فى ظل تصاعد حدة العمليات العسكرية فى أوكرانيا، أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عزمه لقاء نظيره الروسى فلاديمير بوتين يوم الجمعة المقبل فى ولاية ألاسكا، وأعرب ترامب عن أمله فى أن يسهم توليه زمام المبادرة فى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ملمحًا إلى أن اتفاق السلام المحتمل بين روسيا وأوكرانيا قد يتضمن “تبادل بعض الأراضي”، من جانبه، قال الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى إن بلاده منفتحة على حلول واقعية تحقق السلام، لكنه شدد على أن أى تسوية تستثنى كييف ستكون ضد السلام، ويبقى السؤال: هل تنجح القمة المقبلة فى إنهاء أعنف صراع تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية؟
أكد الكرملين بالفعل عقد قمة بين الرئيس بوتين ونظيره الأمريكى ترامب يوم الجمعة المقبل فى ألاسكا، واصفًا اختيار هذا المكان بأنه “منطقى تمامًا”، نظرًا للقرب الجغرافى بين البلدين واشتراكهما فى الحدود عبر مضيق بيرنج. ووفقًا لمستشار بوتين للشئون الخارجية، يورى أوشاكوف، فإن الزعيمين سيركزان على مناقشة الخيارات المطروحة لتحقيق حل سلمى طويل الأمد للأزمة الأوكرانية، كما وجه الكرملين دعوة للرئيس ترامب لزيارة روسيا بعد لقائه المرتقب مع بوتين. وقد سعى ترامب جاهدًا لإصلاح العلاقات مع موسكو ومحاولة إنهاء الحرب، على الرغم من تباين تصريحاته العلنية التى تراوحت بين الإعجاب ببوتين والانتقاد اللاذع له. ومنذ اندلاع الحرب، لم يُعقد أى لقاء قمة بين الزعيمين الأمريكى والروسى منذ اجتماع بوتين مع نظيره الأمريكى الأسبق جو بايدن فى جنيف فى يونيو 2021، وهو ما يضفى أهمية استثنائية على القمة المقبلة.
وجاء الإعلان عن هذا اللقاء التاريخى بعد أن أجرى المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف محادثات استمرت ثلاث ساعات مع بوتين فى موسكو، وصفت بأنها “مثمرة وبنّاءة”، وهى الأحدث فى سلسلة من الجهود الدبلوماسية المكثفة منذ أن أصدر البيت الأبيض إنذاراً نهائياً لروسيا، إما بالموافقة على وقف إطلاق النار فى أوكرانيا أو مواجهة عقوبات جديدة فور انتهاء المهلة المحددة. ويأتى ذلك بعد أن عقدت روسيا وأوكرانيا عدة جولات من المفاوضات فى إسطنبول، لكنها جميعًا فشلت فى التوصل إلى اتفاق نهائى لوقف إطلاق النار، بسبب اتساع هوة الخلافات بين موسكو وكييف.

وفى هذا السياق، أوضح الدكتور أديب السيد، الخبير فى الشئون الروسية والعلاقات الدولية، فى تصريحات خاصة لمجلة “المصور” أن ترامب كان بحاجة أكبر إلى لقاء ويتكوف ومباحثاته فى الكرملين، مقارنة بحاجة القيادة الروسية لهذا اللقاء، وأرجع ذلك إلى أن ترامب وضع نفسه فى موقف صعب عندما وجه إنذارًا لموسكو بضرورة إنهاء الحرب بحلول الثامن من أغسطس، وهو ما جعل مباحثات ويتكوف فى الكرملين تمنحه وقتًا إضافيًا للتعامل مع روسيا، بعدما أدرك أن لغة الإنذارات لا تجدى نفعًا مع القيادة الروسية، ولم تسفر سوى عن الإعلان عن لقاء مرتقب بين بوتين وترامب، يتطلب تحضيرًا كبيرًا، خاصة إذا كان من الممكن أن يتطور إلى لقاء ثلاثى يضم الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى.
ويرى «أديب» أن اللقاء المرتقب بين ترامب وبوتين لن يؤدى إلى معالجة سريعة للنزاع أو وقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكنه سيكون مخصصًا لمناقشة الأفكار التى يمكن أن تشكل أرضية لتسوية النزاع على أساس تنازلات متبادلة بين الطرفين، بضمانة أمريكية، وبشرط التزام الاتحاد الأوروبى بها. ويؤكد أن روسيا قد تكون مستعدة لتقديم تنازلات مهمة، لكنها لن تشمل التخلى عن الأقاليم الأربعة التى أعلنت ضمها إلى أراضيها، وهى دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا، إضافة إلى شبه جزيرة القرم التى ضمتها عام 2014. أما التنازلات الروسية المحتملة فقد تتعلق بالانسحاب من المنطقة الأمنية التى تعمل على إقامتها فى إقليم سومى ونيقولايف وحتى خاركوف، وهى أراضٍ تسعى موسكو لتعزيز وجودها العسكرى فيها دون نية لضمها. كما يمكن أن تقدم روسيا مساعدات اقتصادية كبيرة لأوكرانيا، بما فى ذلك منح قروض ميسرة للغاية وتزويدها بالنفط والغاز بأسعار رمزية أقل من أسعار السوق المحلية الروسية، إلى جانب استعداد الشركات الروسية للمشاركة فى إعادة إعمار أوكرانيا واستثمار أكثر من 100 مليار دولار فى اقتصادها خلال فترة لا تتجاوز 15 عامًا.
فى المقابل، ستطالب موسكو كييف بعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى، وعدم السماح بنشر قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، والالتزام بسياسة الحياد، أى عدم الانضمام لأى قوة أو تحالف معادٍ لروسيا فى المستقبل، والتخلى تمامًا عن أى مطالب إقليمية تجاه موسكو. وعلى المدى البعيد، وفى حال تجاوب أوكرانيا مع المطالب الروسية، فإن روسيا ستكون مستعدة لدعم انضمامها إلى منظمة شنغهاى للتعاون، ومجموعة بريكس، والاتحاد الأوراسى، واللجنة الاقتصادية الأوراسية، ما يفتح أمامها آفاقًا واسعة للتعاون الاقتصادى ضمن محيطها الجغرافى الطبيعى.
وفى ختام حديثه، أشار «أديب» إلى أن روسيا تدرك أن ترامب، الساعى للحصول على جائزة نوبل للسلام، يرغب فى التوصل إلى وقف فورى لإطلاق النار دون شروط، لكن موسكو لن توافق على ذلك إلا إذا ارتبط بمعاهدة سلام طويلة الأمد، تلتزم بموجبها واشنطن والاتحاد الأوروبى بعدم تزويد أوكرانيا بالأسلحة الهجومية، خصوصًا الصواريخ بعيدة المدى. ويبدو واضحًا أن قمة واحدة بين الزعيمين لن تكون كافية لإنجاز عملية التسوية، التى تحتاج إلى توافر شروط كثيرة لنجاحها. كما لا يمكن تجاهل موقف دول الاتحاد الأوروبى، التى لا ترغب فى وقف الحرب إلا إذا حرمت روسيا من أى إنجاز عسكرى أو سياسى فى ختامها، وهى مستعدة لمواصلة تقديم الدعم المالى والعسكرى لكييف لإطالة أمد الصراع. وهذا التباين فى الرؤى بشأن سبل إنهاء النزاع سيحول دون تحقيق تسوية سريعة، فيما ستواصل القوات الروسية والأوكرانية تصعيد العمليات العسكرية خلال الأيام القليلة المقبلة، بهدف دخول المفاوضات المرتقبة بأوراق قوة.
