«الصناعة المحلية».. أحد أهم الملفات التى تعمل الحكومة على إنجازه، بما يحقق استراتيجية الدولة المصرية لتعميق الإنتاج المحلى وبما يسهم فى تقليل فاتورة الاستيراد ورفع معدلات التصدير وتوفير فرص العمل ورفع معدلات الإنتاج، وفى سبيل ذلك خاضت الدولة المصرية مسيرة شاقة لإعادة رسم ملامح قطاع الصناعة، وعكفت على تحقيق تنمية صناعية شاملة، عملا بأن «الصناعة هى قاطرة التنمية المستدامة»، وأن العمل على تعميق التصنيع المحلى وتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتى، وتوطين الصناعات المحلية لن يتحقق إلا من خلال تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصناعة عبر إطلاق المبادرات التحفيزية للمستثمرين، وتوفير بيئة صناعية متكاملة من خلال إنشاء مناطق صناعية تسهم فى رفع كفاءة الإنتاج وتحقيق أعلى مستويات الجودة من المنتجات المصرية، مع تحديد الصناعات الواعدة وإتاحة العديد من الفرص الاستثمارية للصُناع والمستثمرين من أجل تشجيع الاستثمار الصناعى؛ حتى تعود مصر إلى مكانتها كمركز صناعى محورى فى الشرق الأوسط وإفريقيا.
هذه الجهود ترجمتها الحكومة على أرض الواقع من خلال إنشاء المناطق الصناعية والمجمعات الصناعية التى وصلت مع نهاية عام 2024 إلى 147 منطقة، بزيادة نسبتها 21.5 فى المائة، مقابل 121 منطقة صناعية فى عام 2014، فيما توسعت أيضاً فى إنشاء المجمعات الصناعية من خلال إنشاء 17 مجمعاً على مدار الـ11 عاماً الماضية على مستوى 15 محافظة، من بينها 10 مجمعات بالوجه القبلى، و7 مجمعات بالقاهرة ومحافظات الوجه البحرى، وتم تجهيزها بجميع المرافق والخدمات، بتكلفة إجمالية بلغت 10 مليارات جنيه، بهدف النهوض بقطاع الصناعة.
وكشفت وزارة الصناعة، فى أحدث تقاريرها، عن الصناعات الواعدة التى تعمل على توطينها خلال الفترة المقبلة، وعددها 23 صناعة واعدة، حيث يتم إعطاء جميع الحوافز والتيسيرات للمستثمرين فى هذه الصناعات، أبرزها: «مكونات الطاقة الشمسية - ألبان الأطفال - صناعة البوليستر - المحركات الكهربائية - زجاج السيارات - بطاريات التخزين - صناعة إطارات السيارات - المعدات»، كما أتاحت «الصناعة» 152 فرصة استثمارية لجميع المستثمرين الصناعيين فى الصناعات المختلفة.
وأوضحت الوزارة أن النسبة المستهدفة من زيادة مساهمة قطاع الصناعة فى الناتج المحلى الإجمالى فى 2030 هى 20 فى المائة بدلاً من 14 فى المائة، وفقاً للاستراتيجية الوطنية للصناعة «2024-2030» وذلك ضمن أبرز القرارات الداعمة لتطوير قطاع الصناعة، كما حددت الوزارة النسبة المستهدفة لرفع مساهمة الاقتصاد الأخضر فى الناتج المحلى الإجمالى بالصناعات الخضراء وهى 5 فى المائة، ضمن الاستراتيجية الوطنية للصناعة «2024-2030».
كما أشارت تقارير وزارة الصناعة إلى أن الوزارة تستهدف توفير من 7 إلى 8 ملايين فرصة عمل فى إطار الاستراتيجية الوطنية للصناعة، بالإضافة إلى تنمية مهارات العمال والحد من البطالة، وتتيح الوزارة أراضى صناعية بمختلف المساحات على مدار العام من خلال منصة «مصر الصناعية الرقمية»، وتصل نسبة التخفيض التى تتيحها الوزارة بشأن تكاليف دراسة الطلب المقدم لحجز الأراضى الصناعية إلى 50 فى المائة، وذلك ضمن التيسيرات والحوافز التى تقدمها الوزارة للمستثمرين المتقدمين على الأراضى، فيما أعلن مركز تحديث الصناعة، التابع لوزارة الصناعة، عن عدد الخدمات التى يقدمها المركز فى مجال التحول الرقمى والأتمتة، وبلغت 105 خدمات على مدار عام 2024، وذلك فى إطار الخدمات الفنية المقدمة من المركز لعملائه.
وعلى ضوء تلك الجهود، ركزت الحكومة المصرية على جذب الاستثمارات فى عدد من المجالات المهمة، مثل الصناعات التحويلية، والصناعات الزراعية، إلى جانب الصناعات التكنولوجية: مثل صناعة الإلكترونيات، وتكنولوجيا المعلومات، وصناعة البرمجيات، فضلا عن الاستثمار فى مجال الطاقة، حيث تستند مصر فى مساعيها لجذب الاستثمارات فى هذه المجالات المهمة إلى موقعها الجغرافى كدولة تربط بين قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، مما يتيح لها أن تكون مركزا صناعيا رئيسيا، فضلا عن زيادة فرص التعاون مع الدول العربية والإفريقية لتوسيع أسواق المنتجات المحلية.
وعرضت الحكومة فى هذا الإطار، حوافز استثمارية، كما قدمت تسهيلات ضريبية ودعما ماليا للمستثمرين المحليين والأجانب، فضلا عن إنشاء وتطوير المناطق الصناعية، وتوفير البنية التحتية المناسبة، وتدريب العمالة فى مختلف المجالات المستهدفة، إلى جانب تبنى القوانين واللوائح التى تبسط الإجراءات الإدارية والتراخيص للمستثمرين.
وفى هذا السياق، قال الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادى، إن «مصر وضعت استراتيجية وطنية متكاملة لدعم وتطوير القطاع الصناعى، تتضمن تهيئة البنية التحتية وإقامة مناطق صناعية متكاملة فى معظم المحافظات عبر ضخ استثمارات كبيرة فيها، وتطوير البنية التشريعية والانخراط فى الكثير من التكتلات الاقتصادية العالمية، كما قدمت مصر خلال السنوات الماضية الكثير من الحوافز والضمانات للمستثمرين بصفة عامة ولمستثمرى القطاع الصناعى بشكل خاص، حيث تسعى بذلك إلى تطبيق استراتيجيتين: الأولى تتعلق بإحلال الواردات، والثانية تخص بناء صناعات من أجل التصدير».
وفى مجال تطبيق استراتيجية «بناء صناعات من أجل التصدير»، قال «جاب الله» إن «مصر اهتمت بصورة كبيرة باستغلال المزايا النسبية التى تمتلكها من أجل بناء صناعات من أجل التصدير، لا سيما فى مجال قطاع الصناعات الغذائية وقطاع الأدوية والغزل والنسيج والصناعات الهندسية وغيرها من الصناعات التى قدمت فيها مصر دعما للصادرات ساعدت به المصدرين، كما قدمت أيضا عددا كبيرا من الإعفاءات الضريبية، بالإضافة إلى تنظيم المعارض فى الخارج، فضلا عن دعم هذه القطاعات من خلال العمالة اللازمة عن طريق إنشاء عدد من المدارس والجامعات التكنولوجية التى تساعد القطاع الصناعى فى الحصول على العمالة الفنية التى يحتاجها، وهذه الإجراءات حققت نجاحات خلال الفترة الماضية، حيث يتم افتتاح الكثير من المصانع بصورة دورية وبشكل شبه أسبوعي».
بدوره، قال المهندس شريف الصياد، رئيس المجلس التصديرى للصناعات الهندسية فى مصر، إن «الحكومة تسعى إلى توطين عدد من الصناعات الهندسية، حيث قامت بالتركيز بشكل خاص على صناعة الأجهزة المنزلية والكهربائية، والتى شهدت نموا ملحوظا فى الصادرات»، مشيرا إلى أن صادرات هذين القطاعين وصلت إلى ما يقارب 953 مليون دولار خلال الأحد عشر شهرا الأولى من عام 2024، مما يعكس الجهود الكبيرة التى تبذلها الدولة لتعزيز مكانتها كمركز إقليمى للصناعات الهندسية.
«الصياد»، أوضح أن «الصادرات الهندسية تلعب دورا محوريا فى الحد من العجز فى الميزان التجارى المصرى، حيث تجاوزت قيمة الصادرات الهندسية 5 مليارات دولار فى عام 2024، كما تستهدف مصر تحقيق صادرات بقيمة 6 مليارات دولار بحلول نهاية عام 2025»، مضيفا أن «استراتيجية الدولة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ساهمت فى جذب 5 شركات عالمية رائدة فى قطاع الأجهزة المنزلية من تركيا والصين ودول الاتحاد الأوروبى، مما أسهم بشكل كبير فى زيادة الصادرات المصرية، وتعزيز القدرة التنافسية للصناعات المحلية فى الأسواق العالمية»، كما نوه بأهمية التسهيلات الجمركية التى تسمح بدخول مكونات الإنتاج دون جمارك، مما يسهم فى خفض تكاليف الإنتاج وزيادة القدرة التنافسية للصناعة المصرية.
فى حين قال الدكتور محمد أنيس، الخبير الاقتصادى، إن «تسريع خطوات توطين الصناعة فى مصر سيساهم فى سد العجز بالميزان التجارى، والتغلب على فاتورة الاستيراد»، مشددا على ضرورة تشجيع الاستثمار الأجنبى المباشر المستهدف للتصدير، وأن يكون ذلك هو العنوان الرئيسى للاستراتيجية المصرية خلال الفترة المقبلة.
وأضاف «أنيس»، أن «التدفقات الأجنبية تغلق الفجوة النقدية بشكل مباشر، وهو ما يبرز أهمية تحقيق إيرادات مستدامة عبر الصادرات، استنادا إلى جذب استثمارات عبر الاستفادة من تطوير البنية التحتية والاستمرار فى رفع كفاءة الطرق»، مشيرا إلى أن المستثمر يضع نصب عينيه مؤشر «سهولة القيام بالأعمال» وسهولة الإجراءات، وهو أمر يعززه التحول الإلكترونى والشمول المالى الذى تتبناه الحكومة المصرية، إلى جانب تشجيع التوطين من خلال طرح الأراضى الصناعية؛ لكى يبدأ المستثمر فى إنشاء المصانع والإنتاج، فضلا عن توفير العمالة الفنية المدربة والكفاءات المطلوبة، عن طريق إنشاء المدارس الصناعية والمتخصصة.
«د. محمد»، أشار إلى أن «وفرة الحاصلات الزراعية فى مصر والتى يتم تصدير جزء منها بمليارات الدولارات سنويا، وتسهم فى زيادة حصيلة النقد الأجنبى للبلاد وتوفير العملة الصعبة، ولكن عبر وضع خطة لتصدير هذه المنتجات مصنعة سنرفع حصتنا من الصادرات والعائد منها، ناهيك عن فرص زيادة الاستثمار المباشر ببناء المصانع وتشغيل الأيدى العاملة وتحقيق الأمن الغذائى والاكتفاء الذاتي».
كما ضرب العديد من الأمثلة فى قطاع الصناعات الغذائية، مثل تصنيع المربات واستخلاص الزيوت من البذور التى لابد من التوسع فى زراعتها محليا، خاصة الزيتون والنخيل والذرة، وعلى الشركات الزراعية أن تخلق الشتلات والبذور لتوفيرها لمصانع العصر وإنتاج الزيوت، وبدلا من تصدير منتجات مثل الطماطم وغيرها نصنع جزءا منها لتصديره تام الصنع، مثل الصلصة والكاتشاب. وهنا تأتى أهمية المناطق الصناعية التى أقامتها الدولة فى عملية التصنيع الزراعى.
وأكد «أنيس»، قدرة الدولة المصرية فى الدخول بقوة فى الصناعات الثقيلة والمتطورة المعتمدة على التكنولوجيا ولدينا ترسانة من البنية التحتية والمصانع الجاهزة لتصنيع السيارات الكهربائية والتقليدية، مشيرا إلى مصنع حلوان للسيارات الذى تم تطويره لإنتاج سيارات كهربائية ودخل مرحلة الإنتاج الفعلى، ولكن ينقصه تصنيع البنية التحتية لمحطات الطاقة الكهربائية وشحن السيارات الكهربائية لتزويد الطرق السريعة بها والمدن الكبرى.
من جهته، قال المهندس أحمد الزيات، عضو جمعية رجال الأعمال المصريين، إن «أسعار الطاقة للقطاع الصناعى ما زالت جاذبة للاستثمار فى المنطقة، كما نجحت مصر فى جذب العديد من الصناعات والشركات العالمية خلال الفترة الماضية منها صناعات السيارات والأجهزة الكهربائية وصناعات مواد البناء، كما أن ملف الصناعة يأتى على رأس أولويات الحكومة فى هذه المرحلة، والحكومة تسعى إلى العمل على زيادة معدلات الإنتاج وخفض تكاليف التشغيل، بهدف تعزيز تنافسية المنتجات الوطنية فى إطار تحقيق رؤية الدولة لزيادة الصادرات إلى 100 مليار دولار بحلول 2030».
«الزيات»، أشار إلى أن «الحكومة تحاول إيجاد آلية بين البنك المركزى المصرى ووزارة المالية لتخفيف الأعباء عن كاهل المصانع والمصنعين وزيادة تنافسية المنتجات المحلية، خاصة أن أكثر من 90 فى المائة من مستلزمات الإنتاج يتم استيرادها من الخارج»، لافتا إلى أن الحكومة تستهدف خفض أسعار الفائدة إلى 15 فى المائة وإيجاد حلول لتشغيل المصانع بكامل طاقتها وإعادة تشغيل المصانع المتعثرة لمضاعفة حجم الإنتاج، وبالتالى زيادة الصادرات وتلبية احتياجات الأسواق المحلية من السلع بأسعار مناسبة للمستهلكين.
كما أشاد عضو جمعية رجال الأعمال المصريين، بجهود الحكومة فى فتح ملف المصانع المتعثرة من خلال إعادة تشغيل نسبة 14 فى المائة من المصانع المتعثر من إجمالى 7600 مصنع متعثر، بالإضافة إلى هيكلة القطاع الصناعى خاصةً فيما يتعلق بتحقيق العدالة فى استهلاك الموارد، مثل أسعار الطاقة والمياه.
«الزيات» أشار إلى هيكلة منظومة الطاقة وإقرار حزمة من التسهيلات والحوافز الضريبية والمالية للشركات الصغيرة والمتوسطة، وذلك بالتوازى مع التوسع فى إنشاء المناطق الصناعية، وتطوير منظومة الجمارك والإفراج عن البضائع، مؤكدا أن «الحكومة تعول كثيرا على مشروعات التحول الرقمى وميكنة الإجراءات فى محاربة البيروقراطية وتحقيق العدالة والشفافية والتيسير على المستثمرين خاصةً فى محاسبة المصانع على استهلاكها من الطاقة والمياه، مما يسهم فى تشجيع الاستثمار».
فى حين أكد الدكتور كريم عادل، الخبير الاقتصادى، أن الإعلان عن عودة عمل الكثير من المصانع مع تعظيم دور المناطق الصناعية يمثل توجه الدولة نحو تعميق الصناعة، حيث إن الجانب الآخر المهم يتمثل فى أن استغلال أراضى المناطق الصناعية لن يقتصر على الجانب المالى فقط، بل سيؤدى إلى خلق فرص عمل جديدة من خلال إقامة مشروعات صناعية ومناطق تشغيلية على هذه المساحات.
«د. كريم»، أوضح أن الأراضى التى كانت مخصصة للصناعة الثقيلة يمكن أن تتحول إلى مناطق متعددة الاستخدام، تضم صناعات جديدة صديقة للبيئة، وبهذا الشكل تتحول الأصول غير المستغلة إلى رافعة للنمو وتوليد موارد مستدامة للدولة، مضيفًا أن «نجاح الدولة فى استغلال أراضى المناطق الصناعية بالمحافظات يرتبط أيضًا بقدرتها على تحقيق التوازن بين الحفاظ على الطابع الصناعى للمنطقة من جهة، والاستفادة من الموقع المتميز فى إقامة أنشطة أخرى من جهة ثانية، وهذا التوازن سيعكس وعيا اقتصاديا واستراتيجيا بضرورة تعظيم العائد من الأصول، دون إهدار القيمة التاريخية للصناعة الوطنية التى ارتبطت بهذه الشركة لعقود».

