رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

هل بقيت أسرار لحرب أكتوبر لم تُعلن بعد؟!


3-10-2025 | 17:20

.

طباعة
حوار: حمدى لطفى عدسة: شوقى مصطفى

هل بقيت أسرار لحرب أكتوبر لم تُعلن بعد؟! سؤال هام قد يخطر على ذهن المرء إذا قرأ هذه الأيام تحقيقاً عن الحرب بعد 17 سنة من وقوعها!

والإجابة: نعم، بكل تأكيد ستظل حرب أكتوبر 1973 تفيض بأسرار معاركها الحربية، أسرار جديدة أقرب إلى المفاجآت لسنوات قادمة، وقصص الرجال الذين قادوا تلك المعارك أو خططوا لها فى القاهرة، والذين خاضوها فى غرب القناة حتى عمق سيناء.

ثم اختفى بعضهم بعيداً عن الأضواء - رغم ما حققوه من أعمال بطولية - وبرز آخرون فوق المسرح السياسى أو العسكرى للدولة!

أكتب اليوم – ونحن نقترب من 6 أكتوبر 1990 – عن أحد قادة حرب أكتوبر الرمضانية الماجدة عام 1973، قام بأخطر الأدوار فيما قبل الحرب، بل منذ 12 يونيو 1967، بعد نتائج حرب يونيو بيوم واحد، وكان أداؤه مع رجاله فى الإعداد لحرب أكتوبر أعظم ما يمكن أن يعطيه العقل البشري، أثناء الحرب سجلت تشكيلاته القتالية صفحات فخار وشرف، واستمر فى موقعه القيادى سبعة شهور بعد الحرب والنصر.

ثم ابتعد خلف ستائر الصمت والنسيان، ورحل بعيداً عن الوطن.. وأخيراً عاد ليلتقى بالرئيس حسنى مبارك، ويعود الحديث بين رفاق الحرب، وتتجدد الذكريات.

محدثى هو المهندس لواء جمال محمد على قائد سلاح المهندسين فى حرب أكتوبر والذى توصل وقادة إدارة المهندسين إلى معادلة عسكرية هى التى قرر الالتزام بها تدريباً لتشكيلاته، وامتلاكاً للمعدات اللازمة، وقد قام بتلقينها لمعاونيه وقادة الكتائب الهندسية، لتصبح دستوراً يحكم دورهم فى الحرب وهو افتتاحية الهجوم وامتلاك المفاجأة التى بهرت العالم قبل 17 سنة.

يروى لى ضيفنا مسار أخطر سنوات القوات المسلحة المصرية، إعادة لبنائها العسكرى بعد أسابيع قليلة من يونيو الأسود، حيث عاش المقاتلون المصريون ستة أعوام من الأحداث الجسام والأعمال العظيمة اشتملت على حجم كبير من الشهداء بين المهندسين العسكريين، والمدنيين والتضحيات والبطولات والنماذج المصرية المشرفة للعمل الصامت الدءوب، بعيداً عن أضواء الإعلام والصحف، وكانت البداية فى أوائل يوليو 1967، وبناء دشم الطائرات بتصميم مصرى مائة فى المائة، ربما تستغرق كتابتها عدة سطور أو كلمات، ولكنها استوعبت جهداً وعملاً يعادلان بناء السد العالي، بعد أن أثبتت حرب يونيو 1967، أن المعركة القادمة (معركة طائرات) فى الدرجة الأولي، ولا بد من بناء الدشم التى تحمى طائراتنا من القصف وهى فوق سطح الأرض كما حدث صباح 5 يونيو، وأخذنا نصل الليل بالنهار لارتباط بناء الدشم بجدول زمنى محدد، كما ظل تشجيع الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض – رئيس الأركان – لنا حافزاً لمقاتلى المهندسين، وما كان أكثر شهدائنا تلك الأيام، دون أن تنخفض الروح المعنوية للضباط والجنود.

قواعد الصواريخ

لاذ شيخ المهندسين العسكريين اللواء جمال محمد على بالصمت قليلاً وكأنه يسترجع ذكريات 69 سنة هى حصيلة عمره، ثم عاد يروي:

وقبل أن ننتهى من بناء المطارات الحربية الجديدة ودشم الطائرات، شرعنا فى إقامة قواعد الصواريخ لقوات الدفاع الجوى بداية بعام 1969، وبجوار كل موقع عدة صناديق خشبية لحمل أجساد شهداء السلاح من الضباط والجنود، وعمال القطاع العام الذين شاركونا العمل، والتضحية بالروح تتصاعد كل يوم تحت غارات الطيران الإسرائيلى دون انقطاع على الإطلاق!

