رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«نفيسة العلم».. مسجد يودّع الموتى ويحتضن الأحياء بالسكينة


4-9-2025 | 14:57

مسجد السيدة نفيسة

طباعة
تقرير: رانيا سالم

قبل أن تعلن الشمس انتصافها فى وسط السماء، ويستعد المؤذن لترديد أذان الظهر، تبدأ الساحة الأمامية للمسجد رغم اتساعها فى الازدحام، ما بين سيارات تكريم الموتى وسيارات الإسعاف وغيرها من السيارات الملاكى والأجرة ليمتلئ المحيط بأكمله، وسط أبواق السيارات التى لا تتوقف لعلها تجد موطئًا مناسبًا فى الساحة الكبيرة المزدحمة، ليبدأ بعدها طوفان من المودعين يرتدون السواد، ودموع تنمهر فى صمت فى انتظار انتهاء الصلاة، ليتوجه الجميع للقاء أخير مع موتاهم فى صلاة جنائزية تجمع عشرات الموتى، والقبلة واحدة هو مسجد السيدة نفيسة.

عرفت قديمًا بـ«درب سبع» وحديثًا لُقب باسمها، ومسجد السيدة نفيسة وضريحها، يقع كثانى مسجد فى «طريق أهل البيت» يليه مسجد السيدة سكينة بنت الحسن والسيدة رقية بنت على بن أبى طالب وسيدى محمد بن جعفر الصادق والسيدة عاتكة لينتهى بمسجد السيدة زينب بالميدان والحى الذى لقبا باسمها.

السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، أو «نفيسة من الصلاح والزهد على الحدّ الذى لا مزيد عليه» كما وصفها المقريزى فى كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف «بخطط المقريزي»، وتابع: «يقال إنها حجت ثلاثين حجة، وكانت كثيرة البكاء، تديم قيام الليل وصيام النهار، فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسى وأمامى عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وكانت لا تأكل إلا فى كلّ ثلاث ليال أكلة واحدة».

«نفيسة العلم» هكذا عُرفت السيدة نفيسة، وُلدت فى مكة المكرمة عام 145 هجريًا، لتنتقل مع أبيها وأخواتها إلى المدينة المنورة وهى فى الخامسة من عمرها، لتتلقن دروس الحديث والفقه على يد علماء المسجد النبوى، لتُلقب بنفيسة العلم حتى قبل أن تصل لسن الزواج.

تزوجت السيدة نفيسة من إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وأنجبت له القاسم وأم كلثوم، لترحل بعدها نحو مصر، وخرج المصريون فى استقبالها للترحيب بها لتصل القاهرة فى 26 رمضان 193 هجريًا.

لم يختلف المصريون كثيرًا فى ترحيبهم ومعزتهم لآل البيت قديمًا وحديثًا، فزيارات المصريين لمساجد آل البيت طقس أصيل اعتاد عليه الجميع، ومن قبل كان الأجداد يحتفون بزيارة آل البيت ومرورهم بمصر وبمكوثهم بأرض المحروسة، فمع استقرار السيدة نفيسة فى مصر أقبل المصريون يلتمسون العلم منها، وتلقى البركة والنصح والإرشاد، حتى أن الإمام الشافعي، كان من روادها، وذكر مخطط المقريزى أنه كان يزورها ويطلب منها الدعاء والنصح.

نهل المصريون من علم السيدة نفيسة حتى أنها خرجت عليهم يومًا قائلة: «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، وقد تكاثر حولى الناس فشغلونى عن أورادى، وجمع زاد معادى، وقد زاد حنينى إلى روضة جدى المصطفى»، ليتدخل والى مصر السرى بن الحكم وقال لها: «يا ابنة رسول الله، إنى كفيل بإزالة ما تشكين منه»، ليهبها دارًا كبيرة، وحدد يومين فى الأسبوع لزيارتها لطلب العلم والنصيحة، حتى يتيح لها التفرغ للعبادة بقية الأسبوع.

