وأعرض فى ختام هذه الحلقات التى تحدث فيها المفكر الإسلامى الكبير «خالد محمد خالد» عن الديمقراطية ونوازعها، فأسأله:
نحن نشاهد المعارضة فى الدول الديمقراطية لا تعارض على طول الخط فى الصواب وفى الخطأ وإنما تتخذ موقفًا قوميًا مع الحكومة عندما تتطلب الظروف ذلك؟
نعم، وهذه هى الوظيفة السياسية الحقيقية للمعارضة، وإذا كنتِ بذلك تعرضين بالمعارضة فى مصر فإننى ألفت نظرك إلى موقف المعارضة الأخير من الدولة، والذى تجسد فى مناصرتها ودعمها فى كل اتجاه سليم، ولكن ينبغى على الحكومة ألا تتوقع من المعارضة نفاقها وتأييدها فى أخطائها، فالحاكم الرشيد يخلق المعارضة إذا لم تكن موجودة من أجل أن تكون مصباحًا فى يمينه تضيء له الطريق. انظرى إلى الكلمة الباهرة التى قالها «عمر بن الخطاب» أمير المؤمنين رضى الله عنه: «رحم الله من أهدى إلى عيوب نفسى”.
ندرك أن وظيفة المعارضة هى إرشاد أو تقويم الحكومة فيما إذا أخطأت. ولكن ماذا إذا أخطأت المعارضة نفسها؟
الديمقراطية تحمى نفسها وترتب أمورها، وليست المعارضة فى الديمقراطية وثنًا يُعبد من دونه، كما أن المعارضة فيها لا تعنى أن يقتصر استخدام الرأى على حزب يمثلها أو تشكيل يقوم بتنظيمها، وإنما المعارضة تعنى شيوع الرأى الآخر بل الآراء الأخرى التى يملك التعبير عنها كل من الأفراد والجماعات والصحافة فى مجتمع حر رشيد. فإذا أخطأت المعارضة ستجد قوى اجتماعية كثيرة تزجرها عن هذا الخطأ، ثم يشتركان معًا بعد ذلك فى اكتشاف الصواب واعتناقه. ولكن إذا استمرت المعارضة فى استمراء الخطأ فهنا يحق للحاكم أن يعصف بها. إنما عليه حينئذ أن يعالج خطأها بأسلوب ديمقراطى صادق.
هل تستطيع الديمقراطية أن تنقذ الأمم والحكام من بطانات السوء التى تلتف حولهم؟
هذه أولى مزايا الديمقراطية. إن بطانة السوء تجد فرصتها فى الالتفاف حول الحاكم المطلق وهى دائمًا تزين له الاستبداد لأنه المناخ الوحيد الذى تستطيع هذه البطانة أن تعيش فيه، إن الحاكم المستبد يعيش فى عالم مغلق أو فى أحسن الافتراضات يعيش فى عالم من المرايا فحيثما اتجه لا يرى سوى نفسه. وحينئذ يستحوذ الغرور عليه ويصبح فى حاجة شديدة إلى مَن يغذى هذا الغرور، وهنا يأتى الدور القذر لبطانة السوء، أما الحاكم الديمقراطى فهو يعيش فى عالم مفتوح مشرق بشمس الحرية وضيائها. ثم إن الرأى الآخر فى هذا المجتمع يذكره دائمًا بحقيقته وهى أنه مواطن لا سيد. مواطن بين الجميع وليس سيدًا فوق الجميع، كما يذكره بأن أفراد شعبه مواطنون لا رعايا. وحينئذ لا تجد بطانة السوء أرضًا خصبة تفرخ فيها وتبيض.
وماذا إذا غابت الديمقراطية عن الساحة؟
غيابها يؤدى إلى استشراء الطغيان، فهى تأتى ضرورة لتحقيق العدل وتداول السلطة.
معنى هذا أنكم ضد تفرد الحاكم بالسلطة؟
تفرد الحاكم بالسلطة يعمّق فكرة الحاكم المطلق. وبالطبع فإن كل حر لا بد أن يكون ضد السلطان المطلق، ولا بد أن يطالب ببرلمان ودستور يمثلان إرادة الشعب.
هذا يعنى أنكم تتشبثون بالرأى الآخر؟
هذا أمر طبيعى، فالرأى الآخر حق لا غنى عنه فى بناء مجتمع سليم حتى لو كان هذا الرأى نقد للسلطة أو للمفاهيم السائدة.