وفى ذات الوقت أيضاً كانت هناك عمليات إغارة مفاجئة على قوات العدو فى الضفة الشرقية للقناة – تقوم بها جماعات الكوماندوز من القوات الخاصة المصرية، ويتحتم ضم عناصر من ضباط المهندسين معهم لفتح الثغرات فى حقول ألغام زرعها العدو، أو تلغيم الطرق التى تسلكها دبابات ومدرعات العدو داخل سيناء وتحزيم حصون بارليف بالمواد الناسفة، ومن المثير أن تعلم أن بدء تنفيذ هذه الغارات جاء فى نهاية 1967، وظلت تتم فى سرية تامة دون أن نعلن عنها حتى أوائل 1969، ومن بين شهداء هذه الإغارات من أبطالنا المجهولين، كان للمهندسين شهداء من أصحاب البطولات التى لم تذع حتى الآن.

اسمح لى بسؤال: لماذا لم يعلن عن هذه الإغارات المصرية على مواقع العدو الإسرائيلى فى سيناء وخاصة أنها بدأت كما تقول فى نهاية 1967، والجماهير المصرية متعطشة لسماع أى أنباء تعيد لها الثقة فى ضرورة استرداد سيناء وفى عودة المقاتل المصرى لقتال القوات الإسرائيلية التى احتلت الأرض المصرية.. لماذا التعتيم على هذه الأعمال البطولية فى رأيك؟!

رأيى كقائد للمهندسين أن الهدف من هذه الإغارات كان يتضمن عدة اعتبارات:

أولاً: جمع المعلومات الدقيقة عن قوات العدو داخل سيناء

ثانياً: تدريب المقاتل المصرى على القتال داخل سيناء رغم احتلال العدو لها

ثالثاً: كان هناك إحساس لدى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بأن الإعلان عن مهام الإغارات المصرية ضد العدو الإسرائيلى ثم عودة التشكيل المصرى الذى قام بالإغارة إلى غرب القناة – سيصنع ردود فعل عكسية بين الجماهير المصرية التى كانت تتوقع هجوماً شاملاً قبل نهاية 1967، ثم بقاء القوات المصرية بعد القتال داخل سيناء وليس العودة لغرب القناة مرة أخرى!

وأعتقد أن عدم إذاعة مصر لأنباء هذه الإغارات التى استمرت فى طى الكتمان حتى نهاية عام 1968، جعل إسرائيل تمتنع عن إذاعتها هى الأخرى، حماية لمعنويات بقية تشكيلاتها العسكرية التى لم تتعرض للإغارات المصرية!

وأذكر أن بعض جنودنا عادوا بمنشورات وجدوها داخل إحدى الدشم الإسرائيلية التى تدمرت بواسطة هؤلاء الجنود، منشورات باللغة العبرية وبتوقيع حاخامات إسرائيل يناشدون جنودهم الصمود أمام الهجمات المصرية، دفاعاً عن أرض أجدادهم التى استردوها – ويقصدون بها سيناء – ويحدثونهم عن أخطار الخوف من المصريين وما يجره عليهم من هزائم!

سرية المشروعات

عدت أستأذن شيخ المهندسين العسكريين فى العودة بالحديث إلى أشكال التعاون بين أعضاء القيادة العامة، وما أصاب بعضها من فجوات تركت تأثيراً فى فترات معينة على النشاط الهندسى العسكرى المصري.

وحاول اللواء جمال محمد على الاعتذار عن عدم الإجابة، وأمام إلحاحى بحثاً عن الحقائق التى لن يبقى غيرها للتاريخ، تكلم الرجل:

