تُعد أزمة الخرف فى اليابان من أبرز التحديات الاجتماعية والصحية التى تواجه البلاد، إذ تشهد اليابان واحدة من أعلى نسب الشيخوخة فى العالم، وتواجه أزمة خرف حادة تؤثر على ملايين الأشخاص. مع تزايد متوسط العمر وتراجع معدلات المواليد، تتفاقم الضغوط على النظام الصحى وخدمات الرعاية والأسر التى تتحمل العبء الأكبر فى العناية بالمسنين. ولم تعد المشكلة محصورة فى الجانب الطبى فقط، بل أصبحت قضية مجتمعية شاملة تستدعى حلولًا مبتكرة وسياسات طويلة الأمد للحفاظ على جودة حياة كبار السن ودعم المجتمع اليابانى فى مواجهة هذه الظاهرة المتنامية فهل ستكون التكنولوجيا هى الحل؟
صنفت الحكومة اليابانية مرض الخرف باعتباره أحد التحديات الأكثر إلحاحاً؛ إذ تقدر وزارة الصحة أن تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية المرتبطة بالخرف ستصل إلى 14 تريليون ين؛ أى حوالى90 مليار دولار بحلول عام 2030 بزيادة قدرها 9 تريليونات ين عن عام 2025. ولأن العالم لم يتوصل إلى علاج فعال فقد غادر أكثر من 18 ألف شخص مسن مصاب بالخرف منازلهم واختفوا فى اليابان، وعُثر لاحقًا على جثث ما يقرب من 500 منهم فى العام الماضي. وتتفاقم الأزمة بسبب تقلص القوى العاملة والقيود الصارمة المفروضة على العاملين الأجانب الوافدين فى مجال تقديم الدعم والرعاية، لذلك تواجه اليابان تحدياً اجتماعياً خطيراً وأزمة خرف متفاقمة مصحوبة بنقص حاد فى مقدمى الرعاية البشرية.
الاستجابة الاستباقية لليابان لمعالجة هذا التحدى من خلال أحدث استراتيجية وهى التوجه الكبير نحو التكنولوجيا المتقدمة؛ حيث يتبنى الأشخاص فى جميع أنحاء البلاد أنظمة تعتمد على نظام تحديد المواقع العالمى «GPS» لتتبع الأشخاص الذين يتجولون. وتقدم بعض المناطق علامات «جى بى إس» إلكترونية يمكنها تنبيه السلطات فى اللحظة التى يغادر فيها شخص منطقة محددة. وفى بعض البلدات يتلقى العاملون فى المتاجر الصغيرة إخطارات فى الوقت الفعلى فى إطار شبكة أمان مجتمعى يمكنها تحديد موقع شخص مفقود فى غضون ساعات.
إلى جانب التتبع، يُستخدم الذكاء الاصطناعى للكشف المبكر حيث يستخدم نظام «Gait»من فوجيتسو وأيسر ميديكال الذكاء الاصطناعى لتحليل وضع الجسم وأنماط المشى ورصد أى علامة من علامات الخرف المبكرة. فى الوقت نفسه، يعمل باحثون فى جامعة واسيدا على تطوير AIREC، وهو روبوت بشرى يزن 150 كيلوغرامًا مصمم؛ ليكون مُقدّم رعاية «مستقبليًا»، وهو مصممًا لأداء المهام البدنية الشاقة، وقد أثبت قدرته على المساعدة فى حركات مثل تقليب الشخص على جانبه، وهى حركة بالغة الأهمية للوقاية من تقرحات الفراش، كما يمكنه أداء مهام بسيطة مثل طيّ الملابس وارتداء الجوارب، وتحضير البيض المخفوق، مع طموح مستقبلى لأن يتمكن من تغيير الحفاضات. وتوجد روبوتات أخرى تُستخدم بالفعل فى دور الرعاية. وإلى جانب المساعدة الجسدية، يجرى العمل أيضاً على توفير الدعم العاطفي؛ إذ تقدم اليابان روبوتات صغيرة محمولة، مثل روبوت Poketomo من شركة شارب، للرفقة والتذكير بتناول الأدوية والتفاعل الحوارى بهدف مكافحة العزلة الاجتماعية لدى منْ يعيشون بمفردهم.
أوضح الدكتور أحمد عبده طرابيك الباحث فى الشئون الآسيوية أن الآثار السلبية من تفشى مشكلة الخرف فى اليابان تتفاقم بشكل متزايد، والتى تنعكس بصورة كبيرة على القطاع الصحي، خاصة مع تقديرات الحكومة اليابانية التى تشير إلى أنه سيكون هناك أكثر من 5.84 مليون شخص من كبار السن المصابين بالخرف فى البلاد بحلول عام 2040. وهو ما يمثل وجود شخص واحد من كل 6.7 أشخاص من إجمالى عدد المسنين الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر، الأمر الذى يتطلب استجابة فعّالة لتوفير الرعاية والدعم اللازم لهولاء المرضى؛ إذ بحلول عام 2040 ستكون اليابان قد دخلت فى أزمة صحية واجتماعية متمثلة فى زيادة حادة فى حالات الخرف والضعف الإدراكى بين كبار السن.
وأضاف الدكتور طرابيك أن اليابان تشهد تغيرات ديموغرافية كبيرة خلال العقود الأخيرة، فمع تناقص عدد المواليد بسبب إحجام الشباب عن الزواج أو الإحجام عن الإنجاب بعد الزواج، أصبح المجتمع اليابانى يُعد من أسرع المجتمعات شيخوخة فى العالم؛ إذ بلغت الزيادة فى عدد المصابين بالخرف 1.41 مليون شخص خلال الفترة من عام 2022 حتى عام 2024. وهذا ما يشكل إنذارا واضحا للمجتمع بضرورة الاستعداد لمواجهة هذه الأزمة الصحية والاجتماعية. إذ يجب على الحكومة اليابانية العمل على توفير الرعاية والدعم لهذه الفئة المتزايدة من السكان. وتطوير برامج تدريبية متقدمة لمقدمى الرعاية الصحية لتمكينهم من التعامل بكفاءة مع هذه الحالات المتزايدة.
وأشار الدكتور طرابيك إلى أن الزيادة المتسارعة فى عدد المصابين بالخرف والضعف الإدراكى فى اليابان يزيد من تحديات القطاع الصحى مع ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية، الأمر الذى يضع ضغوطًا كبيرة على النظام الصحى والاقتصاد الوطنى الياباني. وهو ما بدأت به الحكومة اليابانية فى اتخاذ خطوات استباقية لمواجهة الأزمة المحتملة. حيث شملت هذه الخطوات تعزيز برامج الفحص المبكر والتشخيص، وتوسيع نطاق الخدمات الصحية المنزلية والمجتمعية، وزيادة التدريب والدعم للمرافقين والرعاة الصحيين.
وتابع الدكتور طرابيك أن الدراسات التى أجريت خلال عامى 2022 - 2023 تتوقع أن تشهد اليابان فى المستقبل زيادة ملحوظة فى عدد الفئات العمرية ذات النسب المرتفعة من الخرف والضعف الإدراكي. بحلول عام 2050؛ إذ من المتوقع أن يصل عدد كبار السن المصابين بالخرف إلى حوالى 5.87 مليون شخص، ما يمثل 15.1 فى المائة من كبار السن، فى حين يُتوقع أن يبلغ عدد المصابين بالضعف الإدراكى البسيط حوالى 6.31 مليون شخص، بنسبة 16.2 فى المائة. مع وصول الزيادة إلى حوالى 6.45 مليون شخص بنسبة 17.7 فى المائة عام 2060، بينما يظل عدد المصابين بالضعف الإدراكى البسيط ثابتًا تقريبًا عند 6.32 مليون شخص بنسبة 17.4 فى المائة. وتعكس هذه الأرقام حاجة اليابان الملحة إلى استراتيجيات صحية واجتماعية لمواجهة التحديات المستقبلية المرتبطة بارتفاع معدلات الخرف والضعف الإدراكى بين كبار السن. مثل العمل على خفض معدلات التدخين، وتحسين إدارة الأمراض المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري، وتغير الوعى الصحى باعتبارها من العوامل المحتملة لكبح الزيادة فى التدهور الإدراكي.
واختتم الدكتور طرابيك تصريحاته بأن اليابان تسعى إلى الابتكار فى استخدام التقنيات الحديثة لدعم كبار السن الذين يعانون من الخرف. وذلك من خلال تطوير تقنيات جديدة كالروبوتات المساعدة، وأجهزة تتبع الصحة الذكية، وتطبيقات الهواتف الذكية المصممة لتحسين جودة الحياة للمرضى وتخفيف العبء عن الأسر والمجتمع. وتهدف هذه الجهود إلى إيجاد بيئة داعمة وشاملة تسهم فى تحسين نوعية حياة المسنين وتخفيف الضغط عن النظام الصحي.