«مانديلا فلسطين»، مروان البرغوثى (67 عامًا) الذى قضى من عمره 23 عامًا فى سجون الاحتلال الإسرائيلي. مروان قائد المقاومة الذى لم تغِب صورته أبدًا عن الشعب الفلسطيني، رغم سنوات اعتقاله الكثيرة، فهو الفتى الذى انضم لصفوف المقاومة فى حركة «فتح» وهو فى سن الخامسة عشرة، والذى ذاق مرارة السجون الإسرائيلية للمرة الأولى عندما بلغ الثامنة عشر من عمره، والتى تكررت مرات ومرات، حتى كانت الأخيرة عام 2002، والمستمرة حتى الآن.
قبل أيام خرجت علينا بعض المواقع الإسرائيلية بفيديو، لم تتجاوز مدته 13 ثانية، يظهر فيه مروان البرغوثى فى محبسه الانفرادي، وأمامه وزير الأمن القومى المتطرف الفاشى، إيتمار بن غفير، ومعه بعض من مساعديه، يقول بن غفير لمروان بطريقة استفزازية: «لن تنتصروا.. مَن يؤذى شعب إسرائيل.. من يقتل الأطفال.. من يقتل النساء، سنمحوه من الوجود.. أنت تعلم ذلك، هذا ما حدث على مر التاريخ».
هذا الفيديو أثار غضب الفلسطينيين، وكل مَن يؤمن بحقوق الإنسان والأسرى فى محبسهم، بن غفير الوزير المسئول عن السجون فى إسرائيل، مستغلًا سلطاته، يهدد الأسير مروان البرغوثى بالقتل، وأنه سيمحوه من الوجود.
وما أثار حفيظة الفلسطينيين ما بدا عليه مروان البرغوثى من ضعف وهزال ونقصان كبير فى وزنه، وتغير كبير فى ملامحه، مما يدل على تعرضه للتعذيب والتجويع والتكدير والحبس الانفرادى منذ عامين.
زوجة مروان، فدوى البرغوثى، المحامية، أعربت عن صدمتها، عندما شاهدت الفيديو، وقالت إنها للوهلة الأولى لم تتعرف على زوجها، لما بدا عليه من إنهاك وضعف وجوع غيّرت ملامح وجهه. واتهمت بن غفير بالتهديد المباشر لمروان بإعدامه، وذلك فى بيان صادر عن أسرته، ولدى مروان ثلاثة أولاد وبنت. أكبرهم «قسام»، حيث يطلقون على مروان بأنه «أبو القسام»، ولم يسمح بزيارة والدهم إلا مرات شحيحة، بينما لم يسمح لأحفاده مطلقا بالزيارة.
نائب الرئيس الفلسطينى، حسين الشيخ، الذى قام بزيارة أسرة مروان وتقديم الدعم لها، قال إن ما فعله بن غفير هو قمة الإرهاب النفسى والمعنوى والجسدى الذى يُمارس ضد الأسرى، ووصفه بالانفلات غير المسبوق من حكومات الاحتلال الإسرائيلية ضد الأسرى الفلسطينيين، وطالب بتدخل المنظمات والهيئات الدولية لوقف هذا العصف بالقانون الدولى واتفاقية جنيف والمواثيق والأعراف الدولية الإنسانية من قِبل إسرائيل وتوفير الحماية للأسرى الفلسطينيين.
ووصفت حركة حماس اقتحام زنزانة البرغوثى وتهديده بالقتل، بأنه «استعراض جبان، يكشف عن فاشية الاحتلال وعدائه للقيم الإنسانية، وأن هذا لن ينال من عزيمة وصلابة المناضل مروان البرغوثي، بل سيزيده إصرارا على مواصلة نضاله المشروع من أجل حرية شعبه وكرامته، وسيزيد من وحدة الحركة الأسيرة فى مواجهة سياسات القمع والتنكيل الممنهج التى تمارسها إدارات الاحتلال».