البداية تعود إلى فترة إعادة بناء القوات المسلحة المصرية منذ يوليو 1967، وإسناد وزارة الدفاع للفريق أول محمد فوزي، ورئاسة الأركان للشهيد الفريق عبدالمنعم رياض، كما تولى اللواء أحمد إسماعيل قيادة الجيش بغرب القناة وتوليت قيادة إدارة المهندسين فى ذات الوقت، وشرعت مع رجالى فى بناء الدشم للطائرات، دشم صواريخ الدفاع الجوي، وبناء مطارات جديدة فى أنحاء الوطن بأسلوب حديث كدرس مستفاد من حرب يونيو 1967 ولضخامة حجم تلك المهام الإنشائية – اقترحت على الفريق الشهيد عبدالمنعم رياض رئيس الأركان الاستعانة بشركات القطاع العام، وكنت واثقاً أن إدارة المهندسين أو إدارة الأشغال العسكرية غير قادرين على الوفاء بالخطة المسندة إلينا فى توقيتات محددة، واقتنع الفريق رياض باقتراحي.. غير أننى فوجئت بمعارضة من بعض القيادات العسكرية بحجة حماية سرية هذه المشروعات.. ولم يكن التعامل مع القطاع العام – قطاع البناء والطرق - شيئاً طبيعياً كما نراه الآن عام 1990، وقد رآه هؤلاء القادة عام 1968، اقتراحاً جريئاً لم تقم به القوات المسلحة من قبل!

ووقفت فى وجه الرفض، وأكدت حاجتنا الشديدة لمعونة شركات القطاع العام، ونحن نسابق الزمن، كما أن عدم الأخذ باقتراحى سيلحق العجز بانطلاقة فروع سلاح المهندسين فى أداء المهام الكبرى المسندة إليهم!

ولا بد من تنفيذها دون إبطاء فى توقيتات محددة!

ومضينا نعمل، وأمام الإنجازات المتتالية التى قام بها المهندسون العسكريون المصريون، قرر الفريق عبدالمنعم رياض ترقيتى إلى رتبة اللواء فى أول يناير 1969، ترقية استثنائية مبكرة عن موعدها القانوني، وصدق عليها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

ولكن هذه الترقية أثارت البعض ضدي.. خاصة بعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض فى 9 مارس 1969، وتولى اللواء أحمد إسماعيل رئاسة الأركان!

ومضت شهور قليلة أقيل فى نهايتها اللواء أحمد إسماعيل بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر – الذى رأى أن رئيس الأركان مسئول بقراراته عن استيلاء العدو على محطة رادار مصرى بمنطقة البحر الأحمر.. وتولى الفريق محمد أحمد صادق رئاسة الأركان.. ثم تصاعدت الأحداث بوفاة عبدالناصر ومجيء الرئيس أنور السادات.. والقبض على الفريق أول محمد فوزي، وإسناد منصب وزير الدفاع للفريق أول صادق ثم إقالته وعودة الفريق أول أحمد إسماعيل وزيراً للدفاع.

وكان اللواء جمال محمد على قد ذكر لى فى ديسمبر 1972 أنه عرض على وزير الدفاع تقديم استقالته فرفض القائد العام، وأعرب عن رغبته فى التعاون معه، مؤكداً على دخولنا الحرب قريباً جداً، وحاجة مصر لجهد الرجال الأوفياء القادرين على تحقيق النصر.

ومنذ نوفمبر 1972، اتصل النهار بالليل لدى ضباط وجنود القوات المسلحة المصرية، ودارت العجلة وتصاعد الإيقاع لدى كل الأسلحة البرية والجوية والبحرية فى أنحاء الوطن.

عقول الرجال

كنا – كمهندسين – قد أعددنا فى نهاية 1972 الدراسة العسكرية العلمية التى قامت عليها الخطة الشاملة لحرب أكتوبر 1973 وهذه الدراسة خلاصة بحوث طويلة فى الظواهر الطبيعية لمنطقة القناة وسيناء على مدار كل شهور السنة، ثم الحالة الجومائية، والمد والجذر لمياه القناة، خلال كل أسبوع من شهور العام، ثم حركة الرمال وحركة القمر فوق منطقة القناة، وفوق سيناء، خلال أيام السنة، كما حددنا بعد جهد استغرق طوال عام 1972، أىُّ الأيام أفضل فى كل شهر من شهور السنة بأكملها، يصلح لبدء الهجوم وعبور القناة وتحرير سيناء.

هذه الكراسة العلمية، عصارة عقول الرجال من مقاتلى المهندسين التى قدمناها لرئيس الأركان الفريق سعد الشاذلى ومساعده اللواء عبدالغنى الجمسي، وأعاد الجمسى كتابتها بخطه فوق كشكول مدرسي، وقدمها للمشير أحمد إسماعيل، الذى عرضها بدوره على السادات، فعرف السادات بعد ساعات مصدر المعلومات التى أوردها الجمسى فى كشكوله المدرسي، بحجة تأمين ذلك العمل من التداول بين الضباط إذا كتبوها على الآلة الكاتبة، كما تحمس السادات لإدارة المهندسين وقائدها وأعلن ذلك أمام الجميع.

