رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

زيارة ملك إسبانيا الناجحة.. علاقات دولية قائمة على الثقافة والآثار


25-9-2025 | 19:15

.

طباعة
بقلـم: حلمى النمنم

خلال الأسبوع الماضى، زار فيليب السادس ملك إسبانيا وزوجته الملكة ليتيزيا، مصر، فى زيارة رسمية، حظيا خلالها باستقبال رسمى على أرفع مستوى من فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسى والسيدة قرينته، وتم تكريم الملك من الرئيس بمنحه قلادة النيل العظمى «أرفع وسام مصرى»، وقام هو بمنح فخامة الرئيس أرفع وسام إسبانى، وزار الملك والملكة عدة مواقع أثرية وثقافية فى مصر، وكانت الذروة فى مدينة الأقصر، حيث تحولت الزيارة إلى استقبال شعبى حافل من أهالى المدينة العظيمة، الذين اصطفوا للترحيب بالضيف الكريم، بدا الملك متأثرا من هذا الاستقبال، وقال وهو يغادر الأقصر مودعا «نتمنى أن نعود مجددًا».

معروف عن الملك عشقه للآثار وللحضارة المصرية القديمة، هو وزوجته الملكة، وهذا العشق جانب من التقدير الإسبانى لتاريخ وحضارة مصر، فضلا عن التقدير لمصر المعاصرة والذى ينعكس فى علاقات وثيقة تجمع الدولتين، موقف إسبانيا من القضية الفلسطينية موقف رائد وسباق على مستوى القارة الأوروبية كلها.

تأتى هذه الزيارة فى إطار استعدادات مصر لافتتاح المتحف المصرى الكبير، والذى كان مقررا له مطلع هذا الشهر، ولكن أحداث الحرب الإيرانية - الإسرائيلية أدت إلى تأجيله إلى يوم 3 نوفمبر القادم، يفصلنا عنه أقل من أربعين يوما، من المقرر أن يكون الحفل ضخما ومبهرًا، يليق بالمتحف وبحضارة مصر وتاريخها، فضلا عن مكانة القادة الكبار الذين وجهت مصر إليهم الدعوة للحضور، وعبروا عن سعادتهم بالمشاركة فى هذا الحدث، الذى تقدمه مصر هدية للحضارة الإنسانية بمختلف مراحلها التاريخية.

الزيارة الملكية الإسبانية الناجحة لمصر تكشف أن هناك دولا علاقتنا بها تقوم فى المقام الأول على أسس ثقافية وحضارية، فضلا عن الاعتبارات الجغرافية، فى أوروبا تحديدا أو شمال المتوسط، يمكن أن نذكر إلى جوار إسبانيا، هناك فرنسا وإيطاليا واليونان، هى جميعا دول حوض البحر المتوسط ونحن نشترك معهم فى ذلك الرابط الجغرافى، ومن خلالها كانت الروابط الثقافية والحضارية التى تعبر عن نفسها فى بعض المواقف التاريخية.

حين أممت مصر قناة السويس سنة 1956، سحبت شركة القناة الإنجليزية كل المرشدين من القناة كى تتعطل الملاحة وتعجز مصر عن تشغيلها وتثبت الفشل وضرورة العودة البريطانية لإدارة للقناة، لكن المرشدين اليونانيين رفضوا الانسحاب، طلبت منهم حكومتهم الاستمرار، وأكدوا ارتباطهم وانحيازهم لمصر، ثم بادروا باستدعاء بعض زملاء لهم من خارج اليونان؛ لتتعاقد معهم مصر، ونجحت الإدارة المصرية.

ولما تورطت فرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956، هبّ المثقفون الفرنسيون ضد حكومة بلادهم، ونددوا بإفساد علاقات ثقافية عميقة بين البلدين، وكانت النتيجة أن فرنسا سنة 1958، ومع الرئيس ديجول، قررت إعادة علاقتها بمصر والمصريين احتراما لتاريخ طويل من العلاقات بين البلدين.

وكذلك الحال مع إيطاليا، رغم المصاعب التى مرت فى بعض الأوقات، ظلت الروابط عميقة بين البلدين، إلى يومنا هذا، التعاون يزداد بين الحكومتين... وقد راهن الرئيس السيسى منذ أن تولى المسئولية سنة 2014 على تنمية وتطوير هذه العلاقات والاتصالات.

إسبانيا شأن خاص جدا، فى تاريخ إسبانيا هناك الميراث الأندلسى، وهو ميراث مشترك بيننا وبينهم، حافظنا عليه طوال الوقت، لذا أقامت مصر من العهد الملكى على يد د. طه حسين، المعهد المصرى فى مدريد، الذى تحول إلى مركز ثقافى عربى وإسلامى ضخم، تعتز إسبانيا بوجوده وبدوره، يستقبل المبعوثين المصريين، ولعب الاستشراق الإسبانى دورا مهما فى التعريف بالتراث العربى وتأكيد مكانة مصر ودورها فى هذا التراث الممتد، ليس التراث العربى فقط، لكن التراث والحضارة المصرية القديمة التى يقدرها الملك فيليب السادس، وقد وضح للجميع ذلك فى زيارته الأخيرة، وعبارته «نتمنى أن نعود مجددا».

والذى حدث فى الفترة الأخيرة أن العلاقات تطورت بين البلدين على المستوى الأرفع؛ أى القصر الملكى فى مدريد وقصر الاتحادية فى القاهرة، بين جلالة الملك وفخامة الرئيس، الذى وجه الدعوة للملك للزيارة، كما وجه الملك الدعوة فى ختام زيارته إلى الرئيس لزيارة إسبانيا، وقد وعد بتلبية الدعوة.

والحق أن القاهرة شهدت نشاطا دبلوماسيا جما فى السنوات الأخيرة العقد الأخير، وكان الرئيس هو مَن انتبه إلى ضرورة توظيف كل جوانب العلاقات ومستوياتها، لا تكون سياسية ودبلوماسية بالمعنى التقليدى فقط، بل بالمعنى الواسع للكلمة، الذى يشمل التركيز على الجوانب الثقافية والتراثية، والبعد الحضارى والأثرى لمصر، وهكذا شهدنا تطويرا للعلاقات المصرية مع مختلف دول العالم بأدوات عديدة.

استحدث الرئيس منذ سنة 2014 فكرة الأعوام الثقافية المشتركة، مع مختلف دول العالم، خاصة منها التى تلتقى معنا فى امتلاك تاريخ عريق وحضارة قديمة، ولدينا علاقات عميقة وممتدة معها، وهكذا شهدت مصر والصين، العام الثقافى المصرى - الصينى سنة 2015 وقد زار الرئيس الصينى مصر، حيث حطت طائرته فى مطار الأقصر مباشرة، واستقبله الرئيس، وزار معبد الكرنك ومعبد حتشبسوت، والمعالم الأثرية المصرية فى الأقصر، وغادر الأقصر متمنيا العودة مرة ثانية إليها.. مردود تلك الزيارة ما زال قائما ومتواصلا إلى يومنا هذا، فى علاقات متنامية بين البلدين الكبيرين، اقتصاديا وتنمويا وعلميا، ثم تتالت الأعوام الثقافية.. العام المصرى الروسى، وهكذا تطوير لعلاقاتنا بدول العالم من الباب الثقافى والحضارى إلى جوار الأبواب والجوانب الأخرى، حدث ذلك مع دول وبلدان من مختلف قارات العالم.

