كيلى لليزلى مساحاته فى السينما الأمريكية.
بعد أن سافرت سامية إلى الولايات المتحدة، كانت أول من قدّم الرقص الشرقى بلمسات لاتينية وغربية، ولكنها أيضا تدرّبت على الرقص الحديث والجاز، وها هى تعود إلى القاهرة بنسخة أكثر تحررًا وكونية من الرقص الشرقى، واستطاعت بإرادتها الصلبة وقدرتها الفريدة على دمج الثقافات الحركية، ما وضعها فى تماس مباشر مع ليزلى كارون التى عُرفت بجمعها بين الباليه الصارم والأداء السينمائى المرن.
سفيرتان فوق العادة..
سامية جمال جسّدت للغرب صورة المرأة الشرقية القادرة على الإبداع والانفتاح، لا المحاصرة فى القوالب، أما ليزلى كارون فجسدت لأوروبا وأمريكا صورة الفنانة الفرنسية القادرة على تجاوز النمطية والانطلاق فى أدوار متعددة الأبعاد.
وحين نتأمل مسيرتيهما، نجد أن الخط البيانى لحياة كل منهما يشبه رقصة تبدأ بارتباك، ثم تتصاعد بثقة، ثم تستقر فى ذاكرة الفن: فقصة سامية جمال أو قصة ليزلى كارون ليست مجرد قصة راقصة، بل قصة امرأة صنعت ذاتها رغم كل ما كان يقف فى وجهها.. امرأة تماهت مع الضوء حتى صار يليق بها، وبنت مسرحها كل مرة من جديد، سواء كانت على الخشبة، أمام الكاميرا، أو فى لحظات حياتها الخاصة.
وما زال الفن، بشاشته وخشبة مسرحه وذكرياته، يحتفظ بأصوات أقدامهما، كأنهما تقولان للعالم:
كلّ امرأة فى هذا العالم، أينما وُلدت وتحت أى سماء نشأت، تسكنها روح ساحرة تشبه سامية جمال وليزلى كارون، لأنها تحمل فى أعماقها وهج يضاهى هاتين الأيقونتين، لكن بنبضها المتفرّد وتكوينها الخاص. لذا فما عليها إلا أن تزيح ستار يومها..
أن تنطلق على مسرح الحياة
فى رقصة تكون هى مؤلفتها
على إيقاعها هي..
متناغمة مع ما تحب من أنغام..
وما يختاره قلبها من موسيقى وألحان..
عزيزى القارئ
إذا أغمضنا أعيننا وتخيلنا شوارع جاردن سيتى عام 1949
والشابات يهرعن فى بهجة وسعادة إلى سينما راديو لمشاهدة فيلم عفريتة هانم، واذا تخيلنا فى مشهد آخر، شوارع وسط القاهرة عام 1960والعائلات تقف طابورا أمام سينما ميامى لمشاهدة «فتافيت السكر هانم» للاستمتاع بسامية جمال، تلك الطاقة البصرية المرحة التى تملأ الشاشة، وتعتمد على الخفة والخطوط الراقصة الواسعة بجانب التمثيل.
ودعونا أيضا نسبح بالخيال ونعبر البحر المتوسط شمالا إلى فرنسا، عام 1951حيث نتخيل شابات سان جيرمان بقبعاتهن الأنيقة والفساتين الملونة، وهُن متجهات سيرا على الأقدام إلى دار باتيه للسينما لمشاهدة فيلم أمريكية فى باريس، والذى كان مستوحى من موسيقى جورج جيرشوين ومبنى عليها.
وهنا أستطيع أن أرى قاسما مشتركا واضحا بين اكتشاف بديعة مصابنى لسامية، واكتشاف النجم الأمريكى جين كيلى لليزلى وتقديمها للسينما الموسيقية فنجحت ودخلت هوليوود من باب الرقص الاستعراضى مثل فيلم «جيجي» الذى حاز على جوائز عديدة فى أوروبا وأمريكا.
نعم هذا الباب الراقى الذى جمع بين ليزلى كارون وسامية جمال وكأنهما دخلتا الفن من نفس بوابة غير أن طريق كل منهما سار فى اتجاه مغاير، الأولى نحو هوليوود وفضاء الباليه والاستعراض الغربي، والثانية نحو القاهرة وعالم الرقص الشرقى والسينما العربية. ورغم اختلاف الخلفية الثقافية، أصبحت كل منهما رمزًا تمثل صورة الرشيقة ذات الابتسامة والحضور الساطع.
شاركت جمال فى بعض الأعمال العالمية على غرار الفيلم الأمريكى «وادى الملوك»، إنتاج 1954، حيث قدمت بعض المشاهد الراقصة فيه.. والفيلم الفرنسى «على بابا والأربعين حرامي»، إنتاج 1954 أيضاً، حيث قدمت «مرجانة» الشخصية الشهيرة فى «ألف ليلة وليلة».
وهكذا، لم يعد الرقص الشرقى مجرد فنٍّ ينتمى إلى جغرافيا بعينها، بل لغة إنسانية قادرة على العبور والتلاقي. ففى المساحة التى التقت فيها سامية جمال بعمق الشرق، وليزلى كارون بفضول الغرب، تشكّل حوار صامت بين ثقافتين، لا يُلغى أحدهما الآخر بل يُكمله. هناك، امتزج الإيقاع الشرقى بالخيال الغربي، وتحوّل الجسد إلى جسرٍ منسجم يعبر عليه الجمال دون قيود، ليثبت أن الاختلاف ليس حاجزًا، بل إيقاع آخر للانسجام، وتغدو الرقصة لحظة وحدة تتصالح فيها الحضارات، ويذوب فيها الشرق والغرب فى نغمة واحدة نابضة بالحياة فلا يكون الشرق شرقًا ولا الغرب غربًا، بل يكون الجمال وفقط الجمال.. وطنًا مشتركًا!