أخيرا المرأة فى منصب عمادة كلية الآداب، بجامعة القاهرة، وبعد مرور ما يقرب من 120 سنة على ولادة تخصصات الكلية أولا بالجامعة الأهلية، ثم بعد ما يقرب من قرن كامل على التحاق المرأة بكلية الآداب بالجامعة المصرية.. إنها د. نجلاء رأفت والتى ترأس الآن مجلس الكلية وتحمل رقم الـ33 فى كشف العمادة، إنها الأستاذة والمشرفة على كل الأقسام والإشراف هنا من التبجيل العلمى والأكاديمى كما يكتب فى صدر الرسائل الجامعية؛ لينير الإشراف قمة العطاء العلمى المتخصص.
دلفت إلى الداخل فوجدت خلية نحل تنتظرها فى مكتبها، وأثناء الانتظار حتى تنتهى من الاستماع وحل المشاكل وربما الأزمات، ومن كل صغيرة وكبيرة أخذت أتأمل لوحة شرف العمداء وجدت 32 عميدا رجلا قبلها، رغم أن أعداد الأساتذة بالكلية تميل إلى تصاعد عدد الأستاذات؟!
تأتى صورتها بجمال مصرى صميم وبوجهها المبتسم بالروح الشبابية، فهى من أوائل دفعة 1991 ولذلك تم تعيينها بقسم اللغات الشرقية، وحصلت على الدكتوراه عام 2002والرقم (33) لتكسر تابو «الهانم» الذى تغلفه الكلمة التى فى ظاهرها الاحترام وفى باطنها تقول الكلمة الكثير الذى ربما يحمل مضادا لمفهوم الأستاذية نفسها؟! ولتكون المفارقة بين مفهوم الهانم والذى من الواضح أنه ظل فى العقول يبعدها عن المناصب رغم يافطة ولوحة التأسيس والتبرع من الأميرة فاطمة التى تزين حرم مدخل كلية الآداب .
هكذا كنت أحدث نفسى بصوت عالٍ ربما سمعته، والتفت لها لأقول لها أخيرا خرجنا عن مفهوم الهانم أو الهوانم (الخانوم)، وهو تعبير تركى للتفخيم والتبجيل، ولكن لسيدات المنزل من الارستقراطية العليا، وكثيرا ما توقفت عند إطلاقه للتعبير عن الحفاوة حتى لسيدات العلم والفكر رغم أنه ضمنيا يحمل معنى استعلاء ذكورى، وواضح، بل وربما يحمل استنكارا وضمنيا مفهوماً آخر وأن على المرأة حتى ولو عميدة، التذكير لها بوظيفة سيدة القصر أو البيت لا يهم جدارتها وعقلها حتى لو كانت أما لقبيلة من الأبناء والطلاب، ولكن المهم أن نكرس مفهوم الهانم وأنها تبتعد عن المناصب وربما العمل من أساسه؟! إنها بقايا أفكار عصر الاستعمار التركى للعقل، يغلفه التبجيل بلفظ الهانم أو الخانوم.
تجاوزت فى صمت عقلى لسردية التنميط وبقايا آثار الحرملك، راقبتها حتى جلست لنتحاور، حالة من الحسم البالغ وربما الصارم أيضا فى مواجهة التجاوزات أو المواقف الإدارية أو التعليمية والتدريسية وقلب عطوف على الطلاب والأجيال الجديدة وهو المهمة الأولى للتعليم الجامعى، وكان ذلك هو المدخل للحوار سألتها عن الأحلام فى المئوية الثانية وهل هناك مكان وأولوية للأجيال الجديدة الشابة به؟ فعرفت أن أحد أهم أحلامها التى -شبهتها بالمقدسة - وهو السعى إلى العمل على تطبيقها هو مساعدة شباب الباحثات والباحثين فى الحصول على مكان مستحق وأدوات من خلال دعم التعيينات الجديدة، للأوائل والمتفوقين، لاسيما فى تخصصات الآداب المختلفة، لأن تخصصات الآداب كما قلت لها لن ترحب بها الجامعات الخاصة والأهلية أو التعليم بمصروفات فهل سمعنا عن قسم لعلم الفلسفة أو الاجتماع بعدد كافٍ منهم؟!.