هذه الأنشطة والزيارات الرئاسية التى يقوم بها الرئيس، فضلا عن استقبال قادة العالم هنا، يؤكد مجددا مكانة مصر وقوة الدولة المصرية، وفى النهاية تترجم تلك العلاقات إلى عوائد اقتصادية وثقافية وعلمية، وفى النهاية عائد سياحى كبير، العام الماضى زاد أعداد السياح بنسبة تجاوزت الـ20 فى المائة.

ولأسباب كثيرة، فإن مصر مهيأة لاستقبال أعداد أكبر من السياح، أوروبا كلها مشغولة ومرتبكة بسبب حرب روسيا - أوكرانيا، رغم وعود الرئيس ترامب بإنهائها خلال مائة يوم من حكمه، لكن الشواهد تؤكد أنها سوف تتواصل وتستمر، وهذا يعنى أن المقاصد السياحية تتغير، وفى المنطقة هنا الحروب مشتعلة فى أكثر من مكان، وتظل مصر محتفظة بالأمن والسلام.

تقوم مصر بدور مهم لإطفاء الحرائق فى المنطقة، سواء فى غزة أو فى السودان وحتى فى ليبيا، وكلها على حدودنا، ورغم هذا الدور لم تنشغل الدولة عن الداخل، أنشطة ومشروعات اقتصادية، العمل على قدم وساق لافتتاح المتحف المصرى الكبير، السبت الماضى تفقد رئيس الوزراء منطقة المتحف وتأكد من استكمال وجاهزية البنية الأساسية للطرق المحيطة بمنطقة المتحف والاستعداد للحفل الكبير واستقبال كبار الضيوف من أنحاء العالم.

مغزى الزيارة الإسبانية والجولات التى قام بها جلالة الملك تذكرنا بزيارة الرئيس ماكرون فى وقت سابق من هذا العام حين اصطحبه الرئيس السيسى إلى منطقة بيت القاضى فى الجمالية، حيث وُلد نجيب محفوظ وعاش طفولته، وجلس الرئيسان فى المقهى الذى يحمل اسم الكاتب الكبير، وتناولا عشاء بسيطا.

هذه المشاهد كلها تحمل رسالة واضحة للعالم، أن هنا بلدا يعيش فى أمان وسلام، وأنه رغم اللهيب والحروب حولنا يحافظ على أمنه وسلامه، ليس هذا فقط، بل يسعى إلى الجميع بالسلام.

المحاولات والجهود التى كانت ولا تزال تقوم بها مصر بالنسبة لغزة منذ يوم السابع من أكتوبر سنة 2023 جهود جبارة لا تكفيها جائزة نوبل لتقدير الدور الذى قامت به الدولة المصرية. وهذا يؤكد مجددًا أن الاستراتيجية الثابتة لمصر هى السلام والبناء.. مشاريع التنمية المستدامة التى تقوم بها الدولة فى أنحاء مصر، مصانع ضخمة للنسيج وغيرها فى مدينة القنطرة غرب، منطقة صناعية بجانب قناة السويس، ومناطق صناعية أخرى فى أنحاء مصر.

عشرات المدن الجديدة، خروج إلى الصحراء، وعدم الاكتفاء بالوادى والدلتا الذى عشنا محاصرين فيه آلاف السنين، هذه كلها جهود تتم، من أسف أنه لم يتم إبرازها بالوضوح الكافى للرأى العام، ويتكامل معها جهد دبلوماسى ضخم تقوم به الدولة..

الزيارات المتتالية إلى مصر، ملك وملكة إسبانيا، ثم رئيس سنغافورة، وغيرها من الزيارات.

اللقاءات التى أجراها الرئيس السيسى فى «الدوحة» على هامش المشاركة فى القمة العربية الإسلامية، كلها تؤكد ذلك المعنى.. مصر حاضرة وبقوة فى المحافل الإقليمية والدولية.

لم نعد أسرى علاقة أحادية، مع دولة أو قوة واحدة، كما كان حالنا فى حقب سابقة، وعرّضنا ذلك لكثير من المخاطر.

إسبانيا دولة أوروبية، من حوض البحر المتوسط، سنغافورة فى آسيا.. جنوب شرق آسيا، من ضمن النمور الآسيوية.. اهتمام مصرى واسع بالدول الإفريقية وتعميق العلاقات معها، وتبادل الزيارات باستمرار، فضلا عن علاقاتنا بالأشقاء العرب، وكذا دول الإقليم، تحديدا تركيا وإيران. حتى إن مصر هى التى لعبت دورا كبيرا فى تذويب الجليد بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وصدر «إعلان القاهرة» بهذا الشأن.

خفض التوتر مع بعض الدول، تحديدا تركيا وإيران، وتحويل ذلك التوتر إلى علاقات وتعاون جيدة، جزء من الاستراتيجية الرئاسية، عملت الدولة عليها بهدوء ودأب، فكانت النتيجة التى نراها.. مصر مركز العالم والمنطقة، ومن ثم يجب أن تكون جاذبة لكافة الأطراف، وهذا يتحقق بجهد متعدد المستويات، تقوم به أطراف ومستويات عدة داخل الدولة.

استثمار كافة جوانب التميز والخصوصية التى تتمتع بها مصر، ثقافيا وحضاريا وتاريخيا، فضلا عن علاقات قديمة وحيوية، كانت لنا طوال التاريخ، مع أطراف فى المنطقة، إنجاز يُحسب للدولة.

منذ أثينا القديمة، كانت علاقاتنا وطيدة بدول البحر المتوسط، علاقات سياسية وتجارية أيضا، ومن مفارقات التاريخ أنه طوال فترة الحروب الصليبية لم تتوقف العلاقات التجارية بين البيوت والمدن المصرية على شاطئ المتوسط ونظيراتها فى أوروبا، رأس البر ودمياط ورشيد والإسكندرية، لم تتوقف علاقاتها التجارية مع مرسيليا وفينسيا وغيرهما.

حين انهارت الأندلس، لم يجد كثير من سكانها أفضل من مصر لتكون ملاذا وملجأ لهم، ويحفل التاريخ بعشرات الأسماء، الذين وفدوا وعاشوا هنا واحتلوا مكانًا مرموقًا فى مصر.

وما يقوم به الرئيس السيسى الآن من تطوير علاقاتنا بدول المتوسط هو بناء على ذلك التاريخ الممتد والطويل.

وكذلك الحال فى علاقاتنا بالقارة السمراء، وبدول فى آسيا مثل باكستان والهند والصين واليابان.

هذا الجهد يتم فى إطار دعم الأمن القومى والوطنى المصرى، علمنا التاريخ أن العزلة والانعزال عن العالم تضربنا كثيرا وتفقدنا حيوية الدور والمكانة.

لذا حين كانت مصر تخضع للاحتلال، كان أول ما يقوم به المحتل أن يوقف أى تمثيل لمصر فى الخارج، فعلت ذلك الدولة العثمانية سنة 1517، وحاولت بريطانيا أن تفعله بعد سنة 1882، وكان أول ما قامت به مصر بعد صدور تصريح 28 فبراير سنة 1922 الذى يقضى باستقلال مصر، ثم انعقاد «مؤتمر لوزان» سنة 1923 الذى أنهى كل صلة لمصر بالدولة العثمانية، تم على الفور إعلان قيام وزارة الخارجية المصرية وإنشاء سفارات وقنصليات لنا حول العالم.

هذه العلاقات والتواصل الدولى له مردود وسياسى ومردود اقتصادى وتنموى.. وجدنا ذلك حين وقعت حرب روسيا - أوكرانيا، فقد أكدت كل منهما حرصها على أن يصل إلى مصر كل ما تطلبه من القمح، رغم صعوبة التصدير، ولذا لم نشعر بأى أزمة فى هذا الجانب، وقِس على ذلك فى مختلف المجالات.

 

الاكثر قراءة