شهدت القوات المسلحة المصرية طفرة تطوير غير مسبوقة خلال العقد الأخير، شملت عدة جوانب مهمة داخل تكوين المؤسسة العسكرية، فلم يقتصر التطوير على التسليح فقط أو حتى مجرد استقدام الآليات الحديثة من الخارج، بل تجاوز ذلك بكثير، ولعل حرب السادس من أكتوبر كانت خير مثال بشأن أهمية التطوير، كونه ضرورة ملحة للارتقاء بمستوى القدرات القتالية للقوات، بما يحقق درجة عالية من الاستعداد القتالى.. من خلال هذا التحقيق نتعرف على أبرز ملامح عملية التطوير للقوات المسلحة، ومحاورها مختلفة الأغراض والأهداف.
فى البداية، قال اللواء محمد الغبارى مدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق والخبير الاستراتيجى القدير، أن نصر أكتوبر 1973، أصبح منهجاً يعمل به فى مختلف المدارس العسكرية، وتحافظ القوات المسلحة المصرية عليه، وتعمل على تطويره وترسيخه من جيل إلى جيل، ومن الدروس المستفادة لهذا المنهج ضرورة الاعتماد على الذات فى تطوير جيشنا الوطني، بجانب الحفاظ على حجم كبير من الاحتياطيات، لذلك أقدمت القيادة السياسية على تطوير التسليح المصرى بدءاً من العام 2014، وعلى التوازى قامت القوات المسلحة ببناء عدد من القواعد العسكرية هنا وهناك، الأمر الذى يوفر التوزيع الاستراتيجى الأمثل للقوات المصرية، بما يضمن ردع التهديدات المحتملة من أى جهة.
ورأى “الغبارى” أن القوات المسلحة دائما ما تحرص على مراقبة التطوير ونتائجه، للوقوف على ما يناسب بناء الجيش المصرى بناء قوياً، وبالتالى نجد أن المؤسسة العسكرية الأكثر انضباطاً داخل الدولة المصرية، مشيراً إلى أن أن القوات المسلحة، قد شهدت على مدى العقد المنقضي، العديد من أعمال التطوير غير المسبوقة، تخطى كونها مجرد استيراد الأسلحة، لتصبح عملية إعادة هيكلة استراتيجية شاملة تهدف إلى تحويل الجيش لمؤسسة عصرية قادرة على مواجهة التحديات المعقدة فى ظل إقليم شرق أوسطى مضطرب، لافتاً إلى أن هذا التطور جاء نتيجة رؤية واضحة واستراتيجية طموحة تركز على تحقيق الاكتفاء الذاتى وتعزيز الردع الإقليمى وحماية الأمن القومى المصرى بكل أبعاده.
وأوضح اللواء الغبارى ان القيادة السياسية والعسكرية أدركت أن التحديات الجديدة، من الإرهاب العابر للحدود إلى النزاعات غير التقليدية والأطماع فى الثروات الطبيعية، تحتاج إلى أدوات عدة، ومن هنا، انطلقت رحلة التطوير لمحاور رئيسية متكاملة، مضيفاً أن المحور الأول يتمثل فى التحديث التقنى والكمى والنوعى للسلاح، حيث شهدت مصر صفقات تسليح ضخمة ومتنوعة، تسعى لتعزيز القوات الجوية بإضافة مقاتلات حديثة مثل الـRafale الفرنسية، إلى جانب أسطول قوي.
وشدد “الغباري” على أن أهم محطات التطوير تتمثل فى السعى المستمر نحو الوصول لمرحلة التصنيع المحلى ونقل التكنولوجيا الأحدث، الأمر الذى يساهم فى تقليل فاتورة الاستيراد، وكذا توفير نقد أجنبى للاقتصاد الوطني، وإنشاء كوادر هندسية وفنية عالية التدريب، سعياً لتحقيق درجة أكبر من الاستقلالية فى صنع القرار العسكري، أما المحور الثاني، فيتمثل فى تطوير العنصر البشرى نفسه، فالجندى المصرى، دائماً وأبداً، هو الركيزة الأساسية، لذلك تم تطوير نظم التدريب بشكل جذرى لمواكبة منظومات الأسلحة الحديثة، مع إدخال مناهج متقدمة فى العديد من المجالات كالحرب الإلكترونية، ومكافحة الإرهاب، والحرب غير النمطية، كما أولت القيادة العامة للقوات المسلحة اهتماماً كبيراً بالتعليم الأكاديمي، حيث تم تطوير المناهج فى الكليات العسكرية لتشمل علوماً مدنية وأخرى عسكرية والذكاء الاصطناعى وإدارة الأزمات، داخل الأكاديمية العسكرية المصرية، من أجل إعداد جيل جديد من القادة قادر على فهم تعقيدات ساحات القتال الحديثة.
وأشاد الخبير العسكري، بقيام القوات المسلحة - مؤخراً، بتوسيع نطاق التدريبات المشتركة مع جيوش دولية كبرى مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين ودول عربية شقيقة، والتى لم تكن مجرد مناورات عسكرية، بل فرصة حقيقية لتبادل الخبرات واختبار القدرات فى سيناريوهات مشابهة للواقع، وبناء لغة عسكرية مشتركة مع الحلفاء لعل آخرها التدريب المصرى الأمريكى المشترك «النجم الساطع».. ورأى «الغباري» أن المحور الثالث يتمثل فى قيام الجيش المصرى بالدور الاستراتيجى لخدمة الشأن الداخلي، وهو ما يظهر جلياً عبر المشروعات القومية العملاقة التى تشرف عليها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، من إنشاء الطرق والكبارى الجديدة مثل محور روض الفرج، إلى بناء المدن الجديدة وتطوير البنية التحتية، والمشاريع التى أسهمت بشكل مباشر فى تنمية الاقتصاد القومى وتوفير فرص العمل، بينما حافظت فى الوقت ذاته على لياقة وكفاءة المهندسين العسكريين، وحولتهم إلى قوة عمل منتجة فى وقت السلم، يمكن تحويلها بسرعة إلى قوة فاعلة لأى طارئ.
فى سياق متصل، أكد اللواء أركان حرب دكتور محمد الشهاوى رئيس أركان الحرب الكيميائية الأسبق وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية، أن القوات المسلحة تقوم بتعزيز قدراتها القتالية، بالإضافة إلى تنويع مصادر التسليح، حتى أصبح الجيش فى المرتبة الـ 12 عالمياً وفقاً لتقرير “جلوبال فاير باور”، بينما تأتى قواتنا البحرية فى المرتبة السادسة على مستوى العالم، أما قواتها الخاصة فهى فى الأولى عالمياً قبل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، مؤكداً أن التطوير داخل القوات المسلحة مستمر بجانب التوطين للصناعة العسكرية وتعميقها، فعندما تتعاقد القوات المسلحة على منظومات تسليح حديثة، يكون هناك شرط، مفاده أن يتم التصنيع المشترك على أرض مصر.
وأشار الشهاوى إلى أن الجيش المصرى دائما ما يسعى لمواكبة منظومات التسليح المتطورة من خلال التدريب المستمر للفرد المقاتل عبر إرسال البعثات للخارج، وقد نجد دولاً ذات ثقل عسكرى كبير ترغب فى تنفيذ تدريبات مشتركة مع مصر للاستفادة من خبرتها القتالية فى الحروب التقليدية وحروب مواجهة الإرهاب، وكان آخر هذا النوع من التدريبات هو التدريب المصرى الأمريكى المشترك النجم الساطع 2025 والذى أقيم بقاعدة محمد نجيب العسكرية فى الفترة من 28 أغسطس حتى 10 سبتمبر 2025 بمشاركة 43 دولة، الأمر الذى يؤكد على مدى قدرة وكفاءة إمكانيات القوات المسلحة المصرية، لافتاً إلى أن أعمال التصنيع المحلى وتوطين التكنولوجيا تحظى باهتمام كبير لتعزيز القدرات المصرية، وكذا الاستعداد القتالى العالي، مشيراً إلى أن العالم يشهد يومياً تقدما وتطورا فى التكنولوجيا، لاسيما العسكرية منها، وتتابع القاهرة بحرص هذا التطور فى مجال الحرب السيبرانية والمسيرات القتالية والمستخدمة فى أغراض الاستطلاع، بالإضافة إلى منظومة الرمال الحمراء المخصصة لإسقاط المسيرات أو الدرونز أو كافة أشكال الطائرات بدون طيار.
ورأى اللواء الشهاوى أنه كما المصريين فى عام 1973 بحرب أكتوبر المجيدة التى هدمت نظرية الأمن الإسرائيلى وكسرت ذراعهم الطولى وهزمت الجيش الذى لا يقهر، فالشباب المصرى أيضاً من القوات المسلحة هم الذين قاموا بتطهير سيناء من الإجرام والإرهابيين، وهم كذلك من يقومون بأعمال البناء والتنمية والعمران فى كل ربوع الوطن، مشدداً على أن تعزيز قدرات وكفاءة القوات المسلحة أمر ضرورى وحتمى، لأن القوة توفر الأمان والضعف دعوى للعدوان، فإذا أردت السلام فتأهب للحرب وهى مقولة قالها الملك تحتمس الثالث عام 1482 ق م أى منذ 3443 عاما، لذا تحرص القوات المسلحة دائما على الاستعداد القتالى العالى لردع كل من تسول له نفسه المساس بالأمن القومى المصرى والعربي.
وفى الإطار ذاته، أكد اللواء عادل العمدة، مستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، أن القوات المسلحة المصرية مؤسسة عريقة تتميز بوجود عدد كبير من العناصر والكيانات المتخصصة بداخلها، مثل هيئات التدريب والعمليات، والإدارات التخصصية كالمشاة والمدرعات والأفرع الرئيسية كالقوات الجوية والبحرية وغيرهم، مؤكداً على أن تقسيم القوات المسلحة يهيئ لها الظروف للاستمرارية والاستعداد والإعداد الجيد لكافة عناصرها، مشيراً إلى ان القوات المسلحة تسعى دائما للحفاظ على أعلى درجات الاستعداد القتالى والجاهزية لتحقيق النصر فى أى مواجهة مستقبلية على كافة الاتجاهات الاستراتيجية للدولة، لافتاً إلى أن منظومة التطوير داخل القوات المسلحة تشمل التدريب والتسليح والتوطين، فدائماً ما يرتقى الجيش المصرى بمستويات التدريب وفقا لأحدث ما توصلت إليه منظومات التدريب العالمية، وكذا تحرص على المشاركة الفعالة فى الفعاليات الدولية المختلفة وإقامة التدريبات المشتركة مع دولة مهمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بجانب الحرص على تنظيم المعارض الدولية المختلفة، خاصة المنظومات الدفاعية مثل معرض إيديكس، وذلك من أجل الاطلاع على أحدث ما وصلت إليه الترسانة العالمية للتسليح، وكذا عرض الصناعات العسكرية المصرية أمام دول العالم.
وأوضح “العمدة” أن كافة الأعمال التراكمية سابقة الذكر، شكلت مع بعضها بعضاً قوات مسلحة قوية مدربة على حفظ الأمن وحماية الإنجازات ورد كل من تسول له نفسه التعدى على أمنها القومي، مضيفا أن القوات المسلحة قائمة على منظومة متكاملة تستند على عقيدة قتالية ثابتة راسخة فى قناعات المقاتل المصرى وتخطيط جيد جدا لتدريب راقٍ يوفر الاستعداد القتالى العالى مع توفير كافة عناصر الكفاءة القتالية، مطالباً بالتدريب الجاد بلا انقطاع، والعمل والصبر ومعرفة كل الحقائق عن المعدة والسلاح باعتبارهما جزءًا من التكوين الشخصى والنفسى للفرد المقاتل، مع ضرورة الانتباه لأدوات العدو فى الغزو الفكرى والثقافي، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعى المختلفة.
وكشف اللواء عادل العمدة عن أبرز التحديات التى تواجه منظومة التطوير والتحديث داخل القوات المسلحة المصرية، هى السرية والكتمان، وهو تحدٍ يواجهه العالم أجمع وليس نحن فقط ، لذلك يلتزم الجيش المصرى دائما بتوخى أقصى درجات الحيطة والحذر من جهة، والعمل بأسلوب أن المعرفة على قدر الحاجة، وهو مبدأ أمنى فى الأصل، لذلك نجد أن كافة أنشطة وفعاليات القوات المسلحة تتم بما يتسق مع متطلبات الأمن، خاصة فى ظل تطور التكنولوجيا والتقنيات التى جعلت من العالم مكاناً مكشوفاً
مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، اختتم حديثه مطالباً كل مصرى من أبناء القوات المسلحة أن يتحلى بالقناعة والثقة الكاملة فى سلاحه ومعدته وقياداته لأن الغزو الفكرى والثقافي، هو التحدى الأبرز والأصعب حالياً، كونه تحدياً يهدد العقول، فالمقاتل هو الطرف الأهم فى المعادلة، والتسليح أصبح متوفراً ويمكن شراؤه من أى جهة، ولكن كيفية الاستخدام وتحليل النتائج والتدريب الجيد على الاستخدام، هو السبيل الأهم لتحقيق أبرز النتائج من استخدام السلاح، مضيفاً أن التدريب المستمر والمتفانى والمهارة فى استخدام السلاح وتطويعه لتحقيق المهمة فى إطار إعداد وصقل مهارات المقاتل المصري، تعد بمثابة الهدف الرئيسى لمصرنا جميعاً.