وفى بداية عام 1973، دخلنا مرحلة العد التنازلى لبدء الحرب – ولم يعدم بعض ضباط القيادة وسيلة للتشكيك فى اقتراحاتنا أو طلباتنا، وما نتقدم به من نتائج اختبارات لإنجازاتنا، وحرصت من جانبى كما حرص زملائى من المهندسين كبار وصغار الضباط على تجاوز تلك المعوقات إلى أن طرح ذلك الاقتراح بعبور طليعة للقوات المسلحة المصرية – فرق المشاة – عن طريق تسلق الساتر الترابى بسلالم الحبال حتى يكون المهندسون قد أقاموا كبارى العبور، وأجروا الفتحات بالساتر الترابى خلال 72 ساعة كما تخيل أصحاب هذا الاقتراح، الذى لقى تعاطفاً من جانب القائد العام، وبينما كنا نطالب بما بين 7 و9 ساعات فقط كما تعهدنا من قبل لهذه المهام الموكلة لمقاتلى المهندسين.. ومعنى الأخذ بذلك الاتجاه المضاد لنا – حرمان سلاح المهندسين من المساهمة الرئيسية فى تحقيق المفاجأة المصرية الاستراتيجية.. ومن هنا قاومنا دفاعاً عن جهدنا.. ونجحنا فى النهاية فى إقناع القيادة العامة بمخططنا.. غير أننا كنا نواجه بعض العقبات فى الحصول على الاعتمادات المالية اللازمة لمشروعاتنا العاجلة، وذلك بأسلوب التأجيل أو خفض ما تقرر لنا من اعتمادات مالية!

ومن المهم أن أذكر لك أن عدم حصول إدارة المهندسين على كامل ميزانيتها اللازمة لشراء المعدات – دون تفسير مقنع – كاد يحرمنا من الحصول على طلمبات المياه التوربينية التى اهتدينا إليها بعد طول بحث واختبارات عملية – وأقصد بها الطلمبات الألمانية النفاثة التى نجحت عملياً بين أيدى المهندسين المصريين أول أيام الحرب 6 أكتوبر – ولولا جهود مستميتة وإصرار شديد من جانبى لدى رئيس الأركان والقائد العام لما حصلنا على بعض وليس كل ثمن هذه الطلمبات!

وقد يدهشك أن تعلم أن عدداً من هذه الطلمبات – الدفعة الأخيرة – وصلت إلينا يوم 20 أكتوبر 1973، بعد الحرب!

عدت أقول: هل تروى لى القصة بمزيد من التفاصيل؟

كان الساتر الترابى الإسرائيلى الذى أقيم لحماية حصون بارليف الثانية – وضعْ خطاً تحت كلمة الثانية – تلك التى دمرناها فى حرب أكتوبر 1973، وهى غير حصون بارليف التى دمرنا أكثرها خلال حرب الاستنزاف، ما بين 69 – 1970 – وعادت إسرائيل لبنائها مرة أخرى استغلالاً لقرار وقف إطلاق النيران ما بين 8 أغسطس 1970 و6 أكتوبر 1973 – وعمل العدو على إقامة الساتر الترابى أمامها حيث وصل الارتفاع إلى ما بين 21 و32 متراً مع نهاية عام 1972 وبداية العد التنازلى لخوض الحرب، وحتى نتعامل بأسلوب صحيح مع هذا الساتر، أقمنا ساتراً ترابياً مصرياً على فرع دمياط بالقناطر الخيرية وعلى مجرى مائى بعرض مائتى متر.. وهو عرض مماثل لعرض قناة السويس.. مع التدبيش اللازم، وأخذنا فى إجراء تجارب هدم ذلك الساتر. استخدمنا المفرقعات والمواد الناسفة، والمدفعية 130 ملي، والهاونات 240 ملي، وقنابل ممرات الطائرات، وأسلحة الضرب المباشر بالصواريخ.. ولم تفلح تجربة واحدة، وكنا نعيد بناء الساتر من جديد، بعد كل اختبار ميداني، حتى بلغت الاختبارات – 322 – اختباراً عملياً، ثم اهتدينا إلى أسلوب التجريف وكنت قد عملت لمدة شهر فى بناء السد العالي، وشاهدتهم ينقلون خمسة ملايين متر مكعب من الرمال إلى جسم السد بطريقة التجريف وهو أسلوب سوفييتى الأصل للحقيقة والتاريخ!