لماذا مروان البرغوثي؟ ما الذى يزعج الإسرائيليين يمينًا ويسارًا من رجل أمضى ما يقرب من نصف عمره فى السجن والمنفى؟ وما ردود الفعل على فيديو بن غفير فى زنزانة البرغوثى وتهديده له؟
ملحوظة عابرة: الاحتلال عرض ما قاله بن غفير، ولكنه لم يعرض رد البرغوثي، هل كان رده مزعجًا إلى حد إخفائه؟ ترى ماذا قال البرغوثى؟
يستحق مروان البرغوثى، ابن قرية كوبر، التابعة لمحافظة رام الله فى الضفة الغربية، لقب القائد والزعيم.. تاريخ حافل من النضال والعمل المنظم، والبحث عن خلق وسائل متعددة وجديدة للمقاومة، وقبل ذلك يتمتع البرغوثى بشخصية كاريزمية قادرة على الإقناع والقيادة، واستطاع أن يكسب حب وود غالبية الفلسطينيين، حتى مَن ينضمون تحت لواء فصائل أخرى، حتى ولو كان بينهم وبين «فتح» خلاف.
فى استطلاعات الرأى التى تجريها بعض المراكز البحثية الفلسطينية على مَن يكون الرئيس القادم للسلطة، كان البرغوثى يحصل على أعلى الأصوات، شخص قوى مؤمن بقضيته، لم يسعَ إلى جاه أو مال، بل دفع ثمن نضاله مرات ومرات بالسجن ومرات بالنفى إلى الأردن لـ7 سنوات، منذ كان فى المدرسة (15 عاما) انضم لحركة فتح، كبرى حركات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، وزعيمها ياسر عرفات، وشارك فى المظاهرات ضد الاحتلال، وكانت المرة الأولى لاعتقاله وهو فى سن الثامنة عشرة عام 1976، واستطاع استكمال دراسته الثانوية فى السجن، والتحق فيما بعد بجامعة بير زيت وحصل على البكالوريوس فى التاريخ والعلوم السياسية، ثم على الماجستير فى العلاقات الدولية، وعمل محاضرا فى الجامعة، وأسس حركة الشبيبة الفتحاوية لتجديد دماء فتح، وكان أصغر عضو تم انتخابه فى المجلس الثورى لحركة فتح الذى يضم 50 عضوا، وهو واحد من أبرز وأهم قادة الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال (انتفاضة الحجارة) عام 1987، وعلى أثرها تم إبعاده إلى الأردن وظل مبعدًا لسبع سنوات، وعاد للضفة مع اتفاقية أوسلو عام 1994، وفى اجتماع لقيادة فتح برئاسة فيصل الحسينى تم انتخابه بالإجماع نائبًا للحسينى فى أول انتخابات للمجلس التشريعى الفلسطينى عام 1996 نجح وأصبح نائبا، وتقلد البرغوثى منصب أمين سر حركة فتح فى الضفة الغربية، وكان يقود حركة إصلاح داخل فتح لمحاربة الفساد وكذلك فى منظمة التحرير الفلسطينية، كما كان متبنيا لفكرة توحيد الفصائل الفلسطينية وضرورة انضمام كل الفصائل إلى منظمة لتحرير بما فيها حماس والجهاد، وفى عام 2000 قامت الانتفاضة الثانية بعد اقتحام أرئيل شارون المسجد الأقصى مع قوة عسكرية مدججة بالسلاح، وكان البرغوثى قائد تلك الانتفاضة. وألقت إسرائيل القبض عليه عام 2002، ووجهت إليه اتهاما بأنه مَن أنشأ كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكرى لحركة فتح، وأنه المسئول عن العمليات إلى قامت بها ضد الجنود وضد المدنيين، ولم تتوافر لمحاكمته الظروف الطبيعية المفترضة لتحقيق العدالة، وصدر الحكم عليه عام 2004 بـ5 مؤبدات و40 سنة، وهو ما يعنى السجن مدى الحياة، وكانت وقفة مروان صلبة فى المحكمة قد أضافت لشعبيته جماهيرية، وأصبحت صورته المطبوعة لدى الفلسطينيين، وهو فى المحكمة يرفع يديه المكبلتين بعلامة النصر، وهى الصورة التى كتب عنها المحرر السياسى لصحيفة هآرتس الإسرائيلية «الوف بن» إنها الصورة التى تؤرق نتنياهو، أو -كما كتب- تخيفه أكثر من أى شيء آخر، وتردعه عن صفقة شاملة لتبادل الأسرى مع حماس، لتخيلت القيادى البارز فى فتح يخرج من السجن يرفع أصابعه بعلامة النصر، ويصبح بطل العالم المؤقت، منذ بداية الحرب أراد نتنياهو تجنب صفقة «الكل مقابل الكل».
