رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

مسجــد الحسيــن.. ملاذ الأرواح التائهة وسط صخب المدينة


4-9-2025 | 14:48

مسجد الحسين

طباعة
تقرير: نور عبد القادر

مع دقات الساعة الواحدة ظهرًا، كان شارع الأزهر يعج بالحركة. الباعة الجائلون يمدون أيديهم بالعطور والمسابح والبخور، والأصوات تتداخل بين مناداة البائعين وصوت الأذان المنبعث من المساجد القريبة. وما إن اقتربت من مسجد الإمام الحسين حتى توقف هدير السيارات فجأة أمام الحشود المتدفقة نحو بواباته. عند الوصول، شعرت أنني في عالم آخر؛ فخارج المسجد يختلط الزحام بصوت الباعة ورائحة الكنافة والحمص السكري المتصاعدة من المحلات، لكن كل ذلك يختفي تدريجيًا ما إن تخطو إلى الداخل، حيث السكينة والروحانية تغمران المكان.

الواجهة الخارجية للمسجد تستوقفك قبل الدخول، بزخارفها الحجرية الدقيقة التي تحمل روح الطراز المملوكي الجديد، والمآذن الشاهقة التي تخترق السماء وكأنها تشهد على آلاف الركعات والدعوات التي رفعت هنا منذ مئات السنين. وما إن تخطو بقدميك إلى الداخل، حتى تجد نفسك محاطًا برخام مزخرف كأنه فسيفساء حية، وأعمدة رخامية شامخة تصطف في مهابة، وسقوف مرتفعة تتزين بالآيات القرآنية والخطوط العربية من الكوفي إلى الثلث، في تناغم يخطف الأبصار ويأسر القلوب.

عند المدخل، سيدات مسنات يحملن في أيديهن زجاجات من ماء زمزم، وآخرين يوزعون البخور على المارة. وجوه متعبة جاءت من سفر بعيد، لكن يبدو عليها الشوق.

داخل المسجد، الإضاءة هادئة لكنها مهيبة، ثريات كبيرة متدلية من السقف، نورها أصفر دافئ، متداخل مع لمعة الزينة الفضية التي تغطي الضريح من كل ناحية. الفضة منقوشة بأشكال هندسية دقيقة، وكل تفصيلة بها تلمع كأنها تحكي تاريخاً طويلاً من قدسية المكان.

المسجد مضاء بأنوار بيضاء ناعمة، والناس يقفون فيه بخشوع؛ منهم من يصلي، ومنهم من يتلو القرآن، وآخرون يرفعون أيديهم إلى السماء بالدعاء في همهمة خافتة تكاد لا تُسمع. الجو كله يقول إن هذا المكان ليس مجرد مسجد، بل هو حضن واسع للباحثين عن الطمأنينة.

دخلت إلى الضريح، فوجدته محاطاً بسياج فضي مرتفع يلمع مع كل انعكاس للضوء، ومن خلفه تتدلى ستائر خضراء مطرزة بآيات قرآنية بخط ذهبي. الزائرون مصطفون حوله في صفوف غير منتظمة، لكن بدا وكأن خيطًا خفياً يجمعهم. الازدحام شديد، ومع ذلك لا يُسمع صوت مرتفع، فالكل غارق في حاله.

الإحساس الأقوى لدي كان أن الضريح ليس مجرد مكان، بل حالة.. حالة من السكون تنتزعك من صخب الدنيا وتأخذك بعيدًا عنه. كأنك فجأة دخلت جزيرة هادئة، مغمورة بالنور والصدق، مليئة بوجوه تبحث عن الله في سجدة على الأرض ودعاء يخرج من أعماق القلب.

التقيت بالدكتور عبد الغني هندي أحد أعضاء مجلس الإدارة بمسجد الحسين، يقول: في السنوات الأخيرة، حظي مسجد الإمام الحسين وجميع مساجد آل البيت باهتمام غير مسبوق من الدولة المصرية، خاصة بعد أن دخل ضمن خطة شاملة لتطوير القاهرة التاريخية. فقد جرى ترميم المسجد بالكامل بالتعاون بين وزارة الأوقاف والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، مع الحفاظ على طابعه الأثري المميز، مصر تحافظ على تراثها الديني والحضاري. حافظنا على كل تفاصيل المسجد التاريخية، وفي الوقت نفسه أضفنا تقنيات حديثة في الإضاءة والصوتيات لتيسير الصلاة والزيارة. فشملت أعمال التطوير تدعيم الأساسات، ترميم القباب والمآذن، تنظيف الرخام والرخامات المزخرفة، وتحديث أنظمة التكييف والإضاءة. كما جرى تنظيم الساحة الخارجية لتسهيل حركة الزوار، مع توفير ممرات خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة. وتطوير النظافة والأمن داخل المسجد وخارجه.

