تعد ملحمة أكتوبر 1973 من الحروب التى سيظل يتحدث عنها التاريخ ولن يتوقف مهما طالت الأزمنة، كونها ملحمة عسكرية متكاملة الأركان، إذ فرضت المعجزة المصرية نفسها على أحدث آلة عسكرية حينذاك، بدعم مباشر ممثل فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن رغم انحياز الغرب لإسرائيل، الذى سيظل يتصدر عناوين وسائل الإعلام الدولية، والأمريكية والإسرائيلية خاصة، كيف لجندى «مشاة» أن يقف أمام «إم / 60»، أحدث أنواع الدبابات الأمريكية الثقيلة وأقواها فى الميدان، بل مثلت هذه الدبابة العدو الأشهر والخصم الأخطر للجيوش كافة، ولكن جنديا مصريا لا يملك سوى مقذوفات بدائية سوفييتية الصنع يطلق عليها «RPG» انتصر وسحق أقوى دبابة بميدان المعارك فى ذلك التوقيت، ليس هذا فحسب، بل نُشِرَ وكُتِبَ وقِيلَ تخليدًا وتعليقًا على مهارة وإبداع جنود المشاة المصريين، حتى الاتحاد السوفييتى نفسه – مصدر الـ«آر بى جي»، اندهش من سلاحه الذى صنعه، وكيف برع الجندى المصرى فى استعماله.
اللواء أركان حرب د. محمد ثروت النصيرى، المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، وأحد الأبطال الذين خاضوا حربى 5 يونيو و 6 أكتوبر يتحدث فى الحوار التالى:
كيف بدأ الاستعداد لملحمة العبور.. وما دورك فى تلك الملحمة؟
لقد كانت حرب السادس من أكتوبر مثالًا حيًّا على العبقرية المصرية فى التخطيط وكفاءة التنفيذ، فقد ساهم تحقيق النصر فى إخراجنا من الظلام إلى النور، ومن الانكسار والألم والمرارة إلى العزة والكرامة والفخر، ليس للمصريين فقط بل للعرب جميعا، فتحية واجبة إلى الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل استرداد الأرض.. أنتمى إلى جيل عانى مرارة الهزيمة فى حرب يونيو 1967، وشاركت فيها كقائد فصيلة مُشاة برتبة ملازم، ثم تذوقت حلاوة النصر فى أكتوبر، وقبلها بحرب الاستنزاف.
وقد شاركت فى حرب 1973 كضابط برتبة النقيب ضمن سلاح المُشاة، كنت حينها قائد سرية، وشرفت بأننى كنت ضمن الموجات الأولى من القوات التى عبرت القناة فى الثانية و15 دقيقة ظهرًا، وكان تحت قيادتى 100 جندى، ومخصص لى 10 قوارب مطاطية، وتوقيت العبور لها كان فى الثانية والربع ظهرًا، وبالفعل قُمنا بالعبور وصولا إلى الشاطئ الشرقى لقناة السويس، وتسلق الجنود البواسل وهم يحملون عتادهم من السلاح والذخيرة والمدافع والتعيينات.. والجديد بالذكر هنا أننا كأفراد مُشاة عبرنا القناة واشتبكنا مع قوات العدو بدون الدبابات، وذلك لأن مدرعاتنا كانت تحتاج إلى إقامة رءوس كبارى على القناة ليعبروا فوقها إلى الضفة الشرقية، وهى ملحمة بطولية لم تحدث فى تاريخ العسكرية، كما أن أداء عناصر المقذوفات الموجهة المضادة للدبابات أظهرت احترافية كبيرة وبراعة فى الاستخدام، فقد استطاعت تلك الأطقم فى تدمير وتحييد عدد كبير جدا من قوات العدو المدرعة خلال الأيام الأولى من الحرب.
لكن أولًا، حدثنا كيف تم تحويل الهزيمة فى 1967 إلى انتصارات خلال 1973؟
تحقيق النصر لم يأتِ صدفة ولكن نتيجة عمل دءوب لمدة 6 سنوات متصلة تدربنا خلالها على كافة السيناريوهات اللازمة لتحويل الهزيمة إلى نصر ساحق، فكان لازمًا على القيادة المصرية الإسراع فى إعادة بناء قوات مسلحة قوية وقادرة، وهو ما حدث بعدما تم تعيين قادة من ذوى الخبرات العسكرية الكبيرة، أمثال الفريق أول محمد فوزى كقائد عام للقوات المسلحة، والفريق عبدالمنعم رياض رئيسًا للأركان، ليبدأ الجيش فصلًا جديدًا فى إعادة البناء، وذلك بعد دراسة الأسباب التى أدت لهزيمة يونيو 1967، واستخلاص الدروس المستفادة منها للعمل عليها استعدادا لخوض معركة التحرير.
وقد مرت عملية إعادة بناء القوات المسلحة بأربع مراحل رئيسية، وهى: الصمود والدفاع النشط والاستنزاف وصولا إلى الحرب واسترداد الأرض، وخلال تلك المراحل كنا جميعا كقوات نبذل الجهد والعرق فى التدريب، وبداخلنا يقين بأن اليوم الذى سيكسر فيه شوكة الإسرائيليين ونسترد فيه سيناء سيأتى لا محالة، وخلال تلك المراحل كان هناك العديد من البطولات، أبرزها معركة رأس العش التى نفذتها فصيلة صاعقة فى يوليو 1967 ضد القوات الإسرائيلية فى جزيرة رأس العش، حيث كان العدو يسعى للاقتراب من مدينة بورفؤاد، إلا أن رجال هذه الفصيلة خاضوا معركة شرسة وحالوا دون أن ينفذ العدو مهمته، وفى يوم 21 أكتوبر من العام نفسه تمكنت قواتنا البحرية من إغراق المدمرة إيلات درة التاج فى سلاح البحرية الإسرائيلية بواسطة 2 لانش صواريخ، وغيرها من البطولات التى كانت تلهب فى نفوسنا الحماس والفخر، وتضيف لثقتنا فى أنفسنا الكثير.
كونك أحد الأبطال الذين شاركوا فى الموجات الأولى للعبور.. كيف استطاعت القوات المصرية تحقيق المعجزة باقتحام خط بارليف؟
لقد كنا نتدرب بناء على رؤية القيادة العامة فى ذلك الوقت، وهى التدريب على اقتحام مانع قناة السويس بالقوارب المطاطية، وبالفعل كنا نتدرب فى مناطق مماثلة للمجرى الملاحى للقناة، وذلك تطبيقًا لمبدأ الواقعية فى التدريب، ثم التدريب على اقتحام وتسلق مانع خط بارليف والتعامل مع النقاط القوية للعدو، كل ذلك ساهم فى الارتقاء بالمستوى التدريبى للأفراد على عملية العبور.
وأذكر أننى كنت كل مرة أقتحم فيها المانع، كنت أتمنى أن تكون المرة التالية لى هى العبور الحقيقى، حتى نقاتل العدو ونسترد الأرض والكرامة، فكنا نتدرب يوميا طيلة 6 سنوات حتى وصل الجندى إلى مرحلة الاحترافية فى أداء المهام المكلف بها، وكان المتبقى فقط هو أن نعرف توقيت ساعة الصفر.. كذلك كان هناك تراشقات بيننا وبين القوات الإسرائيلية على الجانب الآخر، فكنا نريد إيصال رسالة إلى العدو، مفادها أن فترة تواجدك فى سيناء لن تطول.
عندما حانت ساعة الصفر، كيف كانت مشاعرك عندما تم إبلاغك بالتوقيت؟
كنا جميعا نشعر بالغيرة والغل كلما رأينا العدو الإسرائيلى وهو قاطن سيناء، كما أن الشعب المصرى كله كان ينتظر منا أن نخوض الحرب من أجل تحرير الأرض واستعادتها، فقد كنا على ثقة وإيمان بعقيدتنا، وهى إما النصر أو الشهادة، حيث كنا نقاتل حتى نحقق الانتصار على العدو المتغطرس أو نستشهد ونحن نقاتل، فلم يكن هناك احتمال آخر، وعندما تم إبلاغنا بتوقيت العبور، كنا نهتف جميعا: «الله أكبر»، وعلى الفور بدأنا فى تنفيذ ما تدربنا عليه، ولم يكسر صوت الصمت والتراب سوى أصوات محركات الطائرات المصرية، التى كانت تطير على ارتفاعات منخفضة للغاية، وكأنها كانت فوق رءوسنا مباشرة، ومعها ارتفعت تكبيرات الجنود، وكنت أقوم بعدّ الطائرات عندما عبرت وأتابع عودتها واطمأن قلبى عندما وجدت أنه نفس العدد الذى ذهب لدكّ حصون الاحتلال، وذلك لأن مدلول هذا أن الضربة الجوية نجحت وباغتت العدو دون أى مقاومة منه.
وفى توقيت متزامن، عبرت 5 فرق مُشاة قناة السويس عبر رءوس الكبارى، واشتبكنا مع جنود العدو المتحصّنين داخل خط بارليف، إلا أن تلك الحصون لم تكن بعيدة عن المقاتل المصرى، الذى فاجأ العدو بعبور القناة واجتياز خط بارليف المنيع، لدرجه أن هناك بعض القوات الإسرائيلية تركت حصونها هربًا من نيران الجنود المصريين، تاركين حصونهم كما هى إلى يومنا هذا، ليتحول الكثير منها إلى مزارات سياحية شاهدة على عظمة وبراعة المصريين وإصرارهم.
بعد مرور 52 عامًا على النصر، تخوض القوات المسلحة المصرية عددًا من التحديات الصعبة أيضًا، كيف ترى أوجه التشابه بين جيل أكتوبر والأجيال الحالية؟
الأجداد خاضوا حرب أكتوبر 1973، والأحفاد استكملوا المسيرة بكل شرف وبسالة، فقد كنا نخوض الحرب رغبة فى طرد الاحتلال الإسرائيلى وتطهير سيناء، والأجيال الحالية خاضوا حربًا ضارية ضد تنظيمات إرهابية متطرفة اتخذت من سيناء ملاذًا وجحورًا لها منذ أوقات الانفلات الأمنى فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
لكن الفارق أن حرب 1973 كانت المعركة بين جيشين، بينما المواجهة ضد الإرهاب كانت أمام عدو غير ظاهر وغير نظامى يتخفى بين المدنيين.. كما أن خبرة القتال فى أكتوبر كانت متوافرة لدى الأفراد والجنود والقادة والضباط، بينما خبرة القتال ضد العصابات وحرب المدن كانت القوات المصرية حديثة العهد بها، ولكن لم تيأس القوات المصرية وفلحت وانتصرت أيضًا، وقامت بتطهير سيناء من كافة العناصر الإجرامية، واقتلعت جذورهم وجففت منابع الإرهاب داخل الأراضى المصرية.
إذن.. ما السر وراء تميز أداء الجندى المصرى عبر كل العصور؟
الجندى المصرى، كما ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هو فى رباط إلى يوم الدين، لذلك أوصى الخلفاء بأن يتخذوا من أهلها الكثير من الجنود فهم خير أجناد الأرض، فقد أثبتت التجارب أن المقاتل المصرى عندما يحصل على جرعة تدريبية مناسبة مع تسليحه بآليات تناسب المهام المكلّف بها، يبدع فى أسلوب التنفيذ، وهو أمر جينى يتوارثه الأجيال منذ القدماء المصريين الذين ابتكروا العجلات الحربية حتى الأجيال الحالية، هذا بالإضافة إلى أنه قبل خوض حرب أكتوبر 1973 تم فتح باب التجنيد للشباب المصرى من حملة المؤهلات العليا، الأمر الذى أضاف قوة بشأن استيعاب التقنيات الحديثة التى تم تسليح القوات بها.. والنقطة الأهم أن الجندى المصرى دائمًا ما تكون لديه قناعة بعدالة القضية التى يحارب من أجلها، ففى العام 1973 كانت القضية عادلة، قضية أمة مصرية عربية تسعى لتطهير الأرض من الاحتلال، بينما فى الحرب على الإرهاب كانت القضية عادلة أيضًا، وهى حماية المصريين من ترويع العناصر الإرهابية، وعندما يقتنع الجندى بالقضية التى يحارب من أجلها فإنه سيقدم أفضل أداء خلال المعركة.
فى النهاية.. ما الرسالة التى ترغب أن توجهها إلى الشباب؟
أقول لهم إن الجيش المصرى استطاع أن يحقق الانتصار فى أكتوبر 1973 والحرب ضد الإرهاب لأنه أخذ بالأسباب، من حيث الإعداد الجيد والتدريب المركز على كل ما هو ضرورى للحرب، وصيحة «الله أكبر» زلزلت الأرض تحت أقدام العدو، وألقت فى قلوبهم الرعب، فيجب أن يعى الشباب المصرى أنه عند مواجهة أى عدو عليك التحلى بالقوة والجسارة والإصرار على إلحاق الهزيمة به وتحقيق الانتصار، كما يجب أن يتم ذكر قصص الشهداء الأبرار الذين ضحوا بحياتهم من أجل تحقيق أغلى الانتصارات فى تاريخ العسكرية المصرية والعربية والعالمية، وتم استرداد الأرض بالكامل، حتى يكونوا مثلًا أعلى وقدوة للأجيال الجديدة، واستُشهد هنا بمسلسل «الاختيار» الذى جسّد بطولة وتضحية أبطال الصاعقة والقوات المسلحة فى الحرب على الإرهاب بمنطقة شمال سيناء، وكيف تفاعل معه الصغير والكبير، لذلك يجب دائمًا الإكثار من تلك الأعمال الفنية التى تجسد قصص وبطولات الجيش المصرى، وما أكثرها!، ولا بدّ أن نستلهم روح أكتوبر فى كافة الأعمال، فلا بد أن يتحلى الشباب المصرى بالجدية والولاء والانتماء والتضحية وغرس قيم حب الوطن، مع ضرورة عدم الانسياق وراء ما يتم تداوله خلال منصات وسائل التواصل الاجتماعى المختلفة، التى أصبحت تغزو عقول الشباب وتملؤها بالعديد من الأفكار المضللة وغير الصحيحة، فيجب على الصغار أن ينظروا إلى ما يجرى حولهم فى كل دول المنطقة من تخريب واقتتال ودمار، فى الوقت الذى تنعم فيه الدولة المصرية بالأمن والأمان والاستقرار، لذلك يجب الاصطفاف خلف القيادة السياسية وحب الوطن من أجل تحقيق التنمية والرخاء.