استخدم السوفييت طلمبات كهربائية – قوة خمسمائة متر مكعب ساعة، لدفع الرمال المخلوطة بالمياه إلى أحواض ترسيب، تم تركها للشمس الأسوانية حتى تتبخر المياه.

الجندى المجهول

هامش من المحرر: عدت إلى أوراقى الصحفية الخاصة لأنقل منها سطور هذا الهامش من الجندى المجهول البطل الشهيد لواء مهندس جلال سرى مدير إدارة المهندسين بالقوات المسلحة المصرية ما بين 1977 حتى أول إبريل 1981.

كان العقيد جلال يعمل بين مهندسى الجيش الثانى الميدانى ما بين 68 ونهاية عام 1970، ثم نقل إلى رئاسة عمليات سلاح المهندسين، وفى عام 1972 قام مع عدد كبير من زملائه تحت إشراف اللواء جمال محمد علي، بتجربة استخدام طلمبات المياه التوربينية روسية الصنع فى هدم الساتر الترابي، ونجحت التجربة أو المبادرة التى قام بها المهندس سرى غير أن وزن الطلمبة السوفييتية الذى يبلغ خمسة أطنان – احتاج إلى محطة توليد كهرباء لإدارتها لإجراء ستين فتحة فى الساتر الترابى الإسرائيلى بطول الساتر، وعرضها يسمح بمرور دبابة فقام بتجربة طلمبات إنجليزية، خفيفة الوزن فعلاً ويمكن للفرد حملها، لكنها لم تعط أكثر من مائة متر مكعب من المياه فى الساعة، فأخذ يبحث عن طلمبات أخرى!.

وكانت مبادرة البطل جلال سرى خلف الوصول إلى الطلمبات الألمانية، وبقى الرجل جندياً مجهولاً، وبعد توليه قيادة السلاح حصلت على إذن خاص من الفريق أول كمال حسن على وزير الدفاع بالكتابة عن سلاح المهندسين والدور الذى قام به الشهيد مهندس جلال سرى – وقد نشرت القصة بمجلة المصور يوم 20 يوليو عام 1979.

ومات البطل أحد أصحاب فكرة ضخ المياه بالطلمبات النفاثة لهدم الساتر الترابى الإسرائيلى فى حادث سقوط طائرة المشير أحمد بدوي، يوم 31 مارس عام 1981 – بالصحراء الغربية – واستشهد معه 13 قائداً مصرياً.

والشهيد جلال سرى من مواليد مايو 1925، وبدأ خدمته العسكرية عام 1950، وشارك بالعمل الفدائى الوطنى ضد الاحتلال البريطانى لمنطقة القناة فى نهاية 1951، وعام 1953 تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

قلت هذه المعلومات للواء مهندس جمال محمد على فصدق عليها، واسترسل يستكمل قصة طلمبات المياه التوربينية..

تجاربنا فى وردان والخطاطبة

استطرد شيخ المهندسين العسكريين قائلاً:

عندما اعتمدنا أسلوب التجريف فى هدم الساتر الترابى – اتصلت بصديقى وزير السد العالى صدقى سليمان – وهو ضابط مهندس قديم، فأعد لنا مجموعة معدات روسية متقدمة الصنع وعدداً من الطلمبات الكهربائية، وأخذنا نقوم باختبارها على ترعة وردان فى منطقة القناطر الخيرية – ثم تأكدنا من عدم فعالية هذه الطلمبات لكبر حجمها فجربنا أنواعاً إنجليزية صغيرة الحجم، إلا أنها كانت ضعيفة الأداء أمام الساتر الترابى العملاق الأشبه بالجبل.. غير أن هذه التجارب الفاشلة أعطتنا المعادلة التى أثارت بعض القادة من زملائى فى القيادة العامة، وهى المعادلة التى حتمت أمامنا فترة زمنية محددة – موحدة – لإرساء كبارى العبور وإجراء الفتحات فى الساتر الترابي، ولذلك قمنا فى وقت واحد بالتجارب فى الساتر مع تجارب إرساء الكبارى التى أقمناها على الرياح البحيرى والناصرى عند منطقة الخطاطبة بالبحيرة، وهى مهام تدريب لها أهميتها، تدريب استخدام مقاتلى المشاة الميكانيكية والدبابات لكبارى العبور حتى تحين ساعة الصفر، دون أن تبقى دبابة واحدة أو عربة صواريخ كما ذكرت من قبل فوق الكوبرى فى انتظار فتحة الساتر لتدخل إلى الشرق. ولقد وصلنا فى تجاربنا إلى تحديد 5 ساعات يمكن أن تمتد إلى 9 ساعات لإقامة الكوبرى وإجراء الفتحة، وفى أسوأ الظروف والمفاجآت لا تزيد هذه الساعات على 24 ساعة فقط كحد أقصي!.

وفى ذات الوقت كنا قد قررنا الاعتماد على الطلمبات الألمانية النفاثة – اهتديت إليها من خلال زياراتى للخارج بحثاً عن الوسيلة الصالحة لنا – وكنت قد عملت فترة بألمانيا، ودرست بعض قطاعات الصناعات بها، ووجدت الطلمبة الألمانية التوربينية تزن 205 كيلو جرامات وقوتها مائة حصان، بينما القارب لدينا الذى سينقلها من الضفة الغربية للشرقية يستطيع حمل 1500 كيلو جرام، وبعد تجربتها فى مصر، والتأكد من أنها الطلمبة المناسبة تعاقدنا على الكمية اللازمة فى نوفمبر 1972، بحيث تصل إلينا على دفعات متصلة حتى بداية سبتمبر 1973.

وعدت إلى القاهرة – وفوجئت ببعض العراقيل أمامى ولم أحصل على ثمن الطلمبات بسهولة، بل بصعوبة – وكأننى سأشترى أدوات ترفيه – وحصلنا على الاعتماد المطلوب بأسلوب القطاعى، مما دفع المؤسسة الألمانية لبيع الطلمبات المخصصة لنا لجهات أخرى واضطررت للسفر إلى ألمانيا فى فبراير 1973 – بجواز سفر مدنى كمهندس بالسد العالى – محاولاً القضاء على تلك المشكلة التى لم نكن نتوقعها على الإطلاق وسددنا المبالغ المطلوبة منا، وبدأت بقية الطلمبات تصل إلينا فى حدود 15 حتى 20 طلمبة كل شهر ابتداء من مارس 1973.

والمثير فى الأمر أن بعض هذه الطلمبات وصل إلينا بعد الحرب بأسبوعين نتيجة تأخرنا فى السداد حسب التعاقد معهم!

كانت الطلمبات فى حاجة لإعادة الملء بالوقود ثلاث مرات كل ساعة، أى مرة كل عشرين دقيقة، وساعدنا مهندسو إدارة الوقود بالقوات المسلحة المصرية الذين قدموا لنا أجهزة مصرية تلبى ذلك المطلب الفنى الشائك مع قوارب خاصة بالوقود، فأعطت التجارب النهائية أحسن النتائج، وتنفسنا الصعداء.

أقرب إلى المعجزة!

يوم 6 أكتوبر 1973 شهدت مياه القناة 2500 قارب عبرت من الغرب للشرق لتحقق القوات المسلحة المصرية أكبر عملية عبور عسكرية فى تاريخ العالم وتجتاز أخطر مانع مائى بالشرق الأوسط.

صنع هذه القوارب عمال ورش إدارة المهندسين وعمال بعض المصانع الحربية المصرية.

واستطاع المهندسون فتح أول ثغرة فى الساتر الترابى الإسرائيلى قبل مرور 120 دقيقة من ساعة الصفر، وكان عملاً أقرب إلى المعجزة الهندسية.

استشهد قائد ألوية الكبارى بإدارة المهندسين – العميد أحمد حمدى يوم 14 أكتوبر 1973، وهو يسهم فى إصلاح أحد الكبارى التى تعرضت لقصف الطيران الإسرائيلي، أثناء الحرب وكان البطل أحمد حمدى يعمل بين جنوده.

بلغ عدد ضباط وجنود سلاح المهندسين الذين اشتركوا فى حرب أكتوبر خمسة عشر ألف مقاتل، قاموا بدورهم البطولى فى ثمانين وحدة هندسية.

نشر فى 5 أكتوبر 1990

 
 
 
 
 
 
 

الاكثر قراءة