دكتور هندي يوضح أنه في المناسبات الدينية الكبرى، مثل المولد النبوي الشريف وشهر رمضان وليلة النصف من شعبان، يتحول المسجد إلى ساحة كبرى للروحانيات، حيث تمتلئ أرجاؤه بالأنوار والزينات، ويجتمع آلاف الزوار من مختلف المحافظات، في مشهد يفيض بالمحبة والتواصل الإنساني. أما في يوم عاشوراء، فتتضاعف أعداد الزوار الذين يأتون لإحياء ذكرى الإمام الحسين، رمز التضحية والفداء. وتغلب على الأجواء مشاعر الحزن والوفاء، حيث يستذكر الناس مواقف كربلاء وما تحمله من دروس في الصبر والإيمان.

ولفت إلى أن هذه الأبعاد الروحية جعلت المسجد مدرسة للتسامح والتعايش، حيث يجتمع فيه أناس من مذاهب وثقافات مختلفة، تجمعهم المحبة المشتركة لآل البيت. وهو ما جعل من مسجد الحسين رمزًا عالميًا للإيمان والسلام الداخلي.

الشيخ أحمد مكي، إمام وخطيب سابق لمسجد الإمام الحسين، يقول إن المصريين يتميزون بمحبة خاصة لأهل البيت، وهو ما يظهر في احتفالاتهم الدائمة بالسيدة زينب وسيدنا الحسين والسيدة نفيسة وسائر آل البيت، موضحا أن سر هذه المحبة يرجع إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحماً»، كما وصفهم بخير أجناد الأرض.

وكشف مكى عن رؤية نقلها إليه أحد الصالحين، رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر المصريين بكرامة خاصة، إذ يدخل أهل كل بلد عليه في الروضة الشريفة حفاة إلا المصريين، الذين يدخلون في سيارات الرؤساء المكشوفة تكريما لهم، فلما سأل عن سر ذلك قال النبي: «أهل مصر يستحقون هذا التكريم لأنهم يحبون أهل بيتي».

مسجد الحسين بالنسبة للمصريين ليس مجرد مكان للصلاة، بل هو موضع بركة وملاذ للروح. فمنذ مئات السنين، اعتاد الناس التوجه إلى المسجد للتبرك بآل البيت، وطلب الشفاعة والدعاء عند الضريح الشريف، ولأن المسجد حي برواده، فإن شهادات الزوار تعكس قيمته الحقيقية.

الحاجة فاطمة عبد الرحيم، سيدة ستينية جاءت من صعيد مصر، تقول والدموع في عينيها: «من وأنا صغيرة كان حلمي أزور سيدنا الحسين. لما دخلت المسجد وحطيت إيدي على شباك الضريح حسيت إن الدنيا كلها اتفتحت ليا. دعيت لأولادي وربنا يكتب لهم الخير. الحسين بركة لمصر كلها. مش باجي الحسين علشان أتبارك بس، لكن علشان أستريح نفسيًا. المكان هنا له روح مختلفة. لما أصلي ركعتين في المسجد وأخرج، بحس براحة كبيرة».

أما سونيا يوسف، سائحة تونسية، فتقول بابتسامة: «زرت أماكن سياحية كثيرة في العالم، كنائس وأديرة ومساجد، لكن هنا في الحسين شعرت بشيء خاص جدًا. الناس ودودة، والمكان له قدسية عميقة، هذه ليست زيارة سياحية فقط، بل تجربة روحية لن أنساها».

«حين هممت بالخروج من المسجد، توقفت لثوان غارقة في أفكاري، فإذا بيد دافئة تستند على كتفي فجأة. التفت، فرأيت سيدة بسيطة الملامح يكسو وجهها الرضا، تنظر إلي بابتسامة مطمئنة، وتقول بهدوء: «سيدنا الحسين عمره ما بيرد حد جاي له بطلب.. خلي نيتك خير، وادعي هنا، وربنا هيبدلك براحة في بالك ويفتحلك باب الفرج». كلماتها انسابت إلى قلبي كنسمة رقيقة، جعلتني أشعر أن الله أرسل إلي رسالة على لسانها.

أخبار الساعة