استمر المصريون فى لقائهم بالسيدة نفيسة حتى توفيت عام 208 هجريًا، ودُفنت فى ضريحها ومسجدها الذى لا تزال به حتى اليوم 1447 هجريًا، فالمسجد والضريح له أهمية خاصة فى قلوب المصريين حتى أن المقريزى كتب فى مخططه أن الضريح هو أحد المواضع الأربعة المعروفة بإجابة الدعاء فى مصر وهم «سجن نبى الله يوسف الصدّيق عليه السلام، ومسجد موسى صلوات الله عليه، وهو الذى بطرة، ومشهد السيدة نفيسة رضى الله عنها، والمخدع الذى على يسار المصلّى فى قبلة مسجد الإقدام بالقرافة، فهذه المواضع لم يزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة يمضون إلى أحدها، فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم».

استقر فى وجدان المصريين بركة مسجد وضريح السيدة نفيسة وتحول لمكان يجمع عشاق آل البيت، لتستمر عمليات التجديد والتطوير فى بنايات المسجد أحدثها ما افتتحه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مارس 2025 ليعلن الانتهاء بشكل كامل من كافة أعمال التجديد والترميم بالمسجد، ولتفتح أبوابه أمام الجميع للصلاة والزيارة، وليتحول إلى المسجد الأشهر لصلاة الجنازة مقارنة ببقية المساجد.

بانتصاف النهار يعود السكون مرة ثانية إلى ساحة المسجد، إلا من الزوار ما بين مصلٍ وداعٍ أو زائر للضريح، الجميع يجلس فى هدوء دون الالتفات للآخرين، وتبقى حركة عاملى النظافة لإعادة الأمور إلى هيئتها الأولى، فيما تستمر مراقبة مشرفى المصلى، ليستمر الهدوء والصمت حتى يعلن الإمام عن صلاة جنازة فيترك الجميع ما يفعله ويصطفون فى الصفوف الأمامية لتبدأ الصلاة ويتوقف البكاء ويستمر الدعاء.

السكينة والطمأنينة والهدوء نهج المسجد بعد الترميم، بالإضافة إلى روحانياته المرتفعة، فالأسوار الحديدية المرتفعة تبعها رجال الأمن فى تنظيم دخول الزوار، فلا مكان للتسول أو إيذاء الزائر أو حتى باعة، الهدوء ونظافة الساحة أمر أعطى مزيدًا من الهيبة والإجلال لمسجد السيدة نفيسة.

ساحة رخامية كبيرة تتلألأ أضواؤها مع أشعة الشمس لتعكس أضواء ساطعة على واجهة المسجد فتزيدها جمالاً، بتجاوزك الأبواب الحديدية والساحة الرخامية يقابلك أماكن مخصصة لوضع الأحذية، لينقسم مصلى المسجد إلى جزء مخصص للرجال وآخر للنساء، داخل كل مصلٍ مشرفون وعدد ضخم من عاملى النظافة للحفاظ على المسجد فى أبهى صوره.

الضريح لم يختلف كثيرًا عن المسجد، فرجل الأمن والمشرفون ينظمون دخول الزوار، لتسير عملية الزيارة فى ديناميكية منظمة تتيح للجميع الزيارة والدعاء مع ترك وقت لغيره من الزوار مع الحفاظ على نظافة الضريح وهدوئه.

«خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ» تقابلك الآية الكريمة قبل أن تدخل الضريح الذى يلتف الزائرون حوله، منهم من يستند عليه باكيًا، وآخر يلقى نظرة فاحصة عليه، ومنهم من قرر الجلوس إلى جواره قارئًا أو داعيًا، لتستمر جولات المشرفين بنظراتهم الثاقبة للتأكد من استمرار الزيارة بهدوء وعدم وجود أى مخالفات لتعليمات المسجد.

قبل أن تنهى الزيارة تقابلك الآية الكريمة «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

مع دقات الساعة الرابعة تبدأ الزحمة من جديد، يمكنك ملاحظتها من صفير وأبواق سيارات الموتى والإسعاف، ليعلن الجميع استعدادهم لأذان وصلاة العصر ليتبعها صلاة جنازة جديدة تضم عددًا من الموتى قبل أن يودعهم ذووهم لمثواهم الأخير، لتبقى واجهة المسجد التى تتصدرها الآية الكريمة» «واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لا إلَهَ إلّا هو فاتَّخِذْهُ وكِيلًا» هى الأبرز فى الساحة الواسعة.

أخبار الساعة