رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

د. جمال شقرة: «ناصر والسيسى».. قيادة بقوة أمة


23-7-2025 | 23:29

الدكتور جمال شقرة.. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

طباعة
حوار: سناء الطاهر

 

التاريخ المصرى الحديث، مليء بالمحطات الاستثنائية، التى تمثل لحظات فارقة لبلادنا، وتحولات كبرى تعيد رسم ملامح الهوية الوطنية وتوجهات النظام السياسى.. من بين تلك اللحظات البارزة، تقف ثورتا 23 يوليو 1952 و30 يونيو 2013 كعلامتين بارزتين فى مسيرة الوطن العزيز، إذ لم تكونا مجرد انفجارات غضب جماهيرى عابر أو تمردات محدودة على أوضاع سلبية قائمة، بل كانتا فى جوهرهما تعبيرًا عن إرادة شعبية تسعى للتخلص من الفساد والاستبداد، فى الوقت نفسه، تأمل فى تحقيق الكرامة والاستقلال والعدالة.

حول أوجه التشابه والاختلاف بين الثورتين، ودلالاتهما السياسية والاجتماعية والتاريخية، وأثرهما فى الوعى الجمعى المصرى، نحاور الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، الذى يقدم لنا قراءة عميقة لكلتا الثورتين من زوايا متعددة، مستندًا إلى خلفيته الأكاديمية وخبرته فى قراءة التحولات الكبرى فى تاريخ مصر.

فى البداية.. صف لنا ماهية ثورتى 23 يوليو و30 يونيو؟

كلتاهما تمثلان محطتين فارقتين فى التاريخ المصرى، وتعكسان فى جوهرهما قدرة الشعب على التجدد ومواجهة التحديات الكبرى.. فثورة يوليو كانت بمثابة ولادة جديدة للدولة المصرية بعد عقود من الاستعمار والملكية والتمييز الطبقى، وقادها الضباط الأحرار بقيادة الزعيم الراحل عبدالناصر، لتؤسس نظامًا جمهوريًا جديدًا يحمل شعارات التحرر الوطنى والاستقلال التام والعدالة الاجتماعية.

أما ثورة يونيو، فهى جاءت بعد مرحلة من الاضطراب السياسى والانقسام المجتمعى الذى تلى أحداث 25 يناير 2011، وكانت تعبيرًا شعبيًا هائلًاً عن رفض مشروع جماعة الإخوان الارهابية، الذى كان يستهدف اختطاف الدولة لحساب تنظيم لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا بالمواطنة.. لذلك، فإن 30 يونيو لم تكن مجرد انتفاضة ضد نظام حكم، بل كانت إنقاذًا للدولة نفسها من الانهيار، وكانت بمثابة تصحيح لمسار ثورة يناير، وتأكيدًا جديدًا على أن الشعب المصرى هو مصدر الشرعية.

لماذا ثورة 23 يوليو حاضرة حتى اليوم فى وجدان المصريين؟.. وهل ينطبق الأمر نفسه على 30 يونيو؟

ثورة يوليو حاضرة لأنها ارتبطت بمشروع تنموى ومجتمعى شامل، غيّر حياة الناس، لا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة.. لأول مرة شعر الفلاح والعامل والموظف الصغير أنه جزء من بلاده، وأن له حقوقًا، وليس فقط واجبات. وتم إلغاء الإقطاع، وتمصير الشركات، وبُنى السد العالى، وتم دعم التعليم والصحة، وامتلك المصريون لأول مرة مؤسساتهم الاقتصادية.. كما أن شخصية «ناصر»، بما حملته من كاريزما وطنية، وتركيزه على القضايا القومية مثل فلسطين والتحرر من الاستعمار، جعلته رمزًا باقيًا فى الوجدان العربى والمصرى.

فى المقابل، استطاعت ثورة 30 يونيو - رغم حداثتها، أن تحفر لنفسها مكانًا فى الوعى الشعبى، لأنها أنقذت مصر من مصير غامض مجهول.. ففى هذه الثورة لم تخرج الجماهير فقط ضد الإخوان، بل خرجت دفاعًا عن نمط حياة، عن مدنية الدولة، عن الاعتدال والتعددية، ولهذا، أعتقد أنه ومع مرور الزمن، سيثبت التاريخ أن 30 يونيو ستظل علامة بارزة فى ذاكرة الأمة.

ما أبرز أوجه الشبه بين المناخ السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى سبق الثورتين؟

المناخ العام الذى سبق كل من ثورتى 23 يوليو 1952 و30 يونيو 2013، يحمل فى طياته أوجه شبه واضحة، لا سيما على مستويات السياسة والاقتصاد والمجتمع.