قالت إن دعم الأوائل فرض عين، بل وبجانب أنه واجب قانونى وحتمى، ولها وجهة نظر ليست تربوية فقط وإنما تعليمية مستقبلية فى- دعم تعيين الباحثين والأوائل وفقا للقانون والعمل على تمكينهم من الإعداد الأكاديمى الجيد واللازم - لأن فى ذلك الاتجاه وضرورته ثراء علميا والتجديد بالأفكار والعطاء البحثى من الأجيال الجديدة فى طرح قضايا وهموم عصرهم وللمستقبل، ولمنع انطفاء الروح الإبداعية والبحثية لدى الأوائل والمتفوقين، والتى ستكون فيما بعد المخزون الاستراتيجى أو مراكز التفكير للوطن فى مختلف التخصصات لاسيما وأن كلية الآداب تضم حوالى 17 قسماً وتخصصا أكاديميا ما بين العلوم الإنسانية مثل الفلسفة والاجتماع والتاريخ والجغرافيا والمكتبات أو اللغات بمختلف أنواعها القديم والحديث بدءا باللغة العربية ويجاورها كافة اللغات الأجنبية الأخرى، ومن داخل هذه الأقسام للغات جاء التحاق ودراسة د. نجلاء رأفت وتحديدا بتخصص اللغة العبرية الحديثة وآدابها.
هنا توقفت معها ليس فقط لأهمية التخصص فى وقتنا الراهن، وأن ندرس ونطلع على فكر ولغة الآخر خاصة ممن يمارسون الحرب وبشكل يومى ضد الشعب الفلسطينى، ولكن لنعرف كيف سيكون المستقبل معهم بما فى ذلك دراسة لتياراتهم الأدبية والشعرية والفنية بجانب تياراتهم السياسية وليست فقط الدينية، وهنا قالت إن خريج اللغات تحديدا لابد أن يطلع على الأحداث كلها سواء السياسية، وغيرها وربما كل يوم لأن فى ذلك ممارسة ولجزء من يوميات تخصصهم العلمى، ولهذا أتابع باستمرار نشرات الأخبار والتفاصيل والقضايا العالمية، وما ينشر هناك فى الصحافة والإعلام، فمهمة تخصص الدراسات الشرقية هى الاطلاع على إنتاج الحضارات والبلاد الأخرى، لذلك أنتجت د. نجلاء عدة دراسات أكاديمية وأخرجت عددا من الكتب منها المرأة اليهودية من خلال دراسة للأدب الذى يتم إنتاجه فى ذلك، وأيضا دراسة عن المرأة (الحريديم) فى الأدب، أى دراسة أوضاع المرأة من خلال تيارات التطرف، فتحليل الشخصيات من خلال الأدب قضية مهمة جدا لأن الأدب ليس فقط منتجا قصصيا خياليا، وإنما يحمل فى داخله أيضا تحليلا للمجتمع وواقعه بجانب ماضيه، فمثلا درست تكوين الشخصية والأسطورة والتى لا تقهر، وأنهم فوق الجميع أو شعب الله المختار والاستعلاء على الآخر أو الأغيار، ووجدت أن المرأة الحريديم مهمومة وتعانى من الاستعلاء بل أحيانا يوجد تشبيه بالرائحة العفنة، والجلد العطن بينما الرجل هو العطر. تشعب الحديث إلى قسم اللغات الشرقية فقالت إنه قسم هام للغاية ومن أوائل الأقسام التى أسست بالكلية، وندرس به اللغات الشرقية على شكل مثلث وهو الفارسية والتركية والعبرية وهى مكونات رئيسية للدراسة، وأصبحت هذه التخصصات مطلوبة للغاية فى سوق العمل الآن، وهناك طلب متزايد على الخريجين ولذلك نعمل على توعية الطلاب عند التحاقهم بالكلية لجذبهم للتخصص وإقامة حوارات وزيارات للجهات والشركات التى تحتاج خريجى القسم، تطرق حوارنا لأزمة النشر الدولى لتخصصات الكلية والمجلات العلمية المتخصصة فى العلوم الإنسانية لأنه من المعروف عالميا أن البحث فى العلوم الفكرية والإنسانية يتم باللغات المحلية لأنها تعكس واقع هذه المجتمعات، على عكس النشر فى العلوم التطبيقية التى هى فى أغلب دول العالم لها قواعد معروفة وشبه موحدة، بينما العلوم الإنسانية لها خصوصية، فقالت لذلك نسعى الآن لمزيد من الدعم والدخول لقوة أكثر عالم النشر الدولى بالعلوم الإنسانية، ونحاول أن نضع مجلة العلوم الإنسانية على خرائط العالم الأكاديمى، وذلك من خلال الاتفاق على معايير الأبحاث والنشر ثم الترجمة، وهذه نقطة بالغة الأهمية وهى ترجمة البحث الأكاديمى فى العلوم الإنسانية، ومن ثم تبادل هذه المعارف والبحوث دوليا، لذلك فالترجمة قضية مهمة للغاية وذات أولوية لنا بالكلية.
سألتها عن ضيف جديد دخل حياتنا بدون استئذان وهو الذكاء الاصطناعى والتعليم، فقالت إنه بالفعل سيصبح فرض عين كما هو التوصيف، لذلك نفكر به كثيرا الآن، وعن استخدام الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته فى العلوم الإنسانية، ودراسة أثر ذلك على العلاقات والتطور الاجتماعى، فالذكاء الاصطناعى لاسيما التوليد منه له آثار بعيدة المدى على الإنسان والمجتمعات. وأهمية دراسته وفق قواعد أصبح قضية هامة وملحة، وليست ترفا بحثيا لأن التأثير ليس فقط على العلوم التطبيقية والطب والهندسة. وإنما تأثيره الإنسانى عميق للغاية، ومن ثم على العلوم الإنسانية المتعلقة به فى عالمنا المعاصر، ولذلك بدأنا من هذا العام فى عقد وترتيب سلسلة من المؤتمرات الأكاديمية حول ذلك، بدأت بعقد مؤتمر حول الذكاء الاصطناعى ودراسة العلوم الإنسانية، ونعد الآن للمؤتمر الثانى فى العام القادم حول الرقمنة والعلوم الإنسانية، فالتقدم التكنولوجى ليس بعيدا عن العلوم الإنسانية لأن من أنتج هذا التقدم هو الإنسان، وبالتالى لابد من دراسات متعددة ومتعمقة فى هذه القضية الملحة وشباب الباحثين يملكون الرغبة فى مثل هذه الدراسات وعلينا أن نمكنهم بالأدوات اللازمة وبالحوار وفتح مجال المستقبل لهم لأنهم هم المستقبل فعلا بعيدا عن هيمنة مصطنعة، فالعلم الإنسانى رحب ويتسع لدخول العلم الحديث وأدواته وهو ما نعمل عليه الآن لربط الأجيال الجديدة بدراسة العلوم الإنسانية وفق مشاكل العصر وقضاياه. تركتها بعد حوار امتد وعلى وعد بلقاء آخر فى مؤتمرات الذكاء الاصطناعى. فالمعارف ليست جامدة وليس هناك الآن علم منفرد يحلق بمفرده فى فراغ السماء أو فى تراتبية تعطى لتخصص العلوم التطبيقية أهمية على دراسة الإنسان أو العلوم الإنسانية، تركتها بعد جلسة حوار طالت، وعقلى يقول مرحبا بالأستاذة وليست الهانم فقط فتلك لا تنفى هذه.