لهذا كان ذلك محور نقاشكم الشهير مع الرئيس «عبدالناصر» وهو ما عرضتم له فى كتابكم (من هنا نبدأ)؟
نعم. إننى أتشبث بالرأى الآخر وأجد أنه ضرورة لكل مجتمع كى يسلم من التفرد، ولهذا فإن الديمقراطية هنا ضرورة لضمان العدل، فهى السبيل لترسيخ العدل ومنع الاستبداد وكشف المتملقين للسلطة، وهنا ألفت النظر إلى أهمية البرلمان والدستور، ولهذا يتعين وجود برلمان ودستور حقيقيين لأنها أدوات لضمان حقوق الإنسان ومراقبة السلطة.
ما رؤيتكم حول حرية الكلمة والرأى الآخر؟
من الأهمية بمكان التأكيد على ضرورة سريان حرية الكلمة والرأى الآخر كحق أساسى للمواطن لا سيما وأن السلطة الحقيقية تتقبل النقد ولا تخاف منه.
ولكنك حتمًا ضد السلطة المطلقة؟
بل أنتقدها بشدة. أنتقد أى شكل من أشكال السلطة المطلقة التى لا تخضع للمحاسبة بما فى تلك التى تدعى الشرعية الدينية دون تطبيق عملى للديمقراطية؟
وماذا عمن يشرع التحدى والنقد الذاتى كسلاح ضد خالد محمد خالد؟
أنا لم أخش النقد الذاتى، لم أخش أى نقد يصوب فى اتجاهى، ولهذا فإنى أعترف بأخطاء وردت فى بعض ما قمت بطرحه فى بداية مسيرتى الفكرية، وهو ما يدل على التزامى بمبدأ المواجهة والتطور الفكرى.
ما رؤيتكم إذن حيال المجتمع الذى يفتقر إلى الديموقراطية وحرية الرأى؟
المجتمع الذى يُقصى الرأى الآخر، ويفتقر إلى الديمقراطية وحرية التعبير هو مجتمع مريض وقاصر عن تحقيق إنسانيته وتقدمه الحقيقى.
ما رؤيتكم حول الحكومة الدينية؟
الدين حين يتحول إلى حكومة فإن هذه الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يُطاق، ويكون الدين هنا كمن استنفد أغراضه ولم يعد له فى التاريخ الحديث دور يؤديه.
تحدثتم برحابة عن عمر بن الخطاب فما أبرز مواصفاته؟
إن الشجاعة والعدالة والورع والاستقامة كلها أخلاق إنسانية اتسم بها وتوجد بنسب متفاوتة بالنسبة للناس جميعًا. ولكن شجاعته وعدله وورعه واستقامته مواصفات اختص بها. وإن كنا نجزئها ونقول عدل عمر وورع عمر وأمانة عمر وفطنة عمر وقوة عمر فإنما نفعل هذا لنعلّم أنفسنا ونقسّم المادة التى بين أيدينا كى نتمكن من تحصيلها. أما فضائل أمير المؤمنين فلا تتجزأ فى مجال العمل كما لا تتجزأ فى ميزان التقييم، وإنما هى الإنسان الذى تنبع منه وتنتمى إليه.
فى معرض حديثك عن عمر رضى الله عنه تحدثت عن الخوف، وأتساءل ما شر أنواع الخوف؟
هو الخوف من أنفسنا. إنك قد تخاف شبحا ولكن خوفك سينتهى باكتشاف حقيقته، وقد تخاف (ظالما) ولكن خوفك سينتهى بانتهاء ظلمه، وقد تخاف فقرًا أو مرضًا أو كربًا، ولكن خوفك سينتهى بمجاوزة الفقر إلى الغنى والمرض إلى العافية والكرب إلى الفرج. أما حين تخاف نفسك فإنك تصاب بشر ما يمزقك.
لماذا؟
لأن نفسك لا تفارقك أبدًا حتى لو غادرت الأرض إلى السماء. إذن ستظل مخاوفك معك تحيط بك وتفقدك سكينة نفسك. وخوف النفس ينميه الفهم المغلوط لطبيعتها والمبالغة فى تجسيم أخطائها. وعندما يواجه الضمير بنوع رديء قاصٍ من الشعور الحاد بالإثم يشطر الذات الواحدة شطرين ويقسمها إلى معسكرين.