وأشار «الوف بن» إلى أن «الاعتراف بالدولة الفلسطينية أصبح موضة، ولكل قصة بطل، والبرغوثى يمثل جيلا آخر، وله سجل مثبت كقائد للمقاومة، واعتراف دولى وصورة جاهزة لمانديلا الجديد، وإذا أُطلق سراحه فسيصبح فورًا الخصم الأساسى لنتنياهو فى العالم حيال تصاعد الضغط الدولى على إسرائيل والتمرد الصامت فى الجيش، فمن المشكوك فيه أن ينجح نتنياهو فى مخطط الترحيل الجماعى للفلسطينيين، لكنه سيواصل إفشال الصفقة التى قد تطلق من السجن زعيم فلسطين المستقبلية».
ويفسر الكاتب سبب قبول نتنياهو الإفراج عن يحيى السنوار عام 2011 ضمن صفقة الإفراج عن الجندى جلعاد شاليط ورفضه الإفراج عن البرغوثى؛ لأن البرغوثى كان نجما دوليا وله شعبية فلسطينية، ويمثل مانديلا الفلسطينيين، وسيقدم كوجه الدولة الفلسطينية والأمل الكبير لإنهاء مشروع الاحتلال والسلب ونظام الفصل العنصرى، بينما الإفراج عن السنوار لا يمس صورته، فهو بالفعل الشخصية الأقوى فى حماس، ولكنه لم يكن معروفًا سوى للأجهزة.
هل نشر فيديو لقاء بن غفير بالبرغوثى مخطط لتقديمه فى صورة مختلفة لجمهوره؟ وهل عمليات التنكيل التى تعرض لها بصورة مفزعة منذ أحداث أكتوبر 2023 تستهدف القضاء عليه؟ فكما قالت فدوى البرغوثى إنه فى سجن انفرادى، وتنقل بين أربعة سجون، وتعرض للضرب والتعذيب عدة مرات، طبقا لرواية لجنة الدفاع عنه حيث لم يسمح لها ولأولاده بزيارته منذ 3 سنوات. وإنه أُصيب منذ أشهر عندما تعرض لضرب مبرح فى عينه ووجهه وكسور فى الضلوع، وكما جميع الأسرى الفلسطينيين، يعانى من التجويع مما أفقده الكثير من وزنه.
رئيس نادى الأسير الفلسطينى، عبدالله الزغارى، صرح بأن تهديد الوزير بن غفير للقائد الوطنى مروان البرغوثى يشكل إعلانًا عن نوايا الاحتلال فى تصفية واغتيال القادة القابعين فى سجونه، فى ظل ما يتعرض له الأسرى من جرائم غير مسبوقة منذ بدء حرب الإبادة فى غزة، وأعرب عن مخاوفه إزاء مصير البرغوثى، وطالب المنظمات الدولية بالاضطلاع بدورها ووقف هذه الجرائم ضد الأسرى.
المؤكد أن حياة البرغوثى فى خطر، والاحتلال الإسرائيلى الذى قتل أكثر من 60 ألف فلسطينى فى الحرب على غزة، بينهم أكثر من 20 ألف طفل، والذى يمارس عمليات القتل بالتجويع، واغتال العديد من القادة خلال السنوات الماضية وعلى رأسهم ياسر عرفات، ولم يتعرض ولو مرة واحدة للعقاب -ليس لديه أى رادع يمنعه من قتل البرغوثى، ولكن البرغوثى، حيًّا أو شهيدًا، سيظل إحدى أيقونات النضال الفلسطينى، وستظل صورته وهو يرفع يديه المكبّلتين بالنصر تخيف هؤلاء القتلة وتبثّ فى نفوسهم الرعب.. فى كل يوم يولد بين الفلسطينيين آلاف مروان البرغوثي، نعم «شعب الجبارين».