ففى حالة ثورة 23 يوليو، كانت مصر تحت سلطة الاحتلال البريطانى منذ أكثر من سبعين عامًا، وكان هذا الاحتلال لا يكتفى بالهيمنة السياسية والعسكرية، بل كان يتحكم فى الاقتصاد المصرى عبر امتيازات واسعة ومصالح اقتصادية مباشرة، أبرزها السيطرة على قناة السويس ومقدرات مصر الزراعية.. فى الوقت نفسه، كان الملك فاروق، الذى يمثل رأس النظام الملكى، متهمًا بالفساد والانحياز للفئة الأرستقراطية، بينما كانت الغالبية الساحقة من الشعب تعيش تحت خط الفقر، تعانى من الجهل والمرض وسوء التغذية، النظام الصحى شبه غائب، والتعليم مقتصر على طبقات بعينها، الإقطاعيون يملكون الأرض والسلطة، بينما الفلاحون لا يملكون إلا أجسادهم وأحلامهم.

أما فى الجانب السياسى، فكانت الحياة الحزبية تُدار بشكل شكلى، والإرادة الشعبية مهمشة تمامًا، القوى الوطنية تقمع، والمظاهرات تواجه بالسجن والنفى.. ومن رحم هذه الظروف، تشكل وعى ثورى داخل الجيش تحديدًا، لدى فئة من الضباط الوطنيين الذين شعروا أن عليهم واجبًا تاريخيًا تجاه أمتهم، فانطلقت ثورة 23 يوليو من رحم هذه المعاناة لتغير وجه مصر.

على الجانب الآخر، تكررت بعض هذه الظروف بشكل مختلف عشية ثورة 30 يونيو.. فعقب ثورة يناير التى أطاحت بنظام مبارك، تولت جماعة الإخوان الإرهابية الحكم عبر انتخابات، لكنها ما لبثت أن دخلت فى صراع مع مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى ككل، وسعت إلى السيطرة على مفاصل الدولة بأسلوب الإقصاء والتمكين.. انهارت الثقة الشعبية فى القيادة السياسية، خصوصًا بعد أن بدا واضحًا أن الرئيس الأسبق محمد مرسى لم يكن صاحب القرار الحقيقى، بل إن مكتب الإرشاد هو من يُدير البلاد، الأمر الذى شكّل تهديدًا مباشرًا لفكرة الدولة الوطنية.

اقتصاديًا، كانت مصر تمر بأزمة خانقة، هبطت فيها مؤشرات النمو، وتراجعت قيمة الجنيه، وتوقفت العديد من المشاريع، وتفشت البطالة، الخدمات العامة أصبحت عاجزة، والانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه أصبح جزءًا من الحياة اليومية.

أما أمنيًا، فقد عاشت مصر وشعبها حالة من الفوضى والانفلات، خصوصًا فى شبه جزيرة سيناء، مع تنامى أعمال العنف الطائفى، واستهداف الشرطة والقضاء، وارتفاع وتيرة الإرهاب ضد رجال القوات المسلحة.. وعلى المستوى الاجتماعى، سادت حالة من الاحتقان الطائفى والتخوين والفرز السياسى الحاد بين المواطنين.

بالتالى، فإن القاسم المشترك بين الثورتين أن كليهما جاءا فى ظل أوضاع سياسية مأزومة، واقتصاد منهك، ونظام اجتماعى مهدد بالتفكك.. ومع اختلاف التفاصيل والسياقات، فإن المِزاج العام للمجتمع كان يُنذر بانفجار محتوم، نتيجة تراكم الأزمات وتراجع الثقة الشعبية، وهو ما حدث بالفعل، إذ خرجت الجماهير فى كلتا الحالتين تطالب بالتغيير الجذرى، لا الترميم، وهذا ما يجعل الثورتين تبدوان – رغم الفارق الزمنى – استجابة طبيعية لمجتمع قرر أن يقول كلمته فى لحظة مِفصلية.

إذًا.. هل يمكن القول إن الغضب الشعبى كان عاملاً مشتركًا بين الثورتين؟

نعم، فالغضب الشعبى هو المحرك الأول لأى ثورة حقيقية، وهو ما يميز الثورات عن الانقلابات أو التمردات.. ففى 1952، لم يكن الشعب قادرًا على التغيير بشكل مباشر بسبب القبضة الأمنية، لكن تأييده السريع للضباط الأحرار بعد نجاحهم يوضح حجم الغضب الكامن فى النفوس.. بينما فى العام 2013، انفجر هذا الغضب فى الشوارع، فى صورة مسيرات ومظاهرات حاشدة غير مسبوقة، شملت كل محافظات مصر، ما يؤكد أن الثورة كانت قرارًا شعبيًا بامتياز.

ما هى أوجه الشبه والاختلاف بين القوى المحركة لثورة 23 يوليو «الضباط الأحرار» وثورة 30 يونيو «الشباب والطبقة الوسطى»؟

رغم الفارق الزمنى بين الثورتين، تكشف المقارنة بين القوى المحركة لهما عن تشابهات بنيوية واختلافات جوهرية ترتبط بتطور السياق الاجتماعى والسياسى، وتحولات الدولة المصرية.

ففى 23 يوليو، لم يكن المحرك الأساسى تنظيمًا شعبيًا، بل نخبة عسكرية مصرية، وهم «الضباط الأحرار»، وهو تنظيم سرى تشكّل فى الجيش بعد نكبة 1948، ضم ضباطًا من الطبقة الوسطى تربوا على قيم وطنية، وشهدوا تدهور الدولة الملكية وفسادها وارتهانها للمستعمر البريطانى، لذلك آمنوا بأن عليهم مسؤولية إنقاذ الوطن من التبعية للخارج والانهيار من الداخل.

أما ثورة 30 يونيو، فقد جاءت مدفوعة بحراك شعبى واسع قادته قوى شبابية ومدنية خرجت من رحم ثورة يناير، وامتدّ سريعًا ليشمل قطاعات من الطبقة الوسطى، رأوا فى حكم جماعة الإخوان الارهابية تهديدًا لهوية الدولة ومؤسساتها.. هذه القوى واجهت مشروعًا إقصائيًا أراد السيطرة على مفاصل البلاد، فتحركت بوعى أكبر عن 25 يناير، وتحالفت مع الجيش لإنقاذ مصرنا العزيزة.

وفى 23 يوليو، كان الجيش هو صاحب المبادرة، والتحق به الشعب لاحقًا.. أما فى 30 يونيو، فكان الشعب هو صاحب المبادرة، واستجابت له المؤسسة العسكرية فى لحظة فارقة.. وبالتالى فالجيش - فى الحالتين، كان حاضرًا بقوة: مبادرًا فى الأولى، وحاميًا لإرادة الشعب فى الثانية.

وتشابهت القوتان فى انتمائهما للطبقة الوسطى، المحرك التقليدى للتغيير فى مصر، وفى كونهما رد فعل على لحظة تهديد خطيرة للدولة، إما من استعمار خارجى، أو من مشروع أيديولوجى عابر للحدود.

أما أبرز أوجه الاختلاف، فتكمن فى طبيعة الحراك.. فكانت يوليو حركة منظمة من داخل الجيش، بقيادة واضحة (عبدالناصر ورفاقه)، نفذت تغييرًا من الأعلى إلى الأسفل.. بينما يونيو كانت حركة جماهيرية واسعة، بلا قيادة موحدة، متعددة الرؤى، اعتمدت على الحشد الشعبى ومواقع التواصل، وتحركت من القاعدة إلى القمة.

الضباط الأحرار لم تكن لديهم خبرة ديمقراطية، فاتجهوا لبناء نظام مركزى قائم على الزعامة والكاريزما، فى حين أن قوى 30 يونيو كانت تطمح إلى نظام ديمقراطى تعددى، لكنها افتقرت للآليات الكافية لتحقيقه منفردة، فلجأت إلى الجيش كحاضن للمشروع الوطنى.

فى النهاية، مثّلت كل من ثورة الضباط الأحرار وثورة الشباب المدنى، صوت الأمة فى لحظة أزمة، ومع اختلاف الأساليب والظروف، يبقى الرابط الأساسى أن كليهما حال دون انهيار الدولة، وأن الجيش كان فى المرتين عاملاً حاسمًا فى إنقاذ الهوية الوطنية، بدعم من قوى داخلية مؤمنة بمصير الوطن.

هل هناك نقاط التقاء فى النتائج طويلة المدى لكل من الثورتين على صعيد الهوية الوطنية أو الاستقلال السياسى؟

بالتأكيد، الثورتان رسختا الهوية الوطنية بشكل واضح.. فثورة 23 يوليو نقلت مصر من دولة تابعة إلى دولة مستقلة، وطرحت مشروعًا قوميًا تحرريًا امتد تأثيره إلى كل العالم العربي.. أما 30 يونيو، فقد واجهت مشروعًا غير وطنى حاول محو هذه الهوية، وأعادت التأكيد على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، دولة المواطنة والقانون.

كما أن كلتا الثورتين دفعتا باتجاه استقلال القرار السياسى المصرى، بعيدًا عن أى تبعية خارجية، سواء كانت استعمارًا مباشرًا كما فى حالة يوليو، أو خضوعًا لتنظيم دولى كما فى حالة الإخوان الإرهابية.

وكيف أثرت كل ثورة منهما على شكل النظام السياسى فى مصر بعدها؟

يوليو غيّرت النظام بالكامل، من ملكى إلى جمهورى، وأنشأت نظامًا جديدًا يقوم على الاشتراكية والدولة المركزية، وسعت إلى بناء مؤسسات حديثة.. أما يونيو، فقد حافظت على الإطار الجمهورى، لكنها دشّنت ما يمكن تسميته بالجمهورية الجديدة، التى تضع على عاتقها تطوير الدولة بشكل شامل: بنية تحتية، إصلاح إدارى، سياسة خارجية متوازنة، وعدالة اجتماعية برؤية معاصرة.

إلى أى مدى ساهمت الثورتان فى بناء الوعى الوطنى المصرى؟

ساهمت بشكل كبير.. فبعد 23 يوليو، ازدهرت الثقافة الوطنية، وبرزت رموز سياسية وفكرية وأدبية لعبت دورًا فى تشكيل وجدان المواطن، التعليم أصبح أداةً لنقل القيم القومية، والإعلام لعب دورًا تعبويًا.

أما بعد 30 يونيو، فقد حدث تحول فى فهم الناس لمعنى الدولة، وعرف المواطن الفرق بين الدين والدولة، والدين والسياسة، وأصبح هناك وعى بضرورة حماية مؤسسات الدولة من التوظيف الطائفى.

فى رأيك.. ما أبرز التحديات التى واجهت كلتا الثورتين؟

فى يوليو، كان التحدى الأكبر هو مقاومة الاحتلال البريطانى، والعدوان الثلاثى لاحقًا، ومواجهة القوى الإقطاعية.. بينما فى يونيو، كان التحدى الأكبر هو الإرهاب، والانقسام المجتمعى، والهجوم الخارجى على مصر من وسائل إعلام وقوى سياسية دولية.

أخيرًا... هل ترى أن الثورتين تمثلان محطات متصلة فى مسار واحد؟

نعم، بكل تأكيد.. ثورة 23 يوليو كانت الانطلاقة الكبرى لميلاد الدولة الوطنية الحديثة، حين تصدى الزعيم الخالد عبدالناصر لقوى الاحتلال والفساد والتبعية، رافعًا رايات التحرر والسيادة والاستقلال، فغرس فى وجدان المصريين أول مشروع وطنى جامع فى العصر الحديث، ظل حيًّا فى الوعى الجمعى للأمة.

ثم جاءت ثورة 30 يونيو، بعد أكثر من ستة عقود، لتُعيد تصحيح المسار، عندما خرج الشعب المصرى مدافعًا عن هوية دولته ومؤسساتها فى وجه مشروع ظلامى حاول اختطاف الوطن، وفى لحظة تاريخية فارقة، انحازت القوات المسلحة بقيادة القائد الوطنى الجسور، الرئيس عبدالفتاح السيسى، إلى صوت الشعب، ليقود مرحلة استعادة الدولة وهيبتها، وبناء الجمهورية الجديدة، المرتكزة على التنمية والاستقلال والكرامة الوطنية.

وهكذا، أصبح عبدالناصر رمزًا خالدًا لثورة يوليو، والسيسى رمزًا مضيئًا لثورة يونيو؛ وكأن بينهما خيطًًا ممتدًا من الوطنية الخالصة، والإيمان العميق بإرادة الشعب، والتصدى لمشاريع الهيمنة أو التفتيت.. لقد جسّد كل منهما روح الثورة فى زمنه، وصنع تحولًا حاسمًا فى مسار الدولة المصرية.

لذا، فإن الثورتين ليستا لحظتين منفصلتين فى التاريخ، بل تمثلان مسارًا واحدًا متصلًاً من الكفاح الوطنى، تؤكدان أن المصريين لا يسمحون بانهيار دولتهم أبدًا، وأنهم فى كل منعطف حاسم، يصنعون التاريخ بإرادتهم، ويقدمون للعالم نموذجًا فريدًا فى الصمود والإنقاذ